بلاغة الفلسفة مقاربات مفهومية للإنسان والعالم
الدكتورإدريس كثير
ترسخ مفاهيم إدريس كثير المعروضة في كتاب «بلاغة
الفلسفة : مقاربة مفهومية للعالم “ الصادر سنة 2014 بالأردن عن دار عالم الكتب الحديث
للنشر و التوزيع، قربا من
لذلك معنى محدد ، هو كون اليومي امتداد للجسد ،
أي للرغبة وما يشبعها ، وما يقاومها ، بل حتى ما يتلف موضوع إشباعها . وإن ظهر اليومي
في شكل أنظمة قاسية محسومة المقدمات ، متمنعة اتجاه إرادة الذات ، فذلك لكونه ينتسج
كمجال يكتشف فيه الإنسان حريته كمقاومة أي كمجهود وليس كإمكان ، وهو ما يجعل من هذا
اليومي في رتابته المملة وركاكته السؤال الفعلي المتحرك خارج اللغة للتمرس العملي على
الحرية ، وهو ذلك التمرس الذي يمنحه الحاضر ويتشكل من إمكانياته ، ويصلح ضمانة لقدرة
الإنسان على تحمل مهمته التاريخية في مواجهة حدوده .
تذكرنا مفاهيم إدريس كثير إن الهروب من التفكير
في اليومي و به، ليجسد نسيانا لعمق التجربة الإنسانية ، وهي إقامتها في الحاضر ، وانتماؤها
للحظة . فمن يخرج اليومي من أفق فلسفته يخرج منه أيضا سؤال الجسد والرغبة والحرية ،
أي سؤال التاريخ برمته (1) . ففي قلب الإحساس المضجر من مظاهر اليومي ، يوجد توق فعال
للتحرر منه .
إن وضعَ اليومي في تعيناته الأكثر تفاهة في قلب
تناول فكري ، لكفيل باستدعاء أعمق إشكالات الوجود الإنساني ورهاناته ، لأن مسألة الحياة
في صلبها هي مسألة أسلوب في التحرر، ولأن نموذج الأخلاق ليس العلم و إنما الاستيطيقا
، ولأن المهمة الأسمى للكائن الإنساني هي أن ينتزع أبديته من إحساسه الجميل و الممتع
بحاضره .
يوظف إدريس كثير « توس نيكوس « هذه العبارة التي
التقطها من الاستعمال العامي ، لاستجلاء حقول متفاوتة تتعلق تارة بصروح الرغبة وأخرى
بإمكانات الجسد من قدرة على الحياة وميول ومقاومة ، وتارة على نطاق أخلاقي لا يتعلق
فقط بما ينبغي أن نفعله ولكن أيضا بما نستطيعه من حيث كوننا أجساد .
فالتوس نيكوس أثر دال على حركة بين حقول يؤجل الواحدُ
منها الآخر ، ويبطئ حضوره أو يعجل غيابه ، مثلما يجعل الواحدَ منها أفقا لنقيضه . وهي
الحقول التي يعثر فيها الوجود الإنساني على نفسه كدافع أو طاقة ما تكاد ترسي علاقة
بالعالم أو بالآخر حتى تشرع في تغييره.
ينتقل التوس نيكوس ، حسب توصيف إدريس كثير من درجات
في التحقق متفاوتة في ارتباطاتها وفي إمكاناتها التأويلية الدالة على الحياة من ناحية
وعلى القيمة من ناحية ثانية.
فهو و إن كان يُستعمل في العادي من السياقات لوصف
حالة من العلاقة الحميمية ، مثلما يُستعمل لوصف اضمحلال أخلاقي ، فإدريس كثير ، يجعله
مكانا لتقاطعات فلسفية ، تتزاحم فيه آثار الرواقيين والأبقوريين ونتشه ودولوز وغاتري
وفرويد ودريدا وهايدغر .. وكل واحد من هؤلاء يخلف فيه أثره ، ويُعدل من خصوبته المفهومية
، ويفتح له مجرى خاصا
.
فالتوس نيكوس كما يقول صاحب الكتاب ، مفهوم متردد
من الأضداد . فبدل صيغة هذا أو ذاك ، هناك صيغة هذا و ذاك في نفس الآن ، وهو إذن ليس
سلبا أو إيجابا ، إنما هو السلب و الإيجاب معا ، هو تكثيف لحالة من السلوكات المشينة
وهو في نفس الآن سلوك طبيعي غريزي . (ص 145)
و إن كنا نفهم من هذه العبارة (أي توس نيكوس) نوعا
من التذمر من تورط جماعي في الأسوأ و الأردأ ، وخضوع العموم لذات الفعل ، و إصراره
على اقتراف ذات الخطأ الذي يشجبه الجميع ، فإن الكتاب يمنحه أفقا متدرجا يظهر فيه مفعول
مفاهيم أخرى .
فهو قوة الطبيعة فينا ، دوافعها وميولاتها ، وهو
بداهة الهوى و الإحساس وماقبل المفهوم والحدس ، وحالة من السلم مع الذات و إرادة للحياة
، وهو أيضا المفزع و المقلق القابع في كل ماهو مألوف ، أي اطمئناننا الأول وقد تحول
إلى قلق .
على هذا المنوال يبني إدريس كثير مفاهيمه في بلاغة
الفلسفة ، التي يطرحها كعمل متحرك للفكر ، وما نكاد نرسي علاقة بها حتى تشرع في التفكير
من خلالنا ، فتعثرُ فينا على آثار حقول عابرة تحول وجودنا إلى وضعية بينية ، يحكمها
منطق البينونة كما فضل كثير أن يسميه .
لا يستطيع قارئ كتاب بلاغة الفلسفة ، أن يتجاهل
تلك الرغبة التي تتحدث من خلاله ، و التي تملأ فضاءَه الخاص بحيوية كبيرة . وهي الرغبة
في التفلسف ، التي تجعل من المفهوم خطا واصلا بالحياة ، وليس منتهى الطريق . فهو إذ
يواجه الكاووس ، يفسح المجال لما كان يسميه دولوز بالشدة ، حيث تتكثف قوة الحدث ، لتنزاح
عنه خطوط هروبية وانفلاتات هي المكمن الفعلي لبروز حقيقة متغيرة تسعف على الحياة ،
وتفرز الجسد كمكان أعلى لممارستها ، وتؤجج الرغبة كتركز لسيولات القوة . وعند هذا المنعطف
بالضبط نتذكر أن الصحة هي فضيلة الجسد ، بل هي كبرى الفضائل ، وأن الرغبة مُفعل الاستعارة
والتاريخ . وأن إشباعها هو عتبة تجدد الزمن .