أكد الروائي الجزائري واسيني الأعرج، أنه لا يتوجَّب
على الروائي الافصاح عن
مصادر إلهامه لعدم أهمية ذلك الأمر للقارئ في أحيان كثيرة،
إلا أنه أشار إلى ضرورة سيطرة الكاتب على المساحة التي ينشئ فيها نصه.
جاء ذلك خلال ندوة حملت عنوان «ابتكارات مصادر الكتابة
الروائية» أقيمت ضمن البرنامج الثقافي المصاحب لمعرض الشارقة الدولي للكتاب، في دورته
الخامسة والثلاثين التي أقيمت في الفترة ما بين 2 و 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016.
ناقشت الندوة تنوُّع مصادر الكتابة الروائية بين
واقعية وخيالية؛ وشارك فيها إلى جانب الأعرج، كل من: الشاعر والروائي والصحافي الصربي
فلاديسلاف باياج، والأديب الإماراتي ناصر الظاهري.
الأعرج: السيطرة على مساحة النص
رداً على سؤال بشأن ما إذا كان بإمكان الروائي الكشف
عن مصادر إلهامه، أم لا، قال الأعرج إن «الكاتب يكتب بالدرجة الأولى من حقيقة موضوعية؛
إما إن تكون على مستوى ذاتي؛ أي مرتبط بالتجربة الشخصية؛ أو أن تكون مرتبطة بقراءاته
المختلفة، لكن كل هذا ليس مهمَّاً وقد لا تكون له قيمة كبيرة، إلا في كون أن الكاتب
حينما يكتب في مساحة عليه أولاً أن يسيطر عليها، وأن يمتلك المكان الذي ينشئ فيه نصه».
واستشهد الأعرج على ذلك بتجربته الشخصية في كتابة
روايته «الأمير» التي تتحدث عن سيرة الأميرة عبدالقادر الجزائري، مشيراً إلى أنه حين
قرَّر وضع كتاب عن الأمير عبدالقادر، اطلع على الكثير من الكتب التاريخية التي أرّخت
للشخصية، وقال: «الأمير عبدالقادر الجزائري من الشخصيات الاستثنائية التي عاشت في القرن
التاسع عشر، واهتم بها الكتَّاب والنقَّاد والمفكِّرون والساسة والعسكريون وهو ما خلّف
العديد من الكتب»، مضيفاً «قرأت نحو 400 كتاب ووثيقة، لدرجة أنني أصبحت في عزلة عن
محيطي» مرجعاً إقباله ذاك إلى «أنني كنت أتطلع إلى كتابة شيء ما عن عبدالقادر الجزائري
لكن لم أكن أعرف من اين أتناول الأمير».
الأعرج وجد الكثير من الكتابات حول «الأمير» من
مؤرِّخين وساسة وعسكريين عرب وفرنسيين، لكنه اكتشف «أن الكتابات مكرورة عن بعضها بعضاً»،
وهنا وجد الروائي الجزائري نفسه «نزعت قبعة الكاتب وارتديت قبعة المؤرِّخ» مبرِّراً
توجُّهه ذاك «كنت أريد أن أسيطر على المساحة التي أريد أن أنشئ فيها النص».
يقول الأعرج: «بدأت أقرأ ولم أجد شيئاً يقنعني.
كنت على قناعة بأن كتابي لن يكون له قيمة إذا كنت سأضيف وثيقة مكرورة أخرى حول (الأمير)».
عبارة أخذتني وأخرى أعادتني
الفكرة التي بنى عليها الأعرج كتابه هي كما يفيد
«كيف أؤنسن (الأمير) الذي كان أسطورة». أردت أن أنزل هذه الشخصية من الأعالي. أردت
أن أعيد إنتاج المستند التاريخي وهو المستند الأساسي لروايتي».
مر الأعرج خلال مرحلة البحث تلك، بمرحلة توقف فيها
عن الكتابة لمدة ستة أشهر، كان ذلك ردَّ فعل سلبياً لتفاصيل وجدها في إحدى الوثائق
أخذته بعيداً عن شخصية «الأمير» وأبعدته عنها، يقول: «وجدت في إحدى الوثائق عبارة قالها
(الأمير) لإمبراطور فرنسا، وذلك بعد الصلح الذي تم بينهما. وهي عبارة أعجبتني كثيراً
لأنني وجدت الأمير يمتلك الدبلوماسية الكافية، وقال فيها: «سيدي الإمبراطور، طلبت مني
ألا ارفع سلاحاً، وأنا لن أرفع سلاحاً ضد فرنسا ولكن لا أضمن الأجيال القادمة» هذه
الوثيقة أعجبتني كثيراً. لكن وثيقة ثانية ضمت جملة أخرى قالها الأمير للإمبراطور رداً
منه على عتاب الأخير له حين قال «يا سلطان، وعدتني ألاَّ يحمل الجزائريون سلاحاً ضد
فرنسا، وها هو ابنك محيي الدين يهرب إلى تونس ويشترك في ثورة الفلاحين حاملاً السلاح
ضدنا، فكيف تبرر هذا»، فقال الأمير جملة قتلتني وقصمت ظهري إذ قال: «لا هو ابني ولا
أنا أبوه».
