لبوتين ونموذجه في الحكم جاذبية خاصة لدى بلدان مختلفة. الذين خرجوا عن الطور الروسي بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي، هم ربما الأكثر تأهلاً لهذا الإغراء الإستبدادي.
المجر وبولندا أولاً، الأقل شهرة من بين المنجذِبين. لم تتنعّما بشيء من الديموقراطية، حتى صعد إلى حكمهما أحزاب وقادة ينفرون منها، وبسرعة، لتبتعدا عنها بخطى ثابتة أكيدة. كذلك هو حال أوكرانيا، التي تتعثر ديموقراطيتها تحت التهديد الروسي، فضلاً عن الجمهوريات الصغيرة، جورجيا، بلاد البلطيق، المهدّدة بدورها بإجتياح عسكري صريح. وهي بلدان لا يجذبها الإستبداد بقدر ما تنجذب جيوش الإستبداد الروسية إليها، لتهيمن عليها، بالإحتلال، كما فعلت مع شبه جزيرة القرم منذ عامين. وبعد الحلقات الأضعف، تكرّ سبحة الدول المنْجذبة إلى بوتين بحكم طبيعة نظامها، مثل إيران. "الدول" والدويلات العربية المختلفة لا تحتاج إلى الإنشداد لبوتين ونموذجه المظلم. لأنها ببساطة من صنفه. منها "المستقر"، ومنها المنهار؛ مثل النظام السوري الذي أبلى سوريا بإحتلال روسي محمول على قواعد عسكرية وقوة نارية متفوقة. فيما الصين القرينة الشيوعية الماوية، التي تسير على الدرب نفسه... تترقب وتراكم وتتهيأ لصعود نظيرتها "الشيوعية" السابقة، بقليل من القلق. فالصين تعلم بأن الشوط التالي سيكون من نصيبها. الآن، فلنتابع جرْدة الدول الآخذة بالتخلّي شيئاً فشيئاً عن ديموقراطيتها: تركيا، التي تبتعد بخطى حثيثة عن الوحدة الأوروبية بابتعادها عن المعايير الديموقراطية، بعدما اجتهدت طوال عقود لتبنّيها؛ ها هي اليوم تتحول، وبسرعة أيضاً، نحو النموذج التسلّطي. تليها أميركا الترامبية، وعنوان رئيسها الجديد، وحليفه الروسي، والغزل المتبادل بينه وبين وبوتين؛ مرفق هذا كله بتوحش جديد ينذر به ترامب، في الداخل كما في الخارج، يخرق معايير الديموقراطية، ويجرّ خلفه أعتى العنصريات. تبقى فرنسا، مرْتع حقوق الإنسان والمساواة، عرف بوتين كيف يوقعها، وبـ"مرونة" ، في شباكه: دعمَ اليمين واليمين المتطرف، نسجَ علاقات حميمة مع مارين لوبن، زعيمة "الجبهة الوطنية" المتطرفة، وأقام روابط خاصة مع فرنسوا فيون، الرابح في التمهيديات اليمينية. هي الصدفة التاريخية، أو الخيوط المضبوطة من الخلف، التي حوّلت الإنتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة إلى منافسة بين "صديقين" لبوتين، بين يمين ويمين متطرف... مسهّلة الطريق لصعود أشكال أخرى من اليمين المتطرف المنجذب لبوتين في بقية أنحاء أوروبا الغربية الأخرى. فهل تصمد ألمانيا طويلاً أمام هذا الزحف؟ أم تكون عودة المانيا إلى التسلّح، حيث أعلنت أنجيلا ميركل عن زيادة 2% من الميزانية العامة للتسلح، شعوراً منها بالخطر الروسي والتخلي الأميركي... هل تكون هذه العودة إشعاراً بالعودة الى الحروب المدمِّرة للديموقراطية؟ قبل بوتين، لم تكن كل هذه الدول الديموقراطية الغربية مسكونة بملائكة ديموقراطيين. عيوب كثيرة، وتضارب بين الأقوال والأفعال، وتناقضات ومصالح غير معترف بها، وثغرات أخرى لا تُحصى، كلها حكمت ممارساتهم الديموقراطية، فجعلتها ناقصة. ولكنها كانت تحتكم إلى القواعد والكوابح الديموقراطية، وإن رافقها الغش: تلك السوسَة البشرية التي لا تنعدم. أما الآن، ومع صعود النجم البوتيني، عميل المخابرات السابق، الذي تسلم الحكم من يلتسين عام 1999، بشرط سكوته عن سرقات هذا الأخير للدولة المنهارة، والذي لم يترك الحكم من يومها، إلا شكليا ولأربع سنوات في لعبة كراسٍ صريحة مع صديق عمره ديميتري مدفيديف؛ بوتين، صاحب السجل الأسود في محاربة الإعلام والثقافة والصحافة والمعارضين، محبوب الملياردريين الأوليغارشيين الطائعين المذعنين، وإلا حوكموا بتهم الفساد... بوتين هذا، صاحب الثأر من إنهيار الاتحاد السوفياتي، صاحب العضلات، عضلات جسمه وسلاحه، القيصر الذي يريد إعادة روسيا الى أمجادها السابقة، بمزيج من القومية الشوفينية والتديّن الارثوذكسي، والإقتصاد الليبرالي الطليق، غير المقيّد إلا بقوانين القوة السافرة، ونهم الربح العالي والسريع. هذا البوتين هو الآن القبْلة التي تتجه إليها أنظار الديموقراطيات العريقة والحديثة. السبب؟ أو الأسباب بالأحرى؟ تسهل عليكَ الإجابة دائماً عندما تبحث الآن عن "أسباب". يمكنكَ أن تجد أسباباً لكل شيء. قد نحتاج إلى عقد أو إثنين لفهم "الأسباب" العميقة الواقعية. أما الآن، فما يمكن ملاحظته هو إن عيوباً في الديموقراطيات تهْلكها، وكذلك أزمتها الإقتصادية الطاحنة. تقابلها سعادة الذين يبقون في السلطة، مثل بوتين، لعقود، فيصبحون عباقرة شطرنج في تحريك أحصنة المراوغة والمراوبة وقلاع الطائرات وحاملاتها على رقعة المسرح الدولي. ولكن ماذا بعد الأسباب؟ أو قبلها؟ النموذج البوتيني يغري بجمعه بين سلطته المطلقه، وليبراليته الإقتصادية المنْفلتة، وأحلامه الإمبراطورية، أحلام القوة العارية. الصين، كبيرة التجارة العالمية، لا تخرج عنه. وعندما ستنتقل الهيمنة العالمية الى الجناح الصيني، فسيكون الأمر سلِساً بالنسبة إلى الديموقراطيات التي سبق أن تركت صفوفها لترتمي في أحضان النموذج الروسي. الخسارة العربية في وجهة الرياح هذه لا تُقاس بأي خسائر أخرى. العرب هم الحلقة الأضعف من البشرية، هم الأوائل في علمهم بالكوارث المقبلة عليها، نتيجة قلّة ديموقراطيتهم، وثباتهم على الإستبداد. بفراغهم السياسي، جذبوا إليهم الروس، فلبّى هؤلاء النداء. فكان حظ سوريا بطائراتهم وصواريخهم وأسطولهم وقواعدهم وقتلهم اليومي للسوريين؛ مجازر روتينية، إرتكب الروسي غيرها، عندما صعد بوتين إلى السلطة، في الشيشان. ما كان ينقص الثورة السورية، بعد الرخاوة الغربية المدعومة بكلمات رنّانة طنّانة، إلا ان تنجذب أوروبا الغربية وأميركا للنموذج الروسي. العرب، وربما غيرهم أيضاً، لم يتيقّنوا من ان الذي مورس عليهم منذ قرن كان إستعماراً غربياً... إلا بعد عقود. وهم يحافظون على تراث العداء لهذا الإستعمار، ويغذونه بكل ما يحتاج من أيديولوجيا. فتعميهم هذه الأيديولوجيا؛ إذ لا يرون في الممارسات العسكرية الروسية، الحائمة حول أوطانهم، نسخة طبق الأصل عن الإستعمار الغربي في أولى أيامه. ما زال وعيهم متشبّثاً بمرحلة الإستعمار الغربي، ولن يقرروا ان هذا ليس سوى إستعمار روسي، أشد هولاً من الغربي، لأنه استبدادي... إلا بعدما تتأبد قواعدهم في النفوس . وهم ينتظرون اليوم أن يتمكّن الروس تماماً من أوطانهم، أن تسيطر المزيد من الممارسات القيصرية المعادية للديموقراطية، لكي ينتبهوا إلى ان للروس أيضاً استعمارهم، المبني الآن على جاذبية صاحب العضلات الأكبر من بين أصحاب الطموحات بملء الفراغات.
