منذ عدة عقود مضت أخذت مصداقية المثقف العربي داخل مجتمعاته تتراجع شيئًا فشيئًا، ولم يعد فاعلًا، مؤثرًا في اتخاذ القرار المجتمعي مثلما كان قبل ذلك، وبات هذا
المثقف بلا مصداقية، وعلى هامش الهامش، حتى إن صورته في الإعلام والأعمال الدرامية صارت مشبوهة، مثيرة للسخرية والتندُّر في كثير من الأحيان.
يحدث ذلك في زمن صعب، تكون المجتمعات العربية فيه في أشد حاجتها إلى المثقف والثقافة، فظلمة الرؤى تشتد، وماضوية الفكر تطال كل صغيرة وكبيرة من الحياة العربية، والمثقف لم يعد منتجًا لأفكار، ولا مخططًا لمشروعات مقترحة تعين هذه المجتمعات على تجاوز عثراتها والخروج من مأزقها، وقد تجلى في بعدها الشاسع عن جوهر العصر بشرقه وغربه، واستسلامها لتلك الغيبوبة الماضوية الدالة على أن العرب يحيون وكأنهم ليسوا من هذا العالم، وهذا الكون الإنساني الراهن بالطبع. يمكن إرجاع ظاهرة تراجع دور المثقف لأسباب كثيرة؛ منها ما هو سياسي، ومنها ما هو اقتصادي أو اجتماعي، فلقد تعددت الأسباب والتراجع ثابت، ولكن يمكن أن يضاف لتلك الأسباب مجتمعةً سبب آخر يتعلق بتحولات المثقف ذاته، وربما كانت هذه التحولات هي المرتكز الرئيس لتراجع دور المثقف.
لقد ظل المثقف منذ بداية العصر العربي الحديث حاملَ مشعلِ النور المضيء لظلمة العصور الوسطى التي طالما رتع فيها العالم العربي، وقد ظل ممسكًا قابضًا على هذا المشعل بيده كالقابض على الجمر، متسقًا مع آرائه وأفكاره، لا يغيرها أو يبدلها أو يبيعها مهما كانت الأثمان، ولطالما كان قادرًا على قول: لا، داحضًا من يقولون: نعم، وهو لم يغرِه ولم يغوِه منصب أو سلطة أو مال، وكان جُلُّ مثقفي أزمنة التنوير العربية فقراءَ، يعملون في مؤسسات التعليم المختلفة يؤدّبون ويعلّمون، فبات لهم تلاميذ ومريدون، وأشياع وأتباع فكر، يولّون وجوههم شطر مجتمعاتهم وهمومها ويسعون للإتيان بأفكار ربما تجبُّ أفكار من ربَّوهم وعلموهم إيجابية وتأثيرًا.
لكن مثقف اليوم وحيد، صنع عزلته بانصياعه لسلطات الاستبداد السياسي، واختار أن يكون مصنع أفكارها الرديئة، ومروّج بضاعتها الخاسرة التي مزقت الخرائط العربية ونكبت الأوطان. ولقد بات المثقف العربي من أكبر جامعي الذهب والدنانير، يلهث وراء كل من يملكها وينثرها له على الأرض، وبات يصارع من أجل الجوائز والعطايا والأكل على موائد اللئام، وفوق ذلك كله يقفز قفزات الأرنب البري بين الفضائيات ليبربر ويبرر ويفتك بكل كلمة حق وقيمة من قيم الخير، وليجعل الحقَّ باطلًا، والزورَ حقًّا، وهو لا يدري أن الناس صارت تدرك حجمه الحقيقي، ودوره التغييبي، وأنه -كما يقول الشاعر الروسي مايكوفيسكي-: ليس إلا غيمة في بنطلون.