وظلم ذوي القربى:
ذهلت وأنا أقرأ لأحد أعضاء المجلس الأعلى للتعليم-
وهو بالمناسبة رئيس المركز المغربي للدراسات والأبحاث التربوية الإسلامية، بتطوان
– إفادات نقلتها عنه هسبريس
؛يحاول فيها تلطيف مسلسل التراجع عن مجانية التعليمين الثانوي
والجامعي؛متهما وسائل الاعلام بالتضخيم والتهويل .
وفي الافادات ،إياها ،ولغرض ما،لم يُغفل تبرئة ساحة
الحكومة المنتهية ولايتها ،من أية علاقة لها بالموضوع.
ولما كنت -كمفتش تربوي- على معرفة ببدايات هذا العضو/الرئيس
المهنية؛وقد كانت واعدة على كل حال ،تفاجأت أن أجده ،وهو ابن التعليم العمومي ،تمدرسا
،وأستاذية في حي شعبي ،يقلب الطاولة ،ويرحل الى الضفة الأخرى ،ليُفتي ،مع من أفتى ،بأن
آفة التعليم في المغرب مجانيته. أو على الأقل: من شأن الاسهام الأسري في تمويل التعليم
أن يصلحه.
فعلا ان للمناصب ،وللمواقع،سِحرا .
وقد وجدت هذا ينسحب على أغلب من أعرف من أعضاء المجلس.
تتلمذوا في التعليم العمومي المجاني ؛ومارسوه مهنيا،في أوساط موغلة في الشعبية والفقر؛وها
نحن نواجههم اليوم ،وهم في مراكز المشورة والقرار ،أُسُدا على طبقات فقيرة ،ليس لها
من وطنها غير التعليم العمومي ؛كما ليس لها من غذائها غير العدس والبطاطس ، وقد عَزَّا.
لم يتأخر السيد عزيمان كثيرا في توضيح الأمور؛لنفهم
بأن رئيس الحكومة عبد الاله بنكيران هو من
استشار المجلس في موضوع المجانية ،ولنتأكد بأنها (المجانية) في طريق الزوال، مهما نُمقت
القصيدة.
ومهما قلنا شعبويا: "بارد وسخون آمولاي يعقوب".
يا رجال
المجلس – من نعرف ومن لا نعرف - لقد خذلتم فرحتنا ،اذ توهمنا فيكم الصلاح والإصلاح
،فبدل التفكير في آنية الحَلْب،فكان عليكم أن تفكروا في البقرة ،من أين مرضُها وهزُالُها ،حتى وهي تستنزف ربع الميزانية؟
ماذا تعني مجانية التعليم للمغاربة؟
الخلفية:
لعل المجلس الأعلى للتعليم ،وهو يدشن - مشورة - حلقات تراجع الدولة عن مجانية التعليم
،لم ينجز القراءة السياسية المطلوبة ،في أمر جلل كهذا؛له مساس بأهم مكتسب حققته الحركة
الوطنية – الملكية والشعبية -بالدم والحديد؛مما سيدخل البلاد ،أكثر من كل رزايا الحكومة
المنتهية الحكم، في متاهات مفتوحة على كل الأخطار ؛خصوصا والمحيط الإقليمي الملتهب،
حَرَّاث وزَرَّاع .
لقد آلى الاستعمار الفرنسي على نفسه – تأسيسا على نكسات بداياته في الجزائر الشقيقة – أن يشتغل ،في المغرب تعليميا،أكثر
من اشتغاله عسكريا واقتصاديا.
بدل تحريك فيالق الجيش – فقط - في المداشر والقرى،وفي
المدن ،تحركت المدرسة المسماة ،وقتها:
Ecole franco musulmane؛معززة
بخيرة المنظرين،والممارسين ؛ولا داعي لإثقال الموضوع بنصوص الأدبيات التربوية الكولونيالية،التي
تؤكد أن فرنسا لم تكن ترى لها مستقبلا في المغرب؛ في وجود منظومات التعليم الأصيل ،الوحيدة
وقتها.
ولم تكن ترى لها مستقبلا ،أيضا حيث تسود الأعراف الأمازيغية ،دون مؤسسات
ناظمة لها ،عدا القبال وأنظمتها القائدية التقليدية.
أدرك رواد الحركة الوطنية ،منذ البدايات أن أفضل
السبل لمواجهة التغلغل الاستعماري ،اللغوي،
الوجداني و الثقافي ،هي في حمل الشعب المغربي
على التشبث بلغته ودينه و باقي مقومات وطنيته.
ومن هنا الاستماتة في تأسيس مدارس وطنية ،خارج نفوذ
السلطة ؛حيثما تأتى ذلك.
واذا كانت أغلب الحواضر قد استفادت من هذا التعليم الحرالمناضل ،فان المستعمر خلا له الجو تماما في
البوادي ،وخصوصا الأصقاع النائية؛وصولا الى اتخاذ مراكز للتنصير ،والتفكير في الحصار
الشامل للأمازيغ ،بالخصوص ،تعليما وقضاء وأعرافا. ولهذا وُفرت ل:école franco berbère،كامل مقومات العمل والاستقطاب:
البناء ،شق الطريق،التغذية.. ولم يغفل المستعمر
أن ينشئ حول المدرسة نواة للتمدن: مستوصف،بريد،بيطرة..
