لعل هذه القراءة المتواضعة تفي ببعض المطلوب، وتحظى بقبول القراء والمشاركين في التحرير، بعد أن حوَّلتها من تعليق طويل فات وقته إلى مادة مستقلة للنشر. مع خالص
تحيتي ومودتي وتقديري واحترامي للكاتب الصديق، الذي أرجوه ألاَّ يتوقف أو يَهِن أو "يتكاسل"، ومن الإنصاف أيضاً أن أتوجه بالشكر العميق وأنوه بأسرة التحرير، تتولى رعاية المبتدئين"الهواة" والمحترفين جنبا إلى جنب بلا مفاضلة أو تمييز.
صباح مزهربكل ألوان وأطياف الطبيعة البكر، يقتنص الجمال ويملأ الأنفاس بعطرها، ويدفع النفوس الراضية المطمئنة إلى التفاؤل ولو قست على القلوب، بفعل الحنين إلى مستقبل كان ينبغي أن يتحول إلى الأفضل، وأن يكون من أهم مقوماته ما يسعف ويريح.
هذا النص ليس كباقي النصوص التي عرفتها للكاتب الصديق إبراهيم يوسف من لبنان، صاحب حلقات السرد البديعة، في العلم والمعرفة والشعر وأدب الرحلات والقليل من السياسة، وصاحب النصوص التي تواصلت فلم تنقطع، مذ عرفته من عقد من الزمن أو ما يزيد، ليتحدث هذه المرة عن محطة بارزةمن طفولته بعفوية خالصة، تتسم بمقارنة الحاضر بالماضي والاختلاف في أسلوب الحياة وطريقة التفكير، مع تطور الزمن وفيض من العبرة وتجاربه الغنيَّة.
عندما يقتلك الحنين..؟ جوقة مشاعر متنافرة حينا ومتآلفة أكثر الأحيان، تغرز مديَّتها في مجاهل الذاكرة ومتاهتها، وتستخرج من طياتها نفائس أحداث غابت مع العمر، بتحريض من رغبة ذاتية تسيطر في استرجاعها على مختلف المشاعر.
ما أمتعها من لحظات يا إبراهيم،تسترجع من غياهب الزمن، ماتغيَّر بفعل الزوروالبهتان والزمن المنكود، لتتلاشى معه الصورة المشرقة حد الزوال،والمحزن المحبط يا صديقي أن تنشط في خريف العمر وفي الأوقات القليلة الباقية، كل الأسباب التي تربطنا بالماضي، وتتوالى صوره بلا حواجز أو حدود؛ ليحكي العقل في الظاهر والباطن لغة الحسرة والحنين، ببساطة خالصة وانسجام بلا مثيل.
"مُضناك جفاه مرقده وبكاه ورحَّم عوده.. حيران القلب مُعذبه مقرُوح الجفن مُسهِده". مقارنة الماضي بالحاضر تستنفر النفوس وتحرضها، وتقودها إلى الكشف عن فائض من مخزون الفكروشتى الكوامن، فتدغدغ أرواحنا بكثير من الوداعة وأحلى المشاعر، أو تدفعنا إلى مزيد من الحفر في خلايا الذاكرة، واستحضار كثير من تفاصيل الزمن القديم.
ليس ما نواجهه اليوم يا صديقي إلاَّبعض ما عاناه آباؤنا وأجدادنا من قبل، ولو بأسلوب مختلف، لتبقى صورة اليوم غير مكتملة المعالم وليست واضحة بعد، مع كثير من الترقب والحذر الشديد.إنه تفاوت واختلاف الأجيال وصراع الحضارات المتغيرة باطراد، أو قل هو الصراع على الحياة، لا سيما ونحن نحاول صهر الأحاسيس والمفاهيم في بوتقة ضيقة واحدة.
رسمت بنصكيا صديقي لوحة ملونة معبرة بأدق التفاصيل، ولو أنك لا تلتزم بالمألوف في نهج الكتابة، كما هي العادة التي يتوسلها سائر الكتاب ممن قرأنا لهم وتعودناهم..لعل السبب الأهم يبقى في إبراز ماهية الصورة وجماليتها، حينما تستعيد إلى الذاكرة لغة سردية ساحرة بأسلوب مختلف، وتصويراً آليا بالكاميراوالقلم، وأنت تمعن في استحضار الماضي،فتقارن وتعادل وتحلل وتناصر.. فتخاصم، ولا تعادي أبدا مهما كانت الأسبابوالدوافع.
