منابر أدبية وثقافية كثيرة أغلقت أبوابها في مختلف
أقطار الوطن العربي، بعد أن كانت واجهة الكتاب العرب وحاضنتهم التي أسست لمشهد ثقافي
ثري ونوعي، نذكر منها مثلا
مجلة “الناقد” التي قدمتها أسماء مهمة مثل رياض الريس وزكريا
تامر وأنسي الحاج وغالي شكري ونزار قباني والصادق النيهوم، ثم إن تراجع صيت بعض المنابر
التي بقيت تنشر هنا وهناك مثل مجلة "الآداب" أدى إلى حالة “بوار ثقافي” عربي
حتّمت إعادة التفكير في خلق منبر ثقافي حر يهتم بالأدب والفكر خاصة منهما الحداثيان
والجديدان التنويريان، لذا ولدت مجلة “الجديد” اللندنية منبرا لا شعار له غير الجدّة
والتنوير وحرية الإبداع، وتصدر المجلة وهي في عمر السنتين اليوم، من منطلق تنويري غير
رسمي عربي، لتثير الأسئلة الشائكة وتحتضن الكتابة الجديدة والفكر الجديد في الثقافة
العربية
في واحدة من المفارقات التي يواجهها سوق النشر،
حيث مجلات كبرى أغلقت أبوابها وأخرى مهدّدة بأن تواجه نفس المصير بالغلق، بدأت مجلة
“الجديد” رحلتها في عالم النشر، وإن كانت واكبت صدورها أزمات عديدة ماثلة أمام الجميع
أبرزها حالة خيبة الأمل التي اعترت الجميع بعد خيبات الربيع العربي المغدور(وفقا لتسمية
أحد ملفاتها)
وكانت المفاجأة أن المجلة التي أسّسها في لندن الدكتور
هيثم الزبيدي، برئاسة الشاعر نوري الجرّاح، وفي ظل هذه الأزمات دخلت عامها الثاني،
مع بداية يناير 2016، ثابتة في رهانها منذ بداية صدورها والذي ضمنته في بيان التأسّيس
بإصدار مجلة مختلفة لذائقة قارئ مختلف، وهو ما أكّدته عددا تلو الآخر، بما طرحته من
قضايا حوتها ملفات شائكة، وأيضا بحواراتها البنّاءة مع شخصيات سامقة مثل إيف بونفوا
وسلمى الخضراء الجيوسي والمفكر صادق جلال العظم والمفكّر الأميركي بورس لورانس وطيب
تيزيني وغيرهم.
وجاء العام الثاني، لتجدّد رئاسة تحرير المجلة العهد
للقرّاء، فكانت البشارة كما جاء في استهلال العدد الأوّل من العام الثاني “بهذا العدد
تستهلُ الجديد سنتها الثانية مُنفتحة على الإبداعات الأدبية المبتكرة سردا وشعرا ومسرحا
ويوميات، وعلى التيارات الحديثة للفكر العربي، باذلة صفحاتها لأصوات التفكير النقدي
والأقلام العربية المنادية بالتغيير الاجتماعي والثقافي والسياسي”. كان هذا الرهان
إيمانا بواقع عربي يتغيّر بوتيرة مُتصاعدة، ومواكبة من الجديد لهذه التطورات كرّست
أعدادها اللاحقة لمواكبة هذه التغيُّرات.
المخاض العسير
اشتملت المجلة في أعداد السنة الثانية على ملفات
غاية في الجدّة والخطر في آن معا، مثل ملفات "التكفير والتفكير" وهو الملف
الذي جاء متزامنا مع تصاعد موجات الإسلام السياسي والمتشدّد، وكأنّ المجلة بعنوانها
اللافت الذي صدَّرت به الملف والعدد في آن واحد، أرادت أن تقفَ في جبهة المواجهة مباشرة.
وإمعانا في الدخول إلى قلب معركة المواجهة استهّلت
الملف بمقالة عن "وقائع الاستبداد الدينيّ" لهاني حجاج، وقدّم فيه قراءات
في ملفات الاستبداد المعنوي ثم الإرهاب الدموي الوحشيّ الذي كانت كراهيته لعنة على
الجميع.
