ربما يكون صحيحاً ما ذهب إليه محمد عابد الجابري
(1936-2010) ذات مناسبة، من أن الحقيقة لدى كثيرين من الكتاب والباحثين العرب، فضلاً
عن المثقف العادي، هي
ما يقوله آخر كتاب قرأوه، أو آخر حديث سمعوه. الأمر الذي يؤكد
رسوخ الاستعداد للتلقي، وغياب الروح النقدية في نشاط العقل العربي. ولعل ذلك أبرز ملامح
الأزمة الثقافية العربية المستمرة. ومن هنا تبدو للجابري العودة إلى الفلسفة ضرورة
يفرضها "فشل التدبير الذي تم بدون حكمة".
العودة إلى الفلسفة لتعزيز الروح النقدية، هي في
إحدى محطاتها عربياً عودة للجابري، واحداً من الرواد، طالباً في شعبة الفلسفة في كلية
الآداب بالرباط، منذ استحداثها لأول مرة في العام الدراسي ( 1958- 1959) على يد الفيلسوف
المغربي محمد عزيز الحبابي (1923- 1993)، ومدرساً فيها (1967)، لينال بإشراف الحبابي
رسالته في الدكتوراه (1970-1971)، وصولاً إلى تبلور مشروعه الفلسفي النقدي، فارضاً
حضوره الثقافة العربية فاعلاً ومنفعلاً، وصاحب أطروحة في نقد التراث لا تزال جريئة
ومثيرة للجدل.
يحاول كتاب "محمد عابد الجابري: المواءمة بين
التراث والحداثة"، من خلال مجموعة من البحوث موزعة على خمسة فصول، وإسهامات مجموعة
من الباحثين، أن يعرض أهم المفاصل في مشروع الجابري الفكري النقدي، التي تعكس صورة
متكاملة عن جهده المعرفي والمنهجي، ونتائجه.
مسيرة متعثرة:
من خلال الاستناد إلى سيرة الجابري الذاتية، واستعانة
بآثاره وجهوده الفكرية والسياسة، يحاول كل من كمال عبداللطيف وحسن بحراوي (الفصل الأول)
التعرف على بعض أوجه الشخصية القاعدية للمفكر، وبناء مجموعة من العناصر والمواقف المتصلة
بجبهات عمله السياسي والتعليمي والبحثي التراثي.
يخلص الباحثان من خلال مسيرته التعليمية والمهنية
المتعثرة، أنها ارتبطت بالنظام التعليمي الموروث عن عهد الحماية، الذي وضع الحواجز
أمام المتعلمين، مما دفع بأكثريتهم إلى اليأس والإحباط، والتخلي عن الدراسة لامتهان
أعمال بسيطة لمواجهة متطلبات الحياة. وأمام مسار كهذا صمد الجابري، وتطلع إلى استكمال
تكوينه، مختاراً الفلسفة تخصصاً معرفياً وأفقاً في النظر مساعداً في فهم التاريخ والمجتمع،
ليخوض معاركه على جبهات ثلاث، حافظ معها على وحدة في الرؤية.
في جبهة تدريس الفلسفة، جهد الجابري لتحصين تدريس الفلسفة بالشروط التي
تتيح إمكانية تعليمها لتكون عنصر إخصاب في تربة المدرسة والمجتمع المغربي. أما في جبهة
التراث، فوجد الباحثان في أطروحته "نقد العقل العربي" أنها تدعم، على طريقتها
الخاصة، قيم النقد والروح النقدية في ثقافتنا، وتقترح آليات معينة في كيفية تجاوز مظاهر
الارتباك الثقافي. ومنذ ارتباطه بالحركة السياسية الوطنية في الخمسينيات، والتزامه
صف الحركة التقدمية واليسار المغربي، ساهم الجابري في المجال الثقافي انطلاقاً من مقدمات
محددة، ومارس في السياسة أدوار المثقفين.
النهضة والنهضة المتخيلة
في الفصل الثاني، يحاول محمد نور الدين أفاية استخلاص
أبرز ملامح مشروع الجابري النهضوي، فيرى أنه أدرك أن نقد العقل جزء أساسي أولي من كل
مشروع نهضة، فمن دون عقل لا يقم بمراجعة شاملة لآلياته ومفاهيمه وتصوراته ورؤاه، سنبقى
في مشروع النهضة السابقة المتعثر حتى الآن.
يتابع أفاية، إن الجابري يقترح المقاربة، الخطاب
العربي المعاصر، قراءة تشخيصية تسعى إلى إبراز عيوب ذلك الخطاب وتناقضاته، وليس إعادة
بناء مضمونه. فما يحرك القراءة ينبغي ألا يكون منطوق القول (النص) وحسب، وإنما الكيفية
التي يحصل بها القول، ما يدفع الخطاب إلى تفكيك ذاته بإظهار تناقضاته. ومن خلال المزاوجة
بين المعالجة البنيوية والتحليل التاريخي، ينظر الجابري إلى الفكر العربي الحديث والمعاصر
من خلال القضايا التي يعالجها، وليس من خلال
التيارات الأيديولوجية التي تتقاسمه.