إنه خليط من كل هذه المشاعر في النظرة الناقدة المبصرة والمنتصرة في النهاية. بل هي سيرة ذاتية آسرة لشدة ما تتسم به من العفوية والتجرد والصدق، والقلم النظيف يكتب ملامح الزمن الماضي بكفاءة عالية، بسيئاته وحسناته على حد سواء. هذه اللغة المميزة وأنا أطالعها سأعرف من يكون صاحبهاعلى الفور.
نحن يا صديقي من جيل واحد وعمر متقارب،وفروقات تكاد لا تذكر في التعاطي وطريقة التفكير. لعل ذات المشاهد رأيناها معا..؟ ولو كل منا رآها من زاوية مغايرة. اختلفنا أو اتفقنا لافرق، فخلال مسيرتنا طالت أو قصرت، مرّت علينا ذات العوامل والتطورات، إلى أن وصلنا إلى مرحلة الخطوات السريعة وقفزات بعيدة لم تكن في الحسبان.
بتنا نسابق الزمن بالمزيد من المجهود الشاق؛ الذي لا يستريح ولا يهدأ، فلم يعد لدينا ما يكفي من الوقت ولو لقليل من الراحة واستراحة المحارب، كالإسترخاء في كرسي على شاطىء البحر ونحن نضع على رؤوسنا قبعات من القش، وإلى جانبنا "ترانزستور" وفي أيدينا كتاب.
قسرا أو طوعا نحن نعيش عصرالاتصالات المخيفة، وزمن الألكترونيك والأجهزة المحمولة الذكية التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتنا، بل حالة مسيطرة على كل أنظمة حياتنا، ووجدنا أنفسنا معها نندفع إلى الزمن المعولم، الذي يقل فيه إنتاجنا وتنهار معه اقتصاديات بلادنا، وربما أخلاقنا أيضا، وتتحول فيه الحدود المفتوحة إلى انزلاقات أمنية، تتلاعب فيها أيد معادية شريرة، تتنقل بأريحية بين سائر مقومات البلاد لتنال منها وتقوضها، حيث يصبح فيه المواطن الإنسان في درجة متدنية جداً، بفعل ما تنقلب عليه كل أسباب ومقومات هذه الحضارة المنكودة.
ربما تأخر إدراكنا لماهية ما يجري، ولم تعد تجدي ولا تنفع كل أسباب التململ والاعتراض والإغراء لما صرنا إليه،وبات الأهم في حياتنا هو البحث عن بعض الأمان والاستقرار، وهكذ ااضمحلت عواطفنا وتكورنا على أنفسنا، وربما تمنينا أن تموت مشاعرنا، ونكتفي بما يملأ بطوننا ويثير غرائزنا من مختلف الحاجات.
سيكون على الأجيال المقبلة التنقيب عن أسباب العيش البسيط؛ لتستعيد سعادتها من جديد..؟ هذا الجيل ابتدأ يخسر معظم مقومات حياته في العيش الكريم، وفقد معها قيم الحماية الذاتية أمام تفشي البطالة وهبوط المداخيل، والفشل أقله في تأسيس بيت الزوجية وآمال المستقبل، فالأمن والشعور بالاستقرار النفسي مبعث العزم على العطاء والإنتاج واستمرار دورة الحياة.
أما جيل اليوم فهو محبط في أدنى الدرجات، يتراءى لنا أنه يعيش سعيداً بما هو عليه من أسباب الراحة،وما بين يديه من أسباب التواصل خلال الساعة والدقيقة والثانية ورمشة العين، وهذا ما قتل في القلب الحنين.
هذا البشري الآلة يدور في حركة رتيبة قاتلة، كحيوان يتولى إدارة ناعورة ينتهي دائما من حيث ابتدأ، وهمه الوحيد أن يحصل في نهاية النهار على ما يكفيه من العلف. ويبقى الأسوأ أن ينقلب هذا البشري على عاداته، وسائر تقاليد هوتاريخه وأصله وفصله، متفلتا من كل أسباب المسؤولية وأعباء الحياة.لقد بدا حال الجيل في نظري كمن ارتدى ثوب أبيه فضاع جسده الضئيل في داخل الثوب المستعار.