عن المدن
المجر وبولندا أولاً، الأقل شهرة من بين المنجذِبين. لم تتنعّما بشيء من الديموقراطية، حتى صعد إلى حكمهما أحزاب وقادة ينفرون منها، وبسرعة، لتبتعدا عنها بخطى ثابتة أكيدة. كذلك هو حال أوكرانيا، التي تتعثر ديموقراطيتها تحت التهديد الروسي، فضلاً عن الجمهوريات الصغيرة، جورجيا، بلاد البلطيق، المهدّدة بدورها بإجتياح عسكري صريح. وهي بلدان لا يجذبها الإستبداد بقدر ما تنجذب جيوش الإستبداد الروسية إليها، لتهيمن عليها، بالإحتلال، كما فعلت مع شبه جزيرة القرم منذ عامين. وبعد الحلقات الأضعف، تكرّ سبحة الدول المنْجذبة إلى بوتين بحكم طبيعة نظامها، مثل إيران. "الدول" والدويلات العربية المختلفة لا تحتاج إلى الإنشداد لبوتين ونموذجه المظلم. لأنها ببساطة من صنفه. منها "المستقر"، ومنها المنهار؛ مثل النظام السوري الذي أبلى سوريا بإحتلال روسي محمول على قواعد عسكرية وقوة نارية متفوقة. فيما الصين القرينة الشيوعية الماوية، التي تسير على الدرب نفسه... تترقب وتراكم وتتهيأ لصعود نظيرتها "الشيوعية" السابقة، بقليل من القلق. فالصين تعلم بأن الشوط التالي سيكون من نصيبها. الآن، فلنتابع جرْدة الدول الآخذة بالتخلّي شيئاً فشيئاً عن ديموقراطيتها: تركيا، التي تبتعد بخطى حثيثة عن الوحدة الأوروبية بابتعادها عن المعايير الديموقراطية، بعدما اجتهدت طوال عقود لتبنّيها؛ ها هي اليوم تتحول، وبسرعة أيضاً، نحو النموذج التسلّطي. تليها أميركا الترامبية، وعنوان رئيسها الجديد، وحليفه الروسي، والغزل المتبادل بينه وبين وبوتين؛ مرفق هذا كله بتوحش جديد ينذر به ترامب، في الداخل كما في الخارج، يخرق معايير الديموقراطية، ويجرّ خلفه أعتى العنصريات. تبقى فرنسا، مرْتع حقوق الإنسان والمساواة، عرف بوتين كيف يوقعها، وبـ"مرونة" ، في شباكه: دعمَ اليمين واليمين المتطرف، نسجَ علاقات حميمة مع مارين لوبن، زعيمة "الجبهة الوطنية" المتطرفة، وأقام روابط خاصة مع فرنسوا فيون، الرابح في التمهيديات اليمينية. هي الصدفة التاريخية، أو الخيوط المضبوطة من الخلف، التي حوّلت الإنتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة إلى منافسة بين "صديقين" لبوتين، بين يمين ويمين متطرف... مسهّلة الطريق لصعود أشكال أخرى من اليمين المتطرف المنجذب لبوتين في بقية أنحاء أوروبا الغربية الأخرى. فهل تصمد ألمانيا طويلاً أمام هذا الزحف؟ أم تكون عودة المانيا إلى التسلّح، حيث أعلنت أنجيلا ميركل عن زيادة 2% من الميزانية العامة للتسلح، شعوراً منها بالخطر الروسي والتخلي الأميركي... هل تكون هذه العودة إشعاراً بالعودة الى الحروب المدمِّرة للديموقراطية؟ قبل بوتين، لم تكن كل هذه الدول الديموقراطية الغربية مسكونة بملائكة ديموقراطيين. عيوب كثيرة، وتضارب بين الأقوال والأفعال، وتناقضات ومصالح غير معترف بها، وثغرات أخرى لا تُحصى، كلها حكمت ممارساتهم الديموقراطية، فجعلتها ناقصة. ولكنها كانت تحتكم إلى القواعد والكوابح الديموقراطية، وإن رافقها الغش: تلك السوسَة البشرية التي لا تنعدم. أما الآن، ومع صعود النجم البوتيني، عميل المخابرات السابق، الذي تسلم الحكم من يلتسين عام 1999، بشرط سكوته عن سرقات هذا الأخير للدولة