هنا يشير الأعرج «وضعت القلم، وتوقفت عن كتابة الرواية،
حتى وصلني كتاب من صديق فرنسي بعنوان «الأقدام السوداء»، ضم رسالة كتبها قس جزائري
عاصر (الأمير) وأرسلها إلى الإمبراطور الفرنسي آنذاك».
يقول الأعرج: «هذه الرسالة وهذا الكتاب أخذاني إيجاباً
كما أخرجتني عبارة (الأمير) سلباً. في الرسالة كتب القس للإمبراطور متحدثاً عن (الأمير)
الذي كان حينها سجيناً في فرنسا «يا سيدي الإمبراطور أنتم لا تعرفون هذا الرجل، أنا
عاشرته، استمع لي لأحكي لك عنه ثم قرر ما تريد أن تفعله معه». ونحت صورة من أجمل الصور
عن هذه الشخصية، صورة مدهشة لرجل متسامح، محب للناس، شجاع، مناضل».
ويكشف الأعرج «حينها تغيَّر موقفي من الأمير وعدت
لكتابة الرواية؛ إذ فهمت لماذا تبرَّأ الأمير من ابنه، فالأمير لا يزال عقله في ذلك
الوقت عقل العربي الذي أعطى وعداً على نفسه، وحين خان ابنه الوعد، جاءت كلمته تلك».
الرواية، كما يؤكد واسيني الأعرج هي إجابته حول
السؤال عمَّا إذا كان مآل البشرية هو صدام الحضارات والأديان، إذ يقول: «أنا مع فكرة
الحوار ولا يمكن إلَّا أن أكون كذلك، وكنت أود أن أجيب بنص إبداعي وليس بعبارة سياسية،
فبدأت أكتب الرواية وجعلتها حول العلاقة بين الأمير والقس».
وختم الأعرج كلامه بتأكيد أنه «على الكاتب، وخصوصاً
في الرواية التاريخية، ألَّا يكتفي بالمظهر الخارجي، وأن يذهب بعيداً عمَّا هو ظاهر
ويجعل الشخصيات تتكلم». مضيفاً بأن «رد فعل القراء مهم في العمل التحويلي، وأن المادة
التاريخية إذا لم تمر بالمصنع الذاتي للكاتب، يظل الكلام معمّماً مكروراً».
باياج: لا تكتبوا سوى الجديد
بعدها انطلق الكاتب الصربي فلاديسلاف باياج للحديث
عن مصادر الكتابة الروائية لديه، مستشهداً بوقائع من تجربته الشخصية ككاتب. ولباياج
عدة روايات، أهمها رواية «حمام بلقانيا» Hamam Balkanija الفائزة بجائزة بالكانيكا الدولية لأحسن كتاب في البلقان العام
2007-2008.
بداية، أشار باياج إلى أنه اعتمد المصادر الثلاثة
في كتاباته، مستشهداً برواية «كتاب البامبو» The
Book of Bamboo (1989) التي كتبها منذ 25 عاماً، موضحاً أن مصدره
الأساس فيها كان اهتمامه بالاطلاع على مختلف الثقافات والأديان؛ وخصوصاً مذهب «الزن»
في البوذية، الذي كان محور روايته تلك.
ويبيِّن باياج «اطلعت على الكثير من المصادر حول
هذا المذهب ولكني لم أرغب في كتابة الرواية لأنني أعرف الكثير حول موضوعها، بل لأنني
وجدت أن عليَّ أن أكتبها فقط إذا كان لديَّ شيء جديد لأقوله»، مفيداً «عموماً، على
الكتّاب ألَّا يكتبوا ما لم يكن لديهم شيء جديد ليضيفوه إلى العالم».
باياج يقول إنه نفذ ذلك في روايته تلك والتي كانت
الرواية الأولى له، وهو يؤكد أن هذه الرواية لا تزال ذات شعبية عالية حتى اليوم، وبعد
ما يقرب من عشرين عاماً من كتابتها، مضيفاً بأن «هذه أعظم أمنية يحملها أي كاتب وهو
أن يرى كتبه حية فيما لا يزال على قيد الحياة».