رغم الأهداف الاستعمارية الواضحة ،ورغم تحريض الحركة
الوطنية على نبذ المدرسة الفرنسية ،فان الموضوعية تفرض علينا الاعتراف – تربويا وتعليميا
– بكون فرنسا أقامت في المغرب – كما في تونس والجزائر- منظومة تعليمية متكاملة وراقية
،بمقاييس ذلك الزمان.
منظومة تعليمية لم يجدها ساسة الاستقلال تصلح - وقد رُحل أطرها قبل الأوان-
الا للانقلاب عليها.
بل حتى مفاوضات الاستقلال لم تستحضر، كما يجب ،
ولأمر ما ،مصير التعليم ، وكأنه من سقط المتاع الاستعماري.
و"لأمر ما جدع بصير أنفه".
الانقلاب الأول:
لعل تخبطنا اليوم ،في حل معضلة التعليم ،راجع ،بالأساس
، الى تخريب حكومات ،ما بعد الاستقلال،لهذه المنظومة،قبل بناء منظومة وطنية قوية،تحل
محلها ،تدريجيا؛دون أن يعني هذا عدم الحفاظ على عناصر القوة فيها.
لقد سعت فرنسا لتمكين جميع المغاربة من الفرنسية،دون
تمييز طبقي ،ولا مجالي؛لكن غداة الاستقلال تبين لقادة حزب الاستقلال ،بالخصوص، بأن في هذا "تبذيرا" لغويا، وترفا كبير ،لا
يمكن أن يكون مستحقا لجميع أبنا ءالشعب.
نعم الفرنسية
غنيمة حرب ،كما قيل ، لكن ليس للدهماء.
وتحت عنوان التعريب شُرع في الاشتغال على أجندة
سياسية ، قبل أن تكون تعليمية ؛وهذا الاشتغال
الذي يفوق الاشتغال الكولونيالي،دهاء وخبثا؛ هو الذي يحبط كل المساعي الخيرة لإصلاح المنظومة التعليمية؛ على مستوى الجامعات
ومراكز البحث والتكوين، وعلى مستوى البقية الباقية من جنود المدرسة العمومية.
ومن باب ذكر الفضل لأهله لا بد من التذكير بدور
المرحوم الحسن الثاني ،ووزراء من طينة "بنهيمة" في مواجهة التيار التعريبي
– السياسي – المتوحش.
لم يكن ممكنا مواجهة الطوفان ؛خصوصا والفئات الشعبية
المتضررة هي التي تصدت – بفقدان وعي تام – لاستمرار الفرنسية لغة حاملة للمعارف ،وللمدنية.
الانقلاب الثاني:
وهو من انجاز دهاقنة الاستقلال ،ااستكمالا ،لخطتهم
في ابعاد الطبقات الشعبية عن اللغة الفرنسية،لغة الحكم والاقتصاد والرقي الاجتماعي .
ويتجلى في الانقلاب على المدرسة الوطنية الحرة ،التي
واجهت بها الحركة الوطنية مخططات المستعمر ،في المجال التعليمي ،وحتى السياسي طبعا.
يتذكر جيلي كيف حاصرت جحافل المواطنين - غب الاستقلال - المدارس العمومية،رغبة في تسجيل
أبنائهم ،وكلهم ثقة في المستقبل ،وكلهم ثقة في حكومة الاستقلال ،وان ضاقت يدها ،وراحت
تستقطب – في خضم المنازلة المزعومة للفرنسية -أساتذة مشارقة ،خربوا أكثر مما علموا.
يُفسر موسم الهجرة صوب المدرسة العمومية – هذا
– بكون المواطنين جعلوا من هذه المدرسة رديفا للاستقلال؛ ان لم أقل بأن الاستعمار
– كما الاستقلال – كان تربويا بالأساس.
هُجِرت المدرسةُ الحرة -التعليم الخاص اليوم – لأنها
اعتُبرت مناضلة ضد الاستعمار ؛أمَا وقد استقلت البلاد ،فلم يعد هناك مبرر لاستمرارها.
لم يكن هذا رأي العقل السياسي الريعي المتحكم ،وهو العقل الخِبُّ الضَّبُّ؛فراح يستصفي ،تدريجيا
، المدرسة الحرة لأبنائه؛جاعلا للفرنسية ،المنبوذة شعبيا ،استجابة لمكر الماكرين،مكان
الصدارة.
فعلا نحن اليوم ازاء تعليم خاص ،مُفرنس منذ الحضانة،ومعزول
،ثمنا ، وسكنا،وأطرا،ومستقبلا، عن ويلات التعليم العمومي.
هكذا حازت المدرسة الوطنية الحرة ،غنيمة الحرب اللغوية
"لها لا لغيرها" .
الانقلاب الثالث: يتبع
Sidizekzi.blogvie.com