-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

متواليات الشعر بين الجرح والبوح في ديوان : "سُمْرٌ أزهار الربيع" محمد بودويك


نافذة شعرية أخرى مُشْرَعة على الضوء والهواء، ومنفتحة على البوح الذاتي، والعذاب الشخصي، وسلخ الواقع بتَبْيان أعطابه، وأَوْصَابه، وأدوائه، ومعوقات البناء
المحلوم به : البناء الديمقراطي، والعدالة الاجتماعية محليا وإقليميا، وعمقا أَمْصاريا عروبيا.
في كل تجربة شعرية : صوت شعري يقترح هيئة للكتابة مخصوصة، وآلة أسلوبية معينة تُمتطَى بحثًا في المجاز والدلالة. ولا فيصل في التجارب إياها، وبينها، وفي النوافذ التي تفتح وتغلق على قراءة واعية ولا واعية شعريا للواقع، لا فيصل فيما سوى الشعر منسوبا، ودرجة، ونوعا، وحضورا، وإضافة.
هكذا نرى إلى الشعر بوصفه لغة بلورية أو معتمة لكن عليا، ورفيعة، تُزَنِرُها الألوان، ويتلبسها التخييل، ويَتَشَرّبُها جُرْعةً جرعةً، نُسْغٌ أخضر مُهراق يسري في التضاعيف، والأوردة، والثنيات، فيمحضها ويمنحها الإخضلال والندواة، والشعاع الراقص في السمت والنعت والصفة. ولا يهم أن يكون الشعر لابسا إهاب الوزن، أو التفعيلة، أو النثر إن هي إلا أوجه مختلفة للمعنى والدلالة وهي تحضر أو تغيب بمقدار موصوف ضمن النسق العام الذي تنضفر به، وتصب فيه، و الذي اصطلح عليه بالنسق الإيقاعي. وهو النسق الذي يتقدم واضحا مكشوفا في حال الوزن الخليلي التقليدي المتوارث، ومواربا يأخذ من الوحدات الإيقاعية الخليلية المستسقاة من الشعرية الجاهلية والإسلامية والأموية، بنصيب معين ومحسوب، ومن الدفقة الشعورية، والإحساس الباطني الشخصي، والأنا الغنائية العميقة، بنصيب طَاغٍ، محاولا تفتيت جهامة السّمترية، وصلابة العمود، وصرامة الوحدات الصوتية الموسيقية المتعاودة، والمتعانقة والمتواترة، في حال النص التفعيلي كما لا يخفى.
ثم هو النسق الإيقاعي للنثر بما هو سيولة، واطراد، وحركية، وتسريد للغة، والصورة، والفكرة. إنه النسق الذي لا يزال الاختلاف حول حقيقته وَوَهْمِه قائما إلى حدود الآن.
على أننا ننتصر للأشكال، و الأنساق الإيقاعية الثلاثة إذا حضر فيها الشعر، مَاؤُهُ، وطلاوته، وعذوبته. وسما فيها البناء وتعشَّق وتبلرَّ، أو تغَبَشَّ بحسب أوفاق الذات المبدعة، والكتابة المُبتدعة والمختلقة. ففي ما نقرأ، ما نتصفح، يقودنا الذوق، والحدس، والحس، والعقل، وجماع الملكات والقدرات، والمقروءات السابقة إلى –أسرار الشعرية، وهي تتفتح أمام أعيننا، بُرْعُمًا بُرْعمًا، وورقا، ورقا، كما تتفتح أزهار اللوز على شجر اللوز في الصباحات الضبابية الرائقة، التي ترفل في حريرها ووردها، وزقزقاتها، قرى الفجر النائمة بين أذرع مساقط الرذاذ، وعيون الزرقة المتواثبة.
والعمل الشعري الذي نقدمه للمتلقين، عمل يندرج في أحد تلك الأنساق المذكورة إيقاعيا، نسق التفعيلة تحديدا، ومقتضيات النسق في الإبدال والتقليب، والمزج. لكن ما يعليه، ويُسْبِغُ عليه "كرامة" الشعر والإبتداع التي لا مناص منها، ولا محيد عنها في كل شعر يحترم نفسه ومتلقيه، هو اللغة، ومنسوب التخييل فيها، وانوجاد الفكر والدلالة في أعطافها وهما يتزيان بالشعر أي بالصورة، و التركيب المجازي، والاستعارة المتكثرة، والانزياح اللغوي العام.
وإذا كان العمل الشعري إياه، يتصل بنمط شعري في الكتابة، كما أسلفت، مطروق ومتداول، وموطوء، فإن خصيصته تكمن أساسا، في بناء أسلبته، وفي نجاح الشاعر وهو يقدم رأيه، وموقفه، وأَنَاهُ عبر لغة شفيفة، وفكرة مُشَخْصَنة تقول أمله والتياعه، كما تقول ابتهاجه، وفرحته في لحظات يسرقها الوعي من وسط أرتال من الأتراح والمواجع، والانكسارات التي يحفل بها الواقع المغربي والعربي، ويعج بها كون الإنسان.
