باعتباري مناضلا
يساريا مخضرما؛ أي أني كنت كاتبا يساريا في المرحلة الورقية التي امتدت من 1988 إلى
2006 وحافظت على صفتي تلك في المرحلة الرقمية المنطلقة
ابتداء من 2012 إلى حدود الساعة،
يسهل علي القيام بمقارنة بين المرحلتين واستنتاج ما يمكن استنتاجه من سلبيات وإيجابيات.
في المرحلة الأولى،
كنت متعلقا بجريدة "الاتحاد الاشتراكي"..أقتنيها يوميا وأتدبر ثمنها رغم
أن المنحة التي كنت أتقاضاها كطالب جامعي تذوب كالملح في غضون الأيام القلائل التي
كانت تعقب يوم تسلمها من بناية الخزينة العامة المجاورة لمقر البرلمان في شارع محمد
الخامس. استمرت علاقتي بها وطيدة وأنا مشروع أستاذ في طور التدريب والتكوين بمركز التكوين
بشارع غاندي في الدار البيضاء..لكن بمجرد تعييني كمعلم متدرب، عزمت على أن أكتب مقالات
كي أنشرها على أعمدتها إلى جانب مقالات حسن نجمي ولحسن العسبي ومصطفى العراقي ومديرها
محمد البريني، ولم لا؟
في بادئ الأمر، كنت
أزور مقر الجريدة بزنقة الأمير عبد القادر بالدار البضاء ماسكا بيدي حزمة من الأوراق
تتضمن موضوعا كنت أعتقد في قرارة نفسي أن هيئة تحرير الجريدة سوف تجده صالحا للنشر.
كان بواب مقر الجريدة صارما مع الغرباء من أمثالي؛ لهذا كنت ممنوعا من الدخول. أرى
بأم عيني أفرادا كثرا يدخلون ويخرجون ولا أحد يثيره وجودي ولا واحدا منهم التفت الى
ما بيدي من أوراق..كنت في هذه اللحظات أشعر بأني كيان شفاف لا أحجب ما يقع ورائي من
أشياء متحركة وثابتة..ومع ذلك، لم أقفل راجعا إلى المحمدية إلا بعد أن أضع أوراقي في
يد أمينة لأحد الصحافيين العاملين بالجريدة.
هكذا، إذن، تبدأ
تجربة أخرى تتسم بالتوتر والقلق الناجمين عن انتظار صدور المقال المودعة نسخته لدى
الجريدة..من يوم لآخر، تتكرر محاولة البحث بدون طائل، ومع ذلك ما تركت اليأس يتسرب
إلى عزيمتي. كيف أيأس وأنا الشاب المتخرج حديثا من الكلية بإجازة في الفلسفة؟ كيف أدع
اليأس يسري إلى نفسيتي وقد كنت حريصا على قراءة جريدتي اليومية المفضلة قراءة استقصائية
تقف عند الدلالات والتقنيات؟ سلة المهملات في الجريدة لن ترهبني..لا بد من أن تجد كتاباتي
طريقها إلى النشر في يوم من الأيام.
في خريف 1988، في
أحد أيام عيد المولد النبوي تحديدا، رأيت مقالا لي منشورا في جريدة الاتحاد الاشتراكي
باسم مستعار كنت أنا من وضعته ويا ليتني لم أفعل! لقد أهدرت فرصة إشهار اسمي كتعويض
عن انتظاراتي وخيباتي الخوالي..لكن الأمل الذي يسكن جوانحي أهداني إلى أن الخير أمام
وأن مسافة ألف ميل تبدأ بخطوة أولى. وهكذا استمرت محاولاتي مكللة بالنجاح حتى صار اسمي
رائجا على صفحات الجريدة التي كان آخر ما نشرت فيها مقال عن جيمس جويس في الصفحة الأخيرة
إلى جانب مقال لحميد جماهري عن الشاعر الفرنسي أبولينير.
بعد مرحلة توقف عن
الكتابة دامت ست سنوات سميتها بمرحلة عبور الصحراء وقد استغرقت ست سنوات امتدت بين
2006 و2012، استأنفت نشاطي معلقا على مقالات هسبريس التي كانت دائما تصادق على نشر
ما أكتب على الهامش المخصص للقراء..ولجت منذئذ المرحلة الرقمية وبدأت أحارب نسبيا أميتي
الرقمية وشرعت في التدرب على استعمال لوحة الكتابة (الكلافيي)..في البداية، عندما كانت
ترى تعاليقي النور في "هسبريس" باعتبارها أول جريدة إلكترونية بالمغرب، استهوتني
العملية وأدهشتني مع شعور بإعجاب نرجسي سيما وقد كنت حريصا على توقيع التعاليق باسمي
الكامل الذي دأب على أن يتصدر التعليق في كامل حيزه ملونا بالأحمر..أحيانا أكتب على
هامش نفس الموضوع أكثر من تعلبق.
فيما بعد، صارت لي
صفحتان في الفيسبوك. واحدة خاصة بالمستجدات ومفتوحة في وجه الأصدقاء الافتراضيين والواقعيين
وثانية مخصصة لي أكتب عليها وأنشر فيها ما شئت..مع توالي الأيام، استوعبت التطبيقات
التي يسمح بها الفيسبوك من كتابة وتواصل ونشر..إلخ. وهكذا انفتحت على عالم الصحافة
الإلكترونية وطنية كانت او أجنبية وربطت علاقات مع بعض الجرائد الوطنية كقارئ وكاتب..لم
أعد في حاجة الى القلم والأوراق..اعفاني الانخراط في الفيسبوك من تجشم عناء السفر إلى
حيث الجريدة لأودعها أوراقي وأنتظر اليوم الذي تنشر فيه..عندما أنتهي من كتابة مقال
في موضوع ما، تكفيني بضعة نقرات لكي يصل إلى مدير الجريدة التي أوثرها كمنبر لنشر ما
كتبت..