التكنولوجيا ووسائل الاتصال الاجتماعي والشبكات الإلكترونية، وتقلص حجم العالم والانجراف إلى أتون الانفتاح الخارق من حدود المسموح الحميد إلى حدود المذموم الخبيث، ليبتعد أول ما يبتعد الإنسان العربي بالذات عن هويته ونظم حياته، ويتحول الجار إلى غريب، والأخ القريب يتحول إلى خصم أو عدو، والأهل إلى عبءوتركة متعبة... هناك من اجتهد واخترعوجعل بين أيدينا إمكانات تسهل التواصل، لكنها تقلص بركة العمر وأمن الحياة،وتسيطر على العقول بطرق ذكية فتفصلنا عن عالم الحقيقة، وتدفع بنا إلى عالم الوهم والمجهول.
مرورك بالذاكرة على كل هذه المحطات المختزنة، لتنبش في الماضي وتقارن بينه وبين الحاضر، بكل جمالية لغوية وألم لا يُدانى أو يُدارى، فتبدو الصورة على وضوحها وكأنك تتحدث عن عالم لا يمت لعالم اليوم بصلة، ينظر إليه معظم جيل اليوم نظرة استغراب لا تخلو من الوقاحة وسوء التربية، حتى مصطلحاتنا اللغوية تبدو غريبةعليه، وتحولنا في عالمه إلى هياكل عجيبة تسبب له الانزعاج بصرير حركتها.. من يدري لو حالفنا الحظ وعشنا وقتا أطول..؟ سيقننون علينا هواءنا ومياهنا التي نشرب.
أحفادنا اليوم يعيشون عالما متحولا ويتحدثون لغة لا نفهمها، فيتغامزون استخفافا بمعرفتنا وأميتنا الألكترونية، ويضحكون من طرق لفظنا لبعض المصطلحات.... الحقيقة أننا من عالم غير عالمهم، لهذا فالمعاملة الانسانية تتبخر وتتلاشى، والشعور بالوداد يتهاوى والقيمة الانسانية في مسارها تكاد تصل إلى أدنى المستويات، بتنا شتاتا وأجيالاً متنافرة. هذا ما بلغناه بكل الأسف.
رغم طول النص وتشعبه "وخروجه عن المألوف"، فقد شدني إلى القراءة بحرارة وعمق وحماسة عالية، وكثير من المتعة الحقيقية، وأعادني وسط كل الانشغالات إلى ملامح عريقة من الماضي البعيد في حكم الأعمار الانسانية، والقريب في حكم التاريخ والتحول في هذا الزمن اللعين.
لا غرابة أن تتراجع كل الصحف ثم تتلاشى وتضمحل حتى تموت، ولا غرابة أن يرفع على شواهد قبورها عبارة نريدك أن تصمتي إلى الأبد، فما من معنيٍّ ومسؤول يريد عيونًا تتلصص على عريه وجبروته وفساد أخلاقه وممارساته، إذن فلتمت الأصوات وتسكت الآلات وتتعملق طواحين الفاسدين والمتعصبين، ليضج الطريق بالعنف وفظاعة الأحقاد وما يحدث في هذا العصر المريع.
أقول أخيرا للكاتب الصديق..؟ لكي لا يقتله الحنين فليواكب الزمن ولو قسرا إن كان لا بد له أن يستمر وأن يعيش، فرغم كل سلبيات التحول تبقى بين ضلوعنا سعادة ساكنة في أعماق ذواتنا وقد شهدنا ثورة عالم كأنما هو ضربٌ من الخيال، فهذا التحوّل رفع آفاقنا من جانب، ولكنه أطفأ جذوة قلوب كانت تختزن موروثا مجيدا.
التغيير المتسارع كأنه مركبة منطلقة بسرعة جنونية، غالبا ما يُدهوِرَها عند المنعطفات حجر صغير في طريقها، أو حصاة تقلب المركبة فتسبب كارثة في معظم الحوادث التي نصادفها، ومع ذلك يستمر الناس باستخدام السيارات وارتكاب حماقات الطيشوالسرعة.
لا أريد أن يقتلك الحنين إلى الماضي يا صديقي الحبيب، ما أريده فحسب أن تتوقف آلة القتل والمظالم، إن لم يكن على مساحة الكوكب، فحيثما أمكن، وحينما تأزف ساعتنا يا صديقي حبذا لو نبتسم لمن حولنا. أرجو أن يحدث الأمر بلا ألم، فنغمض عيوننا ونمضي في سلام، دونما أسف على ما فات، وربما كنا على موعد مع خلاص لم نبلغه من قبل.