أدرك الجابري، كما يذهب أفاية، أن الوعي النهضوي
العربي لا يفكر في النهضة من خلال الواقع الذي يعيشه، وإنما من خلال نموذج خارجي آخذ
في الابتعاد عنه. حيث يتوغل النموذج الإسلامي في الماضي، فيجعل التفكير فيه يفقد أسبابه
الموضوعية. ويتوغل النموذج الأوروبي في المستقبل، بشكل يجعل أمل اللحاق به يتضاءل أمام
التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل. لذا عجز الخطاب النهضوي العربي منذ القرن التاسع
عشر إلى اليوم عن إنتاج مضمون لما ينعته بالنهضة. ويخلص الباحث، إلى أن إشكالية النهضة
في فكر الجابري هي إشكالية بالفعل، وسؤال تاريخي مركب، يفترض إعادة بناء حضارية للذات
العربية في تجذّرها التاريخي وفي انتمائها لزمن العالم.
مرجعية العقل العربي وفاعلياته
متعاطفاً مع الجابري، معرفياً لا وجدانيا، يندفع
محمد مزوز (الفصل الثالث) ليستشرف مقاصد الجابري من العقل العربي تكوّناً وبنية. فيذهب
إلى أن الجابري (تكوين العقل العربي) لم يجد شيئاً يتقدم في الثقافة العربية الإسلامية،
منذ العصر الجاهلي حتى اليوم، مشيراً بأصابع الاتهام إلى عصر التدوين، حيث دُوّن العلم
وتم تبويبه من خلال وضع شروط تعيد بناءه تراثاً، وإطاراً مرجعياً لنظرة العربي للأشياء
والكون والإنسان والمجتمع.
ولأن الحضارة العربية حضارة فقه مُشرّع للعقل، وجد العقل العربي نفسه
أسيراً لسلطة النص، وفي وضع تكاد تقتصر عبقريته في البحث لكل فرع عن أصل، ولكل جديد
عن قديم يقاس عليه. ومع احتدام الصراع بين هذا النظام المعرفي البياني، منتوجاً عربياً
خالصاً، ونظام العرفان الوافد الذي تبنته المعارضة لا سيما الشيعية، استعانت الدولة
العباسية بالعقل الكوني (المنطق) لمواجهة العقل المستقيل (العرفان والغنوص)، مما أسس
لأزمة العقل العربي التاريخية المتمثلة بتداخل المنظومات المعرفية وتنابذها، بدلاً
من تجاوز بعضها بعضاً كي تتضح سيرورة هذا العقل التاريخية.
بانتصار العرفان تمت استقالة العقل في الثقافة العربية
الإسلامية المستمرة حتى اليوم. لذا، يحاول الجابري (بنية العقل العربي) المضي قدماً
في مشروعه النقدي، محاولاً تحليل النظم المعرفية الثلاثة (البيان، البرهان، العرفان)
للوقوف على مكامن الخلل فيها. وبينما انتهى البيانيون إلى القول بالعادة والإمكان،
بدلاً من الضرورة والطبع والسببية، انتهى العرفانيون إلى تكريس رؤية سحرية للعالم صميمية،
لا تعترف بقيود الزمان ولا المكان ولا قيود الطبيعة وسنن الكون. أما جعل البرهان خادماً
للبيان، فأدى إلى الخلط بين علم الكلام والفلسفة والتصوف، ومن ثم تداخل النظم المعرفية
وتصادمها، مما بات يتطلب إعادة التأسيس داخل الثقافة العربية.
يضيف مزوز، أن الجابري يراهن على بعث الروح الرشدية.
كما يراهن على طريقة الشاطبي وابن خلدون ورؤيتهما للعقيدة والتاريخ، كونها مشروعات
برهنت قدرتها في التصدي للسلطات التي تكبل العقل العربي، أو في تجاوزها عبر بدائل تنسجم
مع مقتضيات العقل الكوني في كل زمان.
من الفلسفة إلى البلاغة
في الفصل الرابع، يحاول محمد العمري رصد حضور البلاغة
في عمل الجابري من مداخل ثلاثة: الوظيفة التبليغية البيداغوجية، البلاغة التطبيقية،
والبلاغة في نسق العقل البياني. ويرى أن التحول نحو المجال البلاغي بدأ بمجرد الخروج
من الجزأين الأول والثاني من نقد العقل العربي. أما الرباعية المتعلقة بتبيين القرآن
وتفهيمه، فتنتمي في 90 بالمائة منها إلى البلاغة التطبيقية، وإلى شرح النصوص لغوياً.
ويعلل عدم ممارسة الجابري الوظيفة البلاغية الشعرية والمحاججة الصرفة بأنه لم يكن في
صدد نص من المخيلات والمصدقات بقواعد نقدها الخالصة، بل تعامل مع مستويين من البلاغة:
استعمال أدوات بلاغية (صور حجج مقامات ومؤثرات مختلفة لتقديم مادة معرفية)، وتقديم
نصوص مركبة (أو شبيهة) وشرحها مما ييسر فهمها ويعيدها إلى عصرها.