ولا شك أن للشاعر أحمد بنونة، تَمَرَّسًا بكتابة الشعر، إذ راكم فيه تجربة شعرية معتبرة منذ السبعينات، ما قاد إلى الاختيار، والوعي بجمالية الكتابة، وفنية الإبداع، وميكانيزمات تطويرها وَفْقًًا لما يجري من حوالينا من تطور، وتقدم أو انتكاس .. وهو ما يبرز ناتئا، ويتجلى صافيا ومكشوفا في ثنايا عمله هذا.
فانطلاقا من العَنْوَنَات بما هي عتبات وشرفات على مجاهل وسراديب وقيعان النصوص الشعرية، نُلُفِي أنفسنا في حضرة الشعر. ولنا أن نسمي بعضها على سبيل التمثيل: "أدمى سمري ضجر الليل"،  و"شارد أفقي"، "وسحبت خلفي جروحي" و"الليل أدمى معطفه"، و"تأكسدت سنابك خيلي" و"غواية الربيع"، و"عذابي وعذوبتي أنت"، و"أزهار النسيان" إلخ، بل إن بعض التشقيقات والاقتراحات التصويرية تحسب للشاعر إذ هي ثمرات كد وجهد، وصبر، واستنطاق للغة، ومراودة لها.
ومنذ "خمس ليالٍ لم تنشر لشهرزاد"، -وهو عمل شعري جميل وذكي- أرسى أحمد بنونة قدمه في تربة الشعر، بل جعل منها قدما راسخة نَمَّتْ على اكتواء بالشعر، واحتراق بلذاذاته. فاللذة تحرق، وتؤلم، وتوجع عميقا حتى لا فكاك إلا بصبها في قارورة السحر، والخيمياء العجيبة التي تحول اللغة العامة والمعممة إلى لغة خاصة ومخْصوصه، موقوفة على صاحبها الذي سهر الليالي ذوات العدد، وهو يتودد إليها، ويتقرب منها، ويفرح ثم يَأْسى لشاردة أميرة، وصورة عجيبة، وفتح لغوي فجائي، يزور ويختفي، يطل هنيهة، ويتوارى كما يتوارى وجه صبوح فاتن وراء خمار داكن شديد السواد، ومستفز :
-أسير
طريقي شظايا بروق
أنارت ظنوني
خطاي صدى وقع شَكِّي
أدارت عيوني.
كما أن طفولة الشاعر تشقشق في شجر الكلام، وتزهر صورا، وبوحا عذبا، وهي تستحضر "صفرو": فاكهة المغرب التاريخية الأسطورية، من خلال مائها السلسبيل، وعيونها المترعة زهوا وانتشاء وبرودة في صهد الأيام، وبال الذكريات، وطبيعتها الخلابة، ومختلف ألوانها وطيوفها وجبالها، وتلالها وأشجارها، وبساتينها الغناء، وحدائقها العدنية. ومن خلال أعلامها، وصلحائها، وعلمائها، ورجالاتها وبطولاتها.
تأريخ للمكان، وتوثيق للذكرى، وسوالف العهود والأزمان والأيام، غير أنه تأريخ يميد باللغة، ويكتسي ريشا لا زَوَرْدِيًّا، وبوحا رقيقا منتشيا بالمدينة وتاريخها، وأفضيتها، لكن ملتاعا بما لا يقاس، ملتاعا لأنه يصف جمالا بدأ يذوي، وتاريخا أثيلا شرع "حفار والقبور" في طمسه بشكل أو بآخر، وطفقت الحكومات المتعاقبة على لفه وتقميطه بأثواب الاهتراء والرقع والإهمال، على غرار مدن مغربية أخرى. لكن الشاعر، وهو يدس جراحاته النازفة في طيات شعره، ينجح في إبراز بعض مفاتن صفرو :
-غردت ساقية وأنغام طير
جوقة الألحان تُسْبِي
سحبتنا من وجود
داكن الرجاء يُؤْسي
حُسْنُ صفريوية
علق قلبي والقلوب
من عيون عذبة
نُرْمى سهاما
شفتاها زهر رمان يثير
من خدود
لونتها
حمرة قرمزية نجني الهياما.