صِلوا الواقع بالحياة
في رواياته الأخرى، ومعظمها تاريخية، اعتمد باياج
على وقائع تاريخية، لكن نقلها عبر الخيال، مادَّاً صلة وجسراً بين الواقع والخيال،
مفيداً بأن «هذه إحدى أكثر الطرق شيوعاً في كتابة الرواية المعاصرة».
وتطرَّق باياج إلى واحدة من رواياته التي صنّفت
على أساس أنها رواية سيرة ذاتية، حيث يروي فيها حياة إحدى الشخصيات الصربية التي عاشت
في القرن التاسع عشر، ولم يكن قادراً على إنقاذ بلاده؛ الأمر الذي اضطره للسفر إلى
الولايات المتحدة الأميركية والإقامة فيها التي لم تكن كما هي عليه اليوم. وقال، إنه
أحد مؤسسي الولايات المتحدة الأميركية التي نعرفها اليوم.
وأوضح أنه في مثل هذه الكتاب لم يلجأ لاستخدام الخيال،
لأن سيرة الشخصية كانت ثرية للغاية، مشيراً إلى أن تلك الرواية حُوِّلت إلى فيلم.
واستشهد باياج أخيراً برواية «حمام بلقانيا» وهي
أكثر رواياته ترجمة إلى لغات أخرى، إذ يقول: «مصادري في هذه الرواية مختلفة، أهمها
تاريخية من أرشيف المكتبات حول الحكم العثماني للبلقان في القرن السادس عشر وحين كان
العثمانيون يحكمون البلقان وأجزاء أخرى من العالم» مضيفاً «عندما ندرس التاريخ تتكشف
لنا العديد من الأشياء ونفهم أسباب ما يجري حولنا».
ثم أشار باياج إلى أن النصف الأول من روايته يدور
في فترة تاريخية سابقة، فيما تجري أحداث النصف الثاني من الرواية في العصر الحديث،
معتمداً في هذا الجزء على خبرته الشخصية.
وختم باياج حديثه عن مصادر الكتابة الروائية مستشهداً
بروايته الأخيرة، مشيراً إلى أنه اعتمد في جزء منها على خبرته الشخصية وذلك حين نقل
عبْرها التاريخ الحديث لبلاده «التي كانت تسمى يوغسلافيا ولكنها الآن صربيا» موضحاً
بأن الرواية تسرد تاريخ بلاده «منذ الحرب العالمية الثانية حتى اليوم، عبر تاريخ عائلة
وتاريخ بلد لم يعد موجوداً الآن».
ويضيف «مصدر الرواية الرئيسي هو حياتي وحياة عائلتي.
وأنا أخبركم بهذا الأمر لأوضح لكم كيف يمكن نقل التجربة الشخصية وتحويلها لشيء احترافي».
ثم يختم حديثه قائلاً «لا أدري إذا كانت روايتي
جيدة أو أنه يمكن إطلاق رواية عليها، لكني استخدمت فيها كماً كبيراً من حياتي الشخصية
لدرجة أني لم أعد بعدها قادراً على أن أحدّد ما إذا كنت أتخيّل أو أستخدم حقائق عن
حياتي. حاولت أن أكتشف من خلال مصادري الشخصية حدود الفعل، والشعور الخاص بذلك الفعل،
فحين نتذكر أحداثاً من التاريخ، نجد أنها حقائق، ولكن حين ننقلها من الذاكرة نصبح غير
واثقين ما إذا كانت تلك الوقائع قد حدثت بالفعل. كان هذا سؤالي الأساس في الكتاب هل
نتذكر فعلاً ما حدث أم نتخيل وقائع حياتنا الخاصة»؟
الظاهري: مرتكزات الكتابة أربعة
الورقة الأخيرة قدَّمها الأديب الإماراتي ناصر الظاهري،
وأشار عبرها إلى أن الكاتب والروائي لديهما عادة مكونات أساسية تقوم على مرتكزات أربعة،
أولها أن الكاتب طفل مشاغب كلما كبر، وثانيها القراءات الأولى التي تبني لدى الكاتب
المخزون الثقافي والمعرفي، أما الثالث فهو الأسفار الخارجية التي تعد رحلة إلى الدهشة
واكتشاف متعة الأشياء، وهناك السفر الداخلي وهو الأصعب بالنسبة للكاتب، حيث يفرض عليه
طرح العديد من الأسئلة على نفسه التي من شأنها أن تحفّزه على الكتابة، في حين أن المرتكز
الرابع يتمثل في الشخوص التي يمر بها الكاتب وتؤثر في حياته.