منذ بيان التأسيس، لم تغب ثورات الربيع العربي عن
أعين القائمين على التحرير، بل إن المجلة تُعدُّ صوتا دفاعيّا عنها فبعد مرور خمس سنوات
على ثورات الربيع العربي فتحت المجلة ملف "الربيع المغدور" أو ما أسمته
"الثقافة العزلاء، الجغرافيا العربية وزلزال السنوات الخمس" فإذا كانت الثورات
فتحت باب التغييرات السياسية التي مع الأسف أُحبطت، إلا أنّ أهم نتائجها كانت التغييرات
والتحولات في الثقافة العربية.
مجلة الجديد أولت منذ سنتين من صدورها اهتماما بالغا
بالأنواع الأدبية على اختلافها من قصة وشعر ورواية
وتؤكد المجلة في هذا العدد أن الثورات مثلما كشفت
عن المطامع الإمبريالية التي عادت وتوحشت من جديد، وأسقطت ثقافة الاستبداد إلا أنها
في الوقت ذاته، كشفت عن حقيقة ربما تجيب عن سؤال الإخفاق، مفادها أن هذه الثورات والانتفاضات
العارمة والتاريخية في بلدان المشرق العربي منذ عام 2010 لم تنطلق من أي سيرورة تراكمية
تاريخية معينة ومعددة يمكن أن نسميها ثقافة كما أعلن نجيب جورج عوض في مقالته عن “الربيع
المغدور: الثقافة على مفترق التحولات”، وهو ما نتجت عنه محاولات أَتباع الثقافة القروسيطة
بالهيمنة وركوب موجات الربيع العربي، لترسيخ وجودها، بل وتأييدها إن أمكن، وهو ما يعني
حسب عنوان باسم فرات "تعرية النُّخب".
فانتفاضات الشارع هزت أسئلة الثقافة العربية وحرّكت
الركود الذي أصاب النخب الثقافية وفي الوقت ذاته عرّت النُّخب الثقافية، التي هي الأخرى
بحاجة إلى ثورة وإزاحة، لكن إذا كان الحال هكذا فما هي ثقافة ما بعد الزلزال؟، حسب
تعبير حبيب حدّاد وهو السؤال المُعضل في ظلّ حالة من الإحباطات وانقسامات الوعي وأيضا
الهوية.
الهويات والعنف
التغيير في الجغرافيا العربية، كان باعثا لمناقشة
مسألة الهوية، وهو ما تحقّق عبر أكثر من ملف، ليأتي ملف “انفجار الهويات: الصراع السياسي
والثقافي على أرض العرب”، الذي كرست له المجلة عدد شهر مايو 2016، لم ينفصل عن ملفات
سابقة كملف اللغة العربية وكذلك ملف الثورات العربية المغدورة، فالصراع أحد المشتركات
بين هذه العناصر، ومن ثم كان التساؤل “أهو حقا صراع سرديات أم عبث بالهويات؟!”، وهو
بطبيعة الحال يغذي صراعا شرسا على السلطة والمال والنفوذ في شرق لم يتوقف فيه الغرب
طوال القرن العشرين عن التفكير في خرائطه وشعوبه ومآلاته، منذ أن حسم صراعه مع الإمبراطورية
العثمانية بهزيمتها وآلت إليه "تركت الرجل المريض"، ومن ثمّ يُقدِّم أحمد
برقاوي "تأمُّلات في مسألة العرب والهوية"، ويتعجّب من هاجس التساؤل الذي
طارد المفكرين العرب دون سائر القوميات الأخرى حول مسألة الهُوية، ويحلل مفهوم الهوية،
واضعا إيّاها في سياقها الثقافي والتاريخي، وكذلك المشكلات التي تواجهها في ظل وجود
إثنيات أخرى تمثّل شريكا للهوية العربية، فيما ذهب إبراهيم الجبين بعيدا إلى كعب بن
لؤي أوّل من جمع العرب للسقي، بيوم يسمى العروبة، فيرى أنّه من الجور اختزال الهوية
العربية وتمظهرها الفكري والسياسي والثقافي في حيثيات القرن العشرين.