الروح تنأى ولا يُدرى بموضِعها = وفي التُرب لعمري يَرفثُ الجسَدُ
والعـيش كالماء يَغشاه حـوائـِمنا = فصادرون وقومهـم إثـرهـم وردوا
ومدُّ وقـتي مثل الـقـصر غايـته = وفي الهـلاك تـساوى الـدُرّ والبـَرَدُ
تحيتي ومودتي وتقديري واحترامي للكاتب الصديق، الذي أرجوه ألاَّ يتوقف أو يَهِن أو "يتكاسل"، ومن الإنصاف أيضاً أن أتوجه بالشكر العميق وأنوه بأسرة التحرير، تتولى رعاية المبتدئين"الهواة" والمحترفين جنبا إلى جنب بلا مفاضلة أو تمييز.
صباح مزهربكل ألوان وأطياف الطبيعة البكر، يقتنص الجمال ويملأ الأنفاس بعطرها، ويدفع النفوس الراضية المطمئنة إلى التفاؤل ولو قست على القلوب، بفعل الحنين إلى مستقبل كان ينبغي أن يتحول إلى الأفضل، وأن يكون من أهم مقوماته ما يسعف ويريح.
هذا النص ليس كباقي النصوص التي عرفتها للكاتب الصديق إبراهيم يوسف من لبنان، صاحب حلقات السرد البديعة، في العلم والمعرفة والشعر وأدب الرحلات والقليل من السياسة، وصاحب النصوص التي تواصلت فلم تنقطع، مذ عرفته من عقد من الزمن أو ما يزيد، ليتحدث هذه المرة عن محطة بارزةمن طفولته بعفوية خالصة، تتسم بمقارنة الحاضر بالماضي والاختلاف في أسلوب الحياة وطريقة التفكير، مع تطور الزمن وفيض من العبرة وتجاربه الغنيَّة.
عندما يقتلك الحنين..؟ جوقة مشاعر متنافرة حينا ومتآلفة أكثر الأحيان، تغرز مديَّتها في مجاهل الذاكرة ومتاهتها، وتستخرج من طياتها نفائس أحداث غابت مع العمر، بتحريض من رغبة ذاتية تسيطر في استرجاعها على مختلف المشاعر.
ما أمتعها من لحظات يا إبراهيم،تسترجع من غياهب الزمن، ماتغيَّر بفعل الزوروالبهتان والزمن المنكود، لتتلاشى معه الصورة المشرقة حد الزوال،والمحزن المحبط يا صديقي أن تنشط في خريف العمر وفي الأوقات القليلة الباقية، كل الأسباب التي تربطنا بالماضي، وتتوالى صوره بلا حواجز أو حدود؛ ليحكي العقل في الظاهر والباطن لغة الحسرة والحنين، ببساطة خالصة وانسجام بلا مثيل.
"مُضناك جفاه مرقده وبكاه ورحَّم عوده.. حيران القلب مُعذبه مقرُوح الجفن مُسهِده". مقارنة الماضي بالحاضر تستنفر النفوس وتحرضها، وتقودها إلى الكشف عن فائض من مخزون الفكروشتى الكوامن، فتدغدغ أرواحنا بكثير من الوداعة وأحلى المشاعر، أو تدفعنا إلى مزيد من الحفر في خلايا الذاكرة، واستحضار كثير من تفاصيل الزمن القديم.
ليس ما نواجهه اليوم يا صديقي إلاَّبعض ما عاناه آباؤنا وأجدادنا من قبل، ولو بأسلوب مختلف، لتبقى صورة اليوم غير مكتملة المعالم وليست واضحة بعد، مع كثير من الترقب والحذر الشديد.إنه تفاوت واختلاف الأجيال وصراع الحضارات المتغيرة باطراد، أو قل هو الصراع على الحياة، لا سيما ونحن نحاول صهر الأحاسيس والمفاهيم في بوتقة ضيقة واحدة.
رسمت بنصكيا صديقي لوحة ملونة معبرة بأدق التفاصيل، ولو أنك لا تلتزم بالمألوف في نهج الكتابة، كما هي العادة التي يتوسلها سائر الكتاب ممن قرأنا لهم وتعودناهم..لعل السبب الأهم يبقى في إبراز ماهية الصورة وجماليتها، حينما تستعيد إلى الذاكرة لغة سردية ساحرة بأسلوب مختلف، وتصويراً آليا بالكاميراوالقلم، وأنت تمعن في استحضار الماضي،فتقارن وتعادل وتحلل وتناصر.. فتخاصم، ولا تعادي أبدا مهما كانت الأسبابوالدوافع.