يذهب العمري إلى أن البلاغة الجديدة، في بعدها التداولي
(نقد الخطاب البلاغي)، كانت أنسب لاستيعاب الاختيار الذي سار فيه الجابري، أي عقلنة
الخطاب العربي من خلال نقد التراث، ولو أنه سلك هذه الطريق التي سار فيها بيرلمان ومناطقة
القيم، في أجواء الحربين العالميتين، لأمكنه استيعاب أرسطو في بعديه النقدي والبرهاني
والحجاجي التداولي، بل الشعري أيضاً، ولما كان بحاجة الى الهجوم العنيف على بلاغة ابن
المقفع والكتاب المترسلين، الذين اتهمهم بتمرير أخلاق الطاعة عبر بلاغة الترسل. ويلحظ
العمري أن الجابري بدأ يتحول نحو الاحتمالية الخطابية المحكومة بترتيب القيم، عندما
رأى أن مسعى النقد العقلاني لم يحل دون تحول عالم المنطق إلى درويش، والعالم الليبرالي
إلى عبثي أو بهلوان.
يراهن العمري أن تسهم القراءة البلاغية في إبراز بُعد مهم من أعمال الجابري
لم يهتم به دارسو أعماله، وفي تفسير انتشار أعماله بين القراء العرب.
تجديد داخل التقليد
سعى الجابري إلى تقديم قراءات للموروث الثقافي تفسح
المجال لعملية التجديد من الداخل، ويحاول سعيد شبار(الفصل الخامس) إبراز أهم القضايا
والمباحث والمناهج المتوسلة في سبيل ذلك.
فالجابري، حسب شبار، ينتقد هيمنة آلية القياس على
سائر المجالات، لا الآلية نفسها في مجالها الأصلي، مسطراً خطوات المنهج، ومستويات القراءة،
ومطبقاً لهذه وتلك في أعماله، لا سيما مشروعه في تعريف القرآن وفهمه. لذا ينتزع الجابري
من مناهج المفسرين والمحدثين تفسير القرآن بالقرآن، واعتماد القرآن نفسه محدداً منهجياً
في قبول المرويات وردّها، كما يضيف تدقيقاً على مستوى المنهج، وهو التعامل مع القرآن
بوصفه معاصراً لنفسه ومعاصراً لنا في الوقت نفسه.
ومن أجل تطبيق هذا المبدأ، ينبغي التمييز بين النص
القرآني كما هو في مجموع المصحف من جهة، والقرآن بحسب ترتيب نزوله، وينبغي التعامل
مع كل موضوع نطرحه بشأن القرآن بحسب طبيعته، فما كان ينتمي إلى النسبي والتاريخي رجعنا
به إلى ترتيب النزول، وما كان ينتمي الى المطلق واللازمني، طرحناه على مستوى القرآن
ككل، بوصفه يشرح بعضه بعضاً، ويكون الحكم فيه هو مقصد الشارع وليس الزمن والتاريخ.
وهذا لا يمنع اعتماد المستويين معاً حيث يقتضي الموضوع ذلك.
يتنبه شبار مع الجابري، إلى أن القرآن ليس كتاب
قصص بالمعنى الأدبي الفني المعاصر، وليس أيضا كتاب تاريخ بالمعنى العلمي المعاصر للتاريخ،
بل هو كتاب دعوة دينية، هدف القصص ضرب المثل واستخلاص العبرة، والحقيقة التاريخية التي
يطرحها النص القرآني إنما تتمثل في الدرس الذي ينبغي استخلاصه.
أخيراً:
ما انفك مشروع الجابري يواجه انتقادات عدة، من منطلقات
فكرية وأيديولوجية مختلفة، لعل أبرزها تلك التي نسبت لمشروع الجابري رؤية شوفينية تنتصر
للثقافة المغربية الأندلسية ضدا على الثقافة المشرقية، بناء على مفهوم القطيعة الأبيستمولوجية،
الذي عمق الهوة بين الثقافتين إلى حد جعل إمكانية التواصل بينهما مستحيلة.
انتقادات كهذه، يرى فيها محمد مزوز أنها تتناسى،
عن قصد أو غير قصد، أن مسار الثقافتين المشرقية والمغربية لقي المصير نفسه، أي استقالة
العقل، حسب الجابري، بانتصار العرفان، وأن الانتصار للثقافة المغربية الأندلسية ليس
انتصاراً لهوية مزعومة، وإنما لـقيم العقل الكوني.
-"محمد عابد الجابري: المواءمة بين التراث
والحداثة" كتاب من إصدار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تحرير حسن بحراوي
وآخرون، أعده وقدم لطبعته الأولى (بيروت، تموز/ يوليو 2016) كمال عبداللطيف
*كاتب فلسطيني