استكمالا لملفات الاستبداد والقمع، قدمت المجلة
ملفا عن ثقافة القمع الأبوي، باحثة عن المآل الذي وصل إليه المثقف العربي وسط بحر من
السلطات، بحيث لم تترك له حرية النقد والتأمُّل، وهذا التصارع في السُّلطات على الاستحواذ
نتج عنه “عنف العولمة” كما صاغه فتحي التريكي، وناقش إبراهيم الحيدري فكرة الهيمنة
الذكورية ومن أين نتجت، مُفرِّقًا بين النظام الأموي الذي سادت فيه سلطة المرأة/ الأم
في المجتمعات، واحتكرت القيادة السياسية والاقتصادية وأيضا الدينية، وبعد تطور الدولة
المدنيّة سقطت سُلطة الأم ليحدث التحول إلى سلطة الرجل، فحل النظام الأبوي الاستبدادي،
حيث أن العلاقة التي تتحكّم بين الرئيس ومرؤوسيه في العائلة والقبيلة والطائفة والمجتمع
والدولة هي شكل من أشكال السّيطرة الأبوية الهرمية.
المجلة ثابتة في رهانها بطرحها الملفات الشائكة
بحواراتها البنّاءة مع شخصيات سامقة
وتعود المجلة من جديد لطرح موضوع العنف، وتناقشه
عبر ملف حمل عنوان “التلاعب بالعقول – ثقافة بعث الماضي ودفن المستقبل” ويحلّل فيه
كُتّاب من مختلف الجنسيات العربيّة علاقة الثقافة العربيّة بالعُنف وعلاقة المنظومات
التعليمية والتربوية في العالم العربي بمشروعات الهيمنة على العقول وتلقين العنف وكراهية
الآخر، ويرى مُحرّر الملف أن هذه السياسة تقاسمها المستبدون والظلاميون متسلحين بنصوص
تأويلية للدين وأخرى تُعيد إنتاج الماضي المتوّهم في خطابات مُعادية للحياة.
هذه أشهر الملفات الفكرية التي وقفت على أرضيتها
وخلفياتها وجذورها وناقشتها “الجديد” مع أبرز المفكرين والكتاب في العالم العربي في
سجال عميق طرح أفكارا خلاقة، معززة من أهمية الثقافة، باعتبارها القوة الناعمة التي
يجب أن تتصدر المشهد، وتُقلّل من حدّة العنف المؤثر على الجميع، فلا صوت فوق صوت الفكر.
الأنواع الأدبية وأسئلة الواقع
أولت مجلة “الجديد” منذ صدورها اهتماما بالغا بالأنواع
الأدبية، من قصة وشعر ورواية. ومع بداية سنتها الثانية 2016، أكدت الجديد في استهلال
العدد الأول من هذا العام، على أنها ستواصل ملفاتها عن الأنواع الأدبية كافة، وبالفعل
على مدار العام احتل المسرح عددين من أعداد المجلة، الأول كان نصوصا مسرحية على مختلف
أشكالها، والثاني كان بمثابة شهادات ودراسات نقدية عن صوت المجتمع (المسرح). وإضافة
إلى ملف المسرح كان هناك ملف عن الرواية بعنوان “الحرائق تكتب والأدب يتساءل”، وآخر
عن الطفولة، وثالث عن الكتابة النسوية.
قدمت “الجديد” في عدد أبريل 2016، ملفا بعنوان
“الحرائق تكتب والأدب يتساءل”، وخصصت هذا الملف ليكون متوائما مع حفرة النار التي أسقط
فيها الربيع العربي، ومن ثم جاء تساؤل نوري الجرّاح رئيس التحرير كيف يمكن أن يكتب
الروائي روايته عن حدث إنساني مهول بينما الحرائق تكتب الأقدار البشرية؟ وتلاه بأسئلة
أخرى من قبيل كيف يمكن للكاتـب أن يكتب أدبا روائيا بينما العواصف تأخذ كل شيء وتأتي
على كل شيء ولا تُبقي سوى الدم حبرا للكتابة؟ وفي سياق هذه التساؤلات وغيرها جاءت شهادات
الكتّاب على مُختلف جنسياتهم العربية مؤلمة وكأنها نكأت عللهم وأوجاعهم الغائرة، وأجمعوا
على الدخول بهذه التساؤلات إلى مناطق ملغومة تسيجها أهوال المشهد الدامي.
قدمت 'الجديد' في عدد أبريل 2016، ملفا بعنوان
'الحرائق تكتب والأدب يتساءل'، وخصصت هذا الملف ليكون متوائما مع حفرة النار التي أسقط
فيها الربيع العربي
في توقيت مهم من صدور “الجديد” أعني بعد مرور عام
ونصف العام، فتحت المجلة ملف المسرح في عدد يونيو 2016، وهو الملف الثاني في الأنواع
الأدبية بعد ملف القصة القصيرة الذي طرحته في السنة الأولى من عمرها وعلى الأخص في
عددها الخامس. واحتفاء بمرور 400 عام على الظاهرة الشيكسبيرية، وقد جاء الملف ليؤكّد
أولا أهمية المسرح بعد أن صارت الرواية هي المهيمنة بكتابها وجوائزها، بوصفه صوت المجتمع
المباشر، وإن كان ثمة غرض آخر هدفت من ورائه إدارة التحرير تمثّل حسب ما جاء في افتتاحية
العدد “أن نصوص هذا العدد ستمكن النقاد العرب الأدبيين والسوسيولوجيين من استشكاف فضاءات
الجدل والحوار داخل هذه النصوص القادمة من جغرافيات عربية مشتعلة وأخرى تعتمل فيها
الصراعات الفكرية والسياسية والاجتماعية”، وقد احتوى العدد بأكمله على سبعة عشر نصّا
لكُتّاب من جغرافيات مُتعدِّدة، وتراوحت الأعمال بين المسرح الدرامي الحديث ومسرح اللامعقول
ومسرح ما بعد الحداثة ومسرحيات المونودراما التي تتداخل فيها عناصر السرد والشعر الوثيقة
والتشكل عبر المونولوجات.
الكتابة والأنوثة
وفي عدد الكتابة والطفولة طرحت المجلة ملفا عن الأنوثة
ومكانتها داخل الثقافة العربية والاجتماع العربي والمرأة والكتابة. وقد أثارت مقالات
هذا العدد جملة من القضايا الشائكة المتعلقة بالميزات المستجدة لنصوص المرأة، وبالقضايا
التي تشغل أدبها وفكرها، وبتاريخ الكتابة النسوية العربية والتحولات التي شهدتها، وبأوضاع
المرأة في لوحة التمايزات المجتمعية العربية وأثرها في ثقافة المرأة ومغامرتها في الكتابة.
بعد هذه الوجبة الفكرية والأطروحات في الأنواع الجديدة،
سيبدو من الصعب التنبؤ بما ستحويه المجلة في أعدادها القادمة، بل وضعت المجلة نفسها
في فخ فعلته بنفسها حيث فتحت جميع الملفات في أعدادها في عمرها القصير، ومن ثم سيكون
التفكير الجديّ في محاور جديدة غير مستهلكة تدخل بها عامها الثالث، أهم أولويات التحرير
في الفترة المقبلة، وفي نفس الوقت تحافظ بها على مكانتها التي رسختها في عالم المجلات
التي في ظل أزمات مالية وأخرى سياسية، ترنحت الكثير من المجلات الثقافية وصارت مهددة
بالغلق، ومن ثم الأمل صار مرهونا بـ“الجديد” لتسد الفراغ، بل وتقدم وجبة دسمة ينتظرها
القراء مع أول كل شهر. وهو التحدي الكبير الذي ستواجهه إدارة المجلة، وإن كنت على ثقة
أن هذا يعد دافعا مهما للتميز والفرادة.
عن العرب اللندنية