ينجح أحمد بنونة في نقلنا إلى مباهج صفرو، إلى فواكه الليل والنهار والمواسم، وإلى جمالها بشكل عام. بيد أن الانهيارات الاجتماعية والعمرانية والسياسية، والاجتماعية التي تَتْرى، تحضر أيضا، إذ ليس بمقدور الشاعر تخطيها أو تناسيها لأنها هنا بالزخم الفاجر كله، تحتل الواقع العياني، والحاضر المعيش، والفؤاد، والعقل. وهي انهيارات وحطام مغربي وعربي : مغربي كناتج للسياسة اللاشعيية، واللاديمقراطية التي ينتهجها أصحاب القرار منذ عقود، على رغم المساحيق، والشقشقة اللفظية التي تواري سوءات الواقع وأدوائه، وعربي لفداحة الخسران المبين الذي آلت إليه الهبّات الجماهيرية التي اندفعت هائمة هائجة ملعلعة من دون بوصلة ولا هدف مرسوم، وواضح، وبديل مفكر فيه، وموعى به قبل الانطلاق، والحماس الأهوج. وها هي ذي الخلاصات بارزة للعيان واضحة فاضحة لما اعترى دول عربية من خراب ودمار للتاريخ، والحضارة والعمران والإنسان. وما انتهى إليه الإنسان العادي البسيط في سوريا والعراق أو اليمن أو ليبيا، أو مصر، من تيهان في جهات العالم الأربع، ومن إذلال وانكسار جَرَّاءَ البلاهة العربية، والتواطؤ الدولي، والاستراتيجية المحكمة للأمبريالية والصهيونية العالمية :
-تلاشى سرب أحلامي سرابا
مشيت أعايش الفتك الشنيع
حروب زركشت سبلي دماء
خيام ظللت أوجاع عاري
حدود أغلقت شلت دعائي
قبور تحت موج نَطَّ خلفي
أمامي لا رجاء يضيء عسري
مفري التفافي حول نسفي
-ويقول في نص آخر :
-شهدت مواكب الموت
تدير رحى مدني
تؤثت انشطاري
محت شَدْوي.
نعم، إن الخراب، والقتل، والدماء المسفوحة، والمُراقة في كل مكان، تؤذي القلب قبل العين، وتشل الإرادة والإحساس، وتبلد الحس والشعور، وتمحو الشدو، بما يعني لا تشجع ولا توحي بالنشيد العذب المِمْراح الذي ديدنه الفرح والمرح، والصفاء العام. لكنني أقول للشاعر أحمد : في الموت .. في مختلف أشكاله وأنماطه، خرابا أو دمارا غب حرب ظالمة نكراء، أو عدوان مبيت سافر، أو غِبَّ جائحة وفاجعة طبيعة كالزلال، أو الفيضانات الطوفانية، أو النيران التي تأتي على الأخضر واليابس، فيه .. فيها، يرتفع النشيد متقدما آلاف الجثث، وسط الأنقاض والخرائب والحجارة المركومة، مؤذنا بانيا، ومعلما، ومعيدا وجه ما محاه الدمار، مشتعلا وموقدا، وناضحا بما كان عليه، وبالحياة.
ويفتح العمل الشعري البَنُّوني صدره لأَكْثَر من تيمة وموضوع ووعد، يتسع –كما بينا – للطفولة الغضة، والحياة اللعوب الممراحة، والفرح العارم المسروق من هنيهات ولحظات السواد والقتل، وللأمكنة والتواريخ الحافلة الماجدة، كما يتسع للزمكان الآني، ولمدن مغربية يُتَوِّجُها الشاعر أميرات، وأماكن للعذوبة واللذاذة والفتون كصفرو وأكادير، وغيرهما، إذ أن فاس مسقط الرأس والقلب، ثاوية بعيدة على قرب، قريبة على بعد، كمهوى قِرْطٍ لمليحة غيداء تشع غناء وجمالا وضوءا وتغدقه على العالمين والأراضين.
وبعد :
لست في مقام قراءة نقدية لمتن الشاعر، قدر ما أنا في مقام التقديم، وإهداء العمل الشعري إياه كفاكهة سحرية غَضَّة ملأى شمسا، وكلوروفيلا، وسكرا، وحلاوة، وطلاوة، ومرارة حافة تنتهي بها الحلاوة أو تنتهي إليها، إهداؤه إلى القارئة والقاريء هنا وهناك، وهنالك، مراهنا على أنهما سيجدان بضاعة شعرية ذات وزن وثمن ورونق على مستوى الإيقاع والتخييل، واللغة، والتركيب، والبوح الغنائي الذاتي العذب الذي ينطوي على مرارة و"مطواة" لا تُرَى وإنما تُحَسُّ، وتُحْدس، وتُسْتَقرى، وتُسْتَبْطن أثناء القراءة وبعدها إذ تترك انشراحا في القلب، ولوعة في النفس، وجرحا في الآن عينه.
وليس غير هذا ما يرهن الشعر للشعرية المطلوبة والمرغوبة والمتوخاة. وقد حققها أحمد بنونة، أو لنقل : حققها المراس والتجربة الروحية، والشطب المستمر، والمحو الضروري من أجل إرساء كتابة شعرية خاصة ولائطة بصاحبها.

إحــــــالـــــــة:

" سُمْرٌ أزهار الربيع " ـ مجموعة شعرية ـ المؤلف: أحمد بنونة ـ مطبعة سولبرنت بفاس ـ 2016 ـ الطبعة الأولى.



عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا