" إن المهمة الكبرى التي تقع على عاتقنا هي... أن ننمي عقل الشعب، أن نملأه ، أن ننوعه، أن نجعله إنسانيا"1[1]
منذ ستة سنوات ولدت تونس جديدة من رحم الاستبداد وقال الشعب كلمته الحقيقية في
النظام السياسي الفاسد وكنس بلا رجعة للرموز الشمولية التي رزح تحتها لعقود طويلة وهبت بقوة رياح الانعتاق والتمرد.
لقد حملت الثورة العربية في تونس جملة من الوعود التأسيسية التي أشعت على المنطقة وألهمت الحراك الاحتجاجي المدني وبالطرق السلمية في الفضاء العام العربي وتتمثل في ضرورة امتلاك المقدرات الذاتية بصورة سيادية ضمن الخصوصية الحضارية التابعة لها:
- الحرية liberté : لقد طلب الشخص المناضل في تونس بأن يكون الشعب بأسره غير خاضع بصورة كلية لأي سلطة خارجية ولأي ضغط غير إرادته العامة ويتمتع بصور كاملة بالقدرة على الفعل والمبادرة ونحت مصيره بنفسه.
- الكرامة dignité : لقد رفض عامة الناس أن تتم معاملتهم كأدوات لتحقيق أغراض معادية لإنسانيتهم وطالبوا بأن يقع احترامهم من حيث هم غاية في حد ذاتهم واعتبار شخصيتهم المعنوية وتقدير هويتهم الرمزية ومعاملتهم بصورة حضارية واستحقاقهم للمكانة المرموقة التي تليق بهم كبشر.
- الاعتراف reconnaissance : لقد هب الشعب بصورة جماعية في المناطق الشعبية المهمشة والمحرومة ضد السلطة المركزية ورفض ممارسات الازدراء والإقصاء والتبخيس وعبر عن توقه إلى الاعتراف الاجتماعي باحثا عن شرعية الانتماء منتزعا المواطنة الكاملة والتقدير التام وطامحا إلى الدمج والتمييز الايجابي مع غيره.
- العدالة justice : لقد ثار كل من الشباب والنساء والعاطلين من أجل استعادة الحقوق المادية الضائعة وطالبوا بتطبيق مبدأ أخلاقي عادل بصورة متوازنة وإنصاف المظلومين ورفع الضيم عن المضطهدين وجعلوا من العدالة القيمة السياسية التي تخرج المجتمع من الحاجة والعوز إلى توزيع الثروة وتفتيت السلطة وتقاسم المعرفة والعلم بشكل جمهوري.
- المساواة égalité : لقد تفطن الشعب من خلال ضمائره الصادقة وعقوله النيرة ومثقفيه العضويين وفاعلييه السياسيين الجذريين إلى الخلل في العلاقات ودافعوا على خيار المساواة للقضاء على التفاوت ومعالجة التعسف وخلع التمركز.
- السيادة souveraineté : لقد حرص الثوار على افتكاك الحكم من دوائره الضيقة في القصور ومنح سلطة القرار وتقرير مصيره إلى الشارع والفضاء العمومي ومنحوا الشعب القدرة المطلقة والمستمرة من أجل ممارسة السلطة وامتلاك النفوذ السياسي من أجل الارتقاء بنفسه وبأمته نحو السؤدد والتوحد ضمن الإطار العربي والإسلامي والإنسانية التقدمية ضد الرجعية والامبريالية.
بهذا المعنى حدد الحراك الاحتجاجي جملة القيم المطلقة والمبادئ التوجيهية التي يمكن السير في اتجاه تحقيقها وعَوَّل على الحرية في مختلف تجلياتها وعلى الكرامة الوطنية والعدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية والمساواة السياسية والاعتراف المتبادل بين المركز والجهات من حيث هي وعود ثورية للحدث الجلل الذي نحته في التاريخ السردي للذاكرة الجماعية للشعب التونسي.
هكذا تظل ثورة 14 جانفي 2011 حدثا استثنائيا وحقيقة ناصعة وقيمة مضافة ويستمر الشعب في كل الجهات العميقة والمناطق الداخلية والمدن الحضرية وأحيائها الشعبية في الدفاع على مشروعها الحضاري والاستماتة في تحقيق وعودها واستكمال مسارها وفك الارتباط مع العالم القديم واستقبال العالم الجديد في مجتمع خال من الشمولية ونظام سياسي تعددي وديمقراطي.
إن معالجة المسألة الاجتماعية وتوفير الشغل للمعطلين والانتقال من اقتصاد ملء البطون وإدارة الأزمات إلى الاقتصاد الإنتاجي يتطلب إرادة سياسية مبنية على مشروع استراتيجي ووعي ثوري باللحظة التاريخية لدى الكتلة التاريخية.
والحق أن الاستثناء التونسي يشق طريقه بثبات نحو المدنية وأنه بصدد توديع القرون الوسطى الظلامية بخطى واثقة وحثيثة وأن غد مشرق ينتظر المتفائلين والمصممين على الاستكمال. فمتى يعلم الملتفين على المسار المنير أن للثورة شعب يحميها وأنه قادر على تجسيم وعودها التأسيسية؟
المرجع:
[1] فانون (فرانس)، معذبو الأرض، ترجمة سامي الدروبي- جمال الأتاسي، دار الفارابي، بيروت، طبعة أولى، 2004، ص212.
كاتب فلسفي
[1] فانون (فرانس)، معذبو الأرض، ترجمة سامي الدروبي- جمال الأتاسي، دار الفارابي، بيروت، طبعة أولى، 2004، ص212.