قد لا يبالغ المرء بالقول، إن ما تعيشه المنطقة
العربية من تحولات سياسية وثقافية وجيو-إستراتيجية أو ما يطلق عليه بـ "الربيع
العربي"،
وظهور آثار البلاغة القديمة للخطابات الشمولية المسيطرة
منذ عقود ماضية، وبصور شتى سواء في الأنظمة المتدهورة للاقتصاد والتشريع والتعليم والتربية
والفن وحتى للرياضة. قد ساهم، بشكل ما أو بآخر، إلى تزايد حاجة المكتبة العربية للاطلاع
على أهم النصوص الكلاسيكية في نظرية البلاغة الجديدة، خاصة مع تصاعد نسبة إقبال الباحثين
من الفتيات والفتيان نحو دراسة علوم اللغة والحِجاج والمنطق والبلاغة في اغلب المؤسسات
الأكاديمية والمختبرات العلمية.
وفي هذا الوقت تحديداً، يأتي مؤَلف (فلسفة الحِجاج البلاغي) لمؤسس نظرية
البلاغة الجديدة شاييم بيرلمان (1912-1984)، وواضع ركائز الخطاب ألحجاجي النقدي في
الفلسفة والقانون والعلوم الإنسانية من جانب؛ وفي السياسة والآداب والثقافة من جهة
أخرى، ليسدّ حاجة أساسية في المكتبة البلاغية والحِجاجية واللسانيّة والمنطقية العربية.
وقد تضمن الكتاب، الصادر حديثاً عن منشورات "عالم الكتب الحديث"- الأردن،
على ترجمة لمجموعة من النصوص الأساسية للفيلسوف بيرلمان. وهي نصوص تمّ نقلها للمرة
الأولى من اللغة الفرنسية إلى لغة الضاد. وقد تم ترجمتها من قبل الباحثة العراقية المختصة
في الدراسات الفلسفية والحِجاجية أنوار طاهر، وجرى انتقائها وتقديمها إلى القارئ العربي
المختص وغير المختص، لأنها تُعد –حسب رأيها ووفق رأي اغلب كبار الباحثين من الغربيين
المختصين في البلاغة والفلسفة- من بين المقالات المهمة والأساسية التي سعى فيها بيرلمان
إلى توضيح العلاقة المتداخلة والإشكالية بين البلاغة والحِجاج والفلسفة، هذه العلاقة
التي لطالما تم تغييبها وتحييدها عن البحث والكتابة والتحري في أصولها التي تمتد إلى
الحضارات اليونانية والرومانية القديمة
وقد افتتح كتاب (فلسفة الحِجاج البلاغي)، أستاذ اللسانيّات والمنطق والحِجاج
في كلية الآداب والعلوم الإنسانية – جامعة مولاي سليمان- المغرب الدكتور أبو بكر العزاوي
بمقدمة أوضحت أهمية الكتاب المتضمنة في المقالات المنتقاة بعناية تامة من قبل المترجمة
لغرض تقديم شروح وافية للقارئ العربي تتعلق بالمؤلف العمدة لبيرلمان في نظرية البلاغة
الجديدة "رسالة في الحِجاج"، وهذا ما دعا الدكتور العزاوي في مقدمته إلى
وصف كتاب (فلسفة الحِجاج البلاغي) بأنه يُعد "ملخص دقيق لمشروع بيرلمان برمته".
وتلتها فيما بعد، مقدمة تحليلية للمترجمة أنوار طاهر، سعت فيها إلى عرض تاريخ العلاقة
بين البلاغة والفلسفة من منظور المشهد العلمي لحياة بيرلمان وتطور مراحل تعليمه ودراسته
لمنطق أرسطو بمشاركة زميلته عالمة السوسيولوجيا البلجيكية لوسي اولبرخت- تيتكا
(1899-1987).
وقد اشتمل كل مقال من مقالات بيرلمان، على عرض تحليلي
لجينالوجيا خطابات العلوم المتمفصلة بين الصراع التاريخي الطويل بين كل من: الفلسفة
والبلاغة؛ أفلاطون والسفسطائية؛ الفلسفة والمنطق، والفلسفة والحِجاج. والإشارة إلى
ظاهرة العزل الممنهج بين الفلسفة وعلوم اللغة والمنطق والبلاغة وعلوم السوسيولوجيا
والسايكولوجيا، ونظريات القانون والتشريع والسياسة والطب وغيرها. هذا العزل المنهجي
كان من بين العوامل الرئيسية التي أدت إلى إنتاج خطابات شكلية وضعية متعالية ومنفصلة
عن الشؤون الإنسانية وواقع الحياة اليومية، في الوقت الذي كانت تعاني فيه أوروبا ويلات
الحربين العالميتين، وصعود الخطابات التوتاليتارية التي تسعى إلى إعلاء منطق الهوية
الشوفيني؛ وهيمنة الأحكام القيمية المشيدة مسبقاً؛ وإبادة الآخر المختلف؛ واستبعاد
الصوت المعارض. ومن ثمة، جرى القضاء على حرية الرأي والتعبير وعلى التعددية الثقافية.
من هنا، جاءت نظرية البلاغة الجديدة لشاييم ببرلمان،
بمثابة إعلان عن ضرورة القيام بمراجعة نقدية لمجمل التصورات اللغوية التي شكلت بنية
اللسان اليومي؛ والتحري عن مواضع التمثلات المشتركة والعامة حيث تستقر وتسكن دلالات
النظام المهيمن في الخطاب. وذلك من اجل المساهمة في بناء فلسفة البلاغة التعددية القائمة
على مبدأ البحث الحرّ ورفض حُجَّة السلطة التي لطالما عملت على استبعاد الآخر والمختلف
والمغاير ووضعهم تحت مقولات مطلقة ليتم تحييدهم عن الخطاب بوصفهم مجرد هامش ليس له
أدنى قيمة. فمع فلسفة الحِجاج البلاغي حسب
مقدمة الباحثة والمترجمة أنوار طاهر: "لم يعد في الإمكان لا النظر إلى المنطق
على الطريقة التقليدية بوصفه يعبر عن دراسة طرق التفكير بمعزل عن سياقاته التاريخية
واللسانية من الجهة الأولى، ولا إلى البلاغة على الطريقة القديمة أيضا أي بوصفها فن
الحديث بطريقة حسنة من الجهة الثانية. لأنها فلسفة تعبر، في واقع الأمر، عن نظرية تُعنى
بدراسة جميع أشكال الخطابات السائدة وبالتحري عن مواضع وحُجَج السلطة والقوة المتنفِذة
فيها، أي مجموعة الاكراهات –حسب تعبير رولان بارت– التي تتحول فيما بعد إلى وسائل إقناع
وتعبير حسب نظام الخطاب السائد، ولولا ذلك لما كانت البلاغة تمثل في العصور اليونانية
والرومانية القديمة مؤسسة اجتماعية في حد ذاتها، بعدما أضحت نفسها هي الصلة التي توحد
أشكال اللغة بين الجماعات أكثر بكثير من الروابط التي تعقدها الأيديولوجيات".