إنه خليط من كل هذه المشاعر في النظرة الناقدة المبصرة والمنتصرة في النهاية. بل هي سيرة ذاتية آسرة لشدة ما تتسم به من العفوية والتجرد والصدق، والقلم النظيف يكتب ملامح الزمن الماضي بكفاءة عالية، بسيئاته وحسناته على حد سواء. هذه اللغة المميزة وأنا أطالعها سأعرف من يكون صاحبهاعلى الفور.
نحن يا صديقي من جيل واحد وعمر متقارب،وفروقات تكاد لا تذكر في التعاطي وطريقة التفكير. لعل ذات المشاهد رأيناها معا..؟ ولو كل منا رآها من زاوية مغايرة. اختلفنا أو اتفقنا لافرق، فخلال مسيرتنا طالت أو قصرت، مرّت علينا ذات العوامل والتطورات، إلى أن وصلنا إلى مرحلة الخطوات السريعة وقفزات بعيدة لم تكن في الحسبان.
بتنا نسابق الزمن بالمزيد من المجهود الشاق؛ الذي لا يستريح ولا يهدأ، فلم يعد لدينا ما يكفي من الوقت ولو لقليل من الراحة واستراحة المحارب، كالإسترخاء في كرسي على شاطىء البحر ونحن نضع على رؤوسنا قبعات من القش، وإلى جانبنا "ترانزستور" وفي أيدينا كتاب.
قسرا أو طوعا نحن نعيش عصرالاتصالات المخيفة، وزمن الألكترونيك والأجهزة المحمولة الذكية التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتنا، بل حالة مسيطرة على كل أنظمة حياتنا، ووجدنا أنفسنا معها نندفع إلى الزمن المعولم، الذي يقل فيه إنتاجنا وتنهار معه اقتصاديات بلادنا، وربما أخلاقنا أيضا، وتتحول فيه الحدود المفتوحة إلى انزلاقات أمنية، تتلاعب فيها أيد معادية شريرة، تتنقل بأريحية بين سائر مقومات البلاد لتنال منها وتقوضها، حيث يصبح فيه المواطن الإنسان في درجة متدنية جداً، بفعل ما تنقلب عليه كل أسباب ومقومات هذه الحضارة المنكودة.
ربما تأخر إدراكنا لماهية ما يجري، ولم تعد تجدي ولا تنفع كل أسباب التململ والاعتراض والإغراء لما صرنا إليه،وبات الأهم في حياتنا هو البحث عن بعض الأمان والاستقرار، وهكذ ااضمحلت عواطفنا وتكورنا على أنفسنا، وربما تمنينا أن تموت مشاعرنا، ونكتفي بما يملأ بطوننا ويثير غرائزنا من مختلف الحاجات.
سيكون على الأجيال المقبلة التنقيب عن أسباب العيش البسيط؛ لتستعيد سعادتها من جديد..؟ هذا الجيل ابتدأ يخسر معظم مقومات حياته في العيش الكريم، وفقد معها قيم الحماية الذاتية أمام تفشي البطالة وهبوط المداخيل، والفشل أقله في تأسيس بيت الزوجية وآمال المستقبل، فالأمن والشعور بالاستقرار النفسي مبعث العزم على العطاء والإنتاج واستمرار دورة الحياة.
أما جيل اليوم فهو محبط في أدنى الدرجات، يتراءى لنا أنه يعيش سعيداً بما هو عليه من أسباب الراحة،وما بين يديه من أسباب التواصل خلال الساعة والدقيقة والثانية ورمشة العين، وهذا ما قتل في القلب الحنين.
هذا البشري الآلة يدور في حركة رتيبة قاتلة، كحيوان يتولى إدارة ناعورة ينتهي دائما من حيث ابتدأ، وهمه الوحيد أن يحصل في نهاية النهار على ما يكفيه من العلف. ويبقى الأسوأ أن ينقلب هذا البشري على عاداته، وسائر تقاليد هوتاريخه وأصله وفصله، متفلتا من كل أسباب المسؤولية وأعباء الحياة.لقد بدا حال الجيل في نظري كمن ارتدى ثوب أبيه فضاع جسده الضئيل في داخل الثوب المستعار.
التكنولوجيا ووسائل الاتصال الاجتماعي والشبكات الإلكترونية، وتقلص حجم العالم والانجراف إلى أتون الانفتاح الخارق من حدود المسموح الحميد إلى حدود المذموم الخبيث، ليبتعد أول ما يبتعد الإنسان العربي بالذات عن هويته ونظم حياته، ويتحول الجار إلى غريب، والأخ القريب يتحول إلى خصم أو عدو، والأهل إلى عبءوتركة متعبة... هناك من اجتهد واخترعوجعل بين أيدينا إمكانات تسهل التواصل، لكنها تقلص بركة العمر وأمن الحياة،وتسيطر على العقول بطرق ذكية فتفصلنا عن عالم الحقيقة، وتدفع بنا إلى عالم الوهم والمجهول.