المنهارة، والذي لم يترك الحكم من يومها، إلا شكليا ولأربع سنوات في لعبة كراسٍ صريحة مع صديق عمره ديميتري مدفيديف؛ بوتين، صاحب السجل الأسود في محاربة الإعلام والثقافة والصحافة والمعارضين، محبوب الملياردريين الأوليغارشيين الطائعين المذعنين، وإلا حوكموا بتهم الفساد... بوتين هذا، صاحب الثأر من إنهيار الاتحاد السوفياتي، صاحب العضلات، عضلات جسمه وسلاحه، القيصر الذي يريد إعادة روسيا الى أمجادها السابقة، بمزيج من القومية الشوفينية والتديّن الارثوذكسي، والإقتصاد الليبرالي الطليق، غير المقيّد إلا بقوانين القوة السافرة، ونهم الربح العالي والسريع. هذا البوتين هو الآن القبْلة التي تتجه إليها أنظار الديموقراطيات العريقة والحديثة. السبب؟ أو الأسباب بالأحرى؟ تسهل عليكَ الإجابة دائماً عندما تبحث الآن عن "أسباب". يمكنكَ أن تجد أسباباً لكل شيء. قد نحتاج إلى عقد أو إثنين لفهم "الأسباب" العميقة الواقعية. أما الآن، فما يمكن ملاحظته هو إن عيوباً في الديموقراطيات تهْلكها، وكذلك أزمتها الإقتصادية الطاحنة. تقابلها سعادة الذين يبقون في السلطة، مثل بوتين، لعقود، فيصبحون عباقرة شطرنج في تحريك أحصنة المراوغة والمراوبة وقلاع الطائرات وحاملاتها على رقعة المسرح الدولي. ولكن ماذا بعد الأسباب؟ أو قبلها؟ النموذج البوتيني يغري بجمعه بين سلطته المطلقه، وليبراليته الإقتصادية المنْفلتة، وأحلامه الإمبراطورية، أحلام القوة العارية. الصين، كبيرة التجارة العالمية، لا تخرج عنه. وعندما ستنتقل الهيمنة العالمية الى الجناح الصيني، فسيكون الأمر سلِساً بالنسبة إلى الديموقراطيات التي سبق أن تركت صفوفها لترتمي في أحضان النموذج الروسي. الخسارة العربية في وجهة الرياح هذه لا تُقاس بأي خسائر أخرى. العرب هم الحلقة الأضعف من البشرية، هم الأوائل في علمهم بالكوارث المقبلة عليها، نتيجة قلّة ديموقراطيتهم، وثباتهم على الإستبداد. بفراغهم السياسي، جذبوا إليهم الروس، فلبّى هؤلاء النداء. فكان حظ سوريا بطائراتهم وصواريخهم وأسطولهم وقواعدهم وقتلهم اليومي للسوريين؛ مجازر روتينية، إرتكب الروسي غيرها، عندما صعد بوتين إلى السلطة، في الشيشان. ما كان ينقص الثورة السورية، بعد الرخاوة الغربية المدعومة بكلمات رنّانة طنّانة، إلا ان تنجذب أوروبا الغربية وأميركا للنموذج الروسي. العرب، وربما غيرهم أيضاً، لم يتيقّنوا من ان الذي مورس عليهم منذ قرن كان إستعماراً غربياً... إلا بعد عقود. وهم يحافظون على تراث العداء لهذا الإستعمار، ويغذونه بكل ما يحتاج من أيديولوجيا. فتعميهم هذه الأيديولوجيا؛ إذ لا يرون في الممارسات العسكرية الروسية، الحائمة حول أوطانهم، نسخة طبق الأصل عن الإستعمار الغربي في أولى أيامه. ما زال وعيهم متشبّثاً بمرحلة الإستعمار الغربي، ولن يقرروا ان هذا ليس سوى إستعمار روسي، أشد هولاً من الغربي، لأنه استبدادي... إلا بعدما تتأبد قواعدهم في النفوس . وهم ينتظرون اليوم أن يتمكّن الروس تماماً من أوطانهم، أن تسيطر المزيد من الممارسات القيصرية المعادية للديموقراطية، لكي ينتبهوا إلى ان للروس أيضاً استعمارهم، المبني الآن على جاذبية صاحب العضلات الأكبر من بين أصحاب الطموحات بملء الفراغات.
عن المدن