مرورك بالذاكرة على كل هذه المحطات المختزنة، لتنبش في الماضي وتقارن بينه وبين الحاضر، بكل جمالية لغوية وألم لا يُدانى أو يُدارى، فتبدو الصورة على وضوحها وكأنك تتحدث عن عالم لا يمت لعالم اليوم بصلة، ينظر إليه معظم جيل اليوم نظرة استغراب لا تخلو من الوقاحة وسوء التربية، حتى مصطلحاتنا اللغوية تبدو غريبةعليه، وتحولنا في عالمه إلى هياكل عجيبة تسبب له الانزعاج بصرير حركتها.. من يدري لو حالفنا الحظ وعشنا وقتا أطول..؟ سيقننون علينا هواءنا ومياهنا التي نشرب.
أحفادنا اليوم يعيشون عالما متحولا ويتحدثون لغة لا نفهمها، فيتغامزون استخفافا بمعرفتنا وأميتنا الألكترونية، ويضحكون من طرق لفظنا لبعض المصطلحات.... الحقيقة أننا من عالم غير عالمهم، لهذا فالمعاملة الانسانية تتبخر وتتلاشى، والشعور بالوداد يتهاوى والقيمة الانسانية في مسارها تكاد تصل إلى أدنى المستويات، بتنا شتاتا وأجيالاً متنافرة. هذا ما بلغناه بكل الأسف.
رغم طول النص وتشعبه "وخروجه عن المألوف"، فقد شدني إلى القراءة بحرارة وعمق وحماسة عالية، وكثير من المتعة الحقيقية، وأعادني وسط كل الانشغالات إلى ملامح عريقة من الماضي البعيد في حكم الأعمار الانسانية، والقريب في حكم التاريخ والتحول في هذا الزمن اللعين.
لا غرابة أن تتراجع كل الصحف ثم تتلاشى وتضمحل حتى تموت، ولا غرابة أن يرفع على شواهد قبورها عبارة نريدك أن تصمتي إلى الأبد، فما من معنيٍّ ومسؤول يريد عيونًا تتلصص على عريه وجبروته وفساد أخلاقه وممارساته، إذن فلتمت الأصوات وتسكت الآلات وتتعملق طواحين الفاسدين والمتعصبين، ليضج الطريق بالعنف وفظاعة الأحقاد وما يحدث في هذا العصر المريع.
أقول أخيرا للكاتب الصديق..؟ لكي لا يقتله الحنين فليواكب الزمن ولو قسرا إن كان لا بد له أن يستمر وأن يعيش، فرغم كل سلبيات التحول تبقى بين ضلوعنا سعادة ساكنة في أعماق ذواتنا وقد شهدنا ثورة عالم كأنما هو ضربٌ من الخيال، فهذا التحوّل رفع آفاقنا من جانب، ولكنه أطفأ جذوة قلوب كانت تختزن موروثا مجيدا.
التغيير المتسارع كأنه مركبة منطلقة بسرعة جنونية، غالبا ما يُدهوِرَها عند المنعطفات حجر صغير في طريقها، أو حصاة تقلب المركبة فتسبب كارثة في معظم الحوادث التي نصادفها، ومع ذلك يستمر الناس باستخدام السيارات وارتكاب حماقات الطيشوالسرعة.
لا أريد أن يقتلك الحنين إلى الماضي يا صديقي الحبيب، ما أريده فحسب أن تتوقف آلة القتل والمظالم، إن لم يكن على مساحة الكوكب، فحيثما أمكن، وحينما تأزف ساعتنا يا صديقي حبذا لو نبتسم لمن حولنا. أرجو أن يحدث الأمر بلا ألم، فنغمض عيوننا ونمضي في سلام، دونما أسف على ما فات، وربما كنا على موعد مع خلاص لم نبلغه من قبل.
الروح تنأى ولا يُدرى بموضِعها = وفي التُرب لعمري يَرفثُ الجسَدُ
والعـيش كالماء يَغشاه حـوائـِمنا = فصادرون وقومهـم إثـرهـم وردوا
ومدُّ وقـتي مثل الـقـصر غايـته = وفي الهـلاك تـساوى الـدُرّ والبـَرَدُ