يعد الدكتور هشام جعيط من بين المفكرين
والمؤرخين المعاصرين الأوائل في تونس والوطن العربي، الذين اهتموا بتاريخ الإسلام
المبكر والكلاسيكي، وبقضايا الحداثة
والهوية التي تفرض
نفسها على
الفكر العربي الحديث والمعاصر. ألف جعيط مجموعة مهمة من الكتب حول نشأة الإسلام،
والمدينة في الإسلام، والصراعات التي عاشها المسلمون بعد وفاة الرسول صلى الله
عليه وسلم. وبرز المؤرخ والمفكر هشام جعيط خصوصًا بكتابته التاريخية الدقيقة
العلمية والنقدية التي اعتمد فيها على مناهج العلوم الإنسانية ولا سيما علم
التاريخ؛ ما مكنه من التفوق على غالبية المستشرقين، كما يقول هو نفسه، وعلى
قراءاتهم السردية لتاريخ الإسلام، فهو صحح الصورة التي نشروها حوله.
لاقت
كتابات هشام جعيط التاريخية والفكرية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي
اهتمامًا كبيرًا في فرنسا وفي تونس وفي المشرق العربي، تحديدًا كتبه الآتية:
«الشخصية الإسلامية والمصير العربي»، و«أزمة الثقافة الإسلامية»، و«أوروبا
والإسلام». ومن آخر مؤلفاته ثلاثيته حول السيرة النبوية التي اهتم فيها بالوحي
والنبوة والدعوة إلى الإسلام في مكة، والهجرة إلى المدينة، وانتصار الإسلام.
درس هشام
جعيط مادة التاريخ في الجامعة التونسية، وتوّج مسيرته العلمية بترؤسه للمجمع
التونسي للعلوم والآداب والفنون «بيت الحكمة» مدة أربعة أعوام.
في بيته في
ضاحية المرسى (المدينة الساحلية الهادئة والجميلة، وتعد من الضواحي الشمالية
المعروفة لتونس العاصمة) يعتكف المؤرخ والمفكر، ويعيش وحدة اختيارية بعد انتهاء
مهامه على رأس بيت الحكمة، وبعد رحيل زوجته ورفيقة دربه، وهي وحدة تقطعها من حين
إلى آخر زيارات بعض الأصدقاء والمريدين وأفراد العائلة، وبخاصة ممن يستجيبون لرغبة
المفكر في إعفائه من الحديث عن تفاصيل الحياة السياسية في البلاد التي يصر أنها
تزعجه أكثر مما تثير انتباهه.
في هذا
البيت وتحديدًا في مكتبه الذي تعبق فيه رائحة الكتب المنتشرة في كل زاوية من
زواياه، التقت «الفيصل» الدكتور هشام جعيط، فكان هذا الحوار.
احتفلت
مؤخرًا في تونس ومعك عدد مهم من تلامذتك والمهتمين بتجربتك، بعيد ميلادك الثمانين وبمرور
ما يزيد عن خمسين عامًا كرستها في البحوث والكتابة في التاريخ وفي مجالات معرفية
وفكرية عدة. وكان الاحتفال في ملتقى مهم نظم بمبادرة من مركز الدراسات والأبحاث
حول السياسات العربية بتونس، وتداول باحثون ومختصون في علم التاريخ والأديان وكذلك
فلاسفة على تقديم قراءات عملية ونقدية لمجمل آثارك التاريخية والفكرية، ولاحظنا
أنك أعربت عن رغبتك في نشر هذه الأبحاث وتمنيت أن يبادر المنظمون إلى نشرها. هل
تعدّ فكر هشام جعيط بعد المؤلفات العديدة والتحاليل والنقد والحفريات في أعمالك لم
يصل بالقدر الكافي إلى الجمهور في تونس وربما حتى خارج تونس؟
استمعت في
هذا الملتقى الذي خصص لتكريمي إلى دراسات معمقة ونقد وإبراز لعناصر قد تكون انفلتت
عن الكاتب، ورجوت أن تنشر هذه المحاضرات الجيدة؛ لأنها متعمقة جدًّا، ولأنها كذلك
من إنتاج تونسيين، فقد كتب عني إلى الآن الفرنسيون كثيرًا، وكتب عني باحثون عرب،
وبخاصة المغاربة، وأدين لهم كثيرًا في التعريف بجهودي البحثية وبكتبي ومقالاتي،
لكن في تونس لم تُقرأ كتبي، وإن قُرئت فإنها لم تفهم…
لماذا تصرّ
على أنه لم يُقرأ لك في تونس وأن التونسيين إن قرؤوا لك فإنهم لم يفهموك، مع أننا
لاحظنا في الملتقى التكريمي عددًا من الباحثين أظهروا دراية وإلمامًا كبيرين
بتجربتك الواسعة؟
في الفترة
الثانية بعد الشباب وبعد أن كتبت كتبًا فكرية، كتبت كتبًا تاريخية علمية كانت
تلاقي دائمًا الاهتمام في فرنسا. والحقيقة لم يدرسوا كتبي ولم يحللوا الأفكار
الواردة بها في فرنسا فحسب، وإنما لقيت اهتمامًا في لبنان وفي بلدان الشرق عمومًا.
فهي تترجم دائمًا للعربية إن كتبت بالفرنسية، وتترجم للفرنسية إن كتبت بالعربية.
أما فيما
يتعلق بالاهتمام في تونس بما كتبت فإني أعتقد أن الصدى الذي حظيت به بعض الكتب
إنما هو ناتج عن التأثير الفرنسي، وبما أننا بعد الاستقلال بقينا مستعمرين
ذهنيًّا، فنحن نهتم بطريقة آلية بما يكتب في فرنسا، وبما أن كتبي الأولى قد لاقت
صدى في فرنسا واهتمت بها الصحافة الفرنسية، فإنها لقيت صدى في تونس كذلك. ورأيي
أنها لم تُقرأ حقًّا، ولم يكن لها صدى حقيقيًّا، بمعنى لم يقع تحليل هذه الأفكار،
ولم تقع الاستفادة منها.
وإذ لم
يحصل اهتمام في تونس بالكتب الثلاثة التي نشرتها حول السيرة المحمدية، أو حتى
بالنصوص التي نشرتها من قبل، فلأن الذي كان طاغيًا بعد تأسيس الجامعة التونسية هو
المسار الجامعي الوظيفي، حتى المختصون في التاريخ الروماني، فإنهم يركزون على ما
يقع في حدود إفريقية أي في تونس. وكل الباحثين التونسيين كانوا مهتمين بالدولة
الوطنية حديثة النشأة تحت التأثير البورقيبي، وفي الواقع عندما دخلت الجامعة التي
عدت إليها عام 1976م لم يكن يوجد أي مؤرخ أو أي فيلسوف يهتم بالتاريخ الإسلامي
العام أو بالفلسفة الإسلامية.
وشخصيًّا
لم أر مفكرين إلا لما انتقلت إلى المشرق. وحتى في الملتقيات التي دُعيت إليها
وشاركت فيها في بلدان المشرق قلما كان هناك من المشاركين مفكرون من بين التونسيين.
لكن لا بد من الإشارة إلى أن هناك مفكرين جيدين تأثرت بهم من المغرب الإسلامي،
وأذكر بالخصوص عبدالله العروي ومحمد أركون..
أما فيما
يتعلق بتلاميذي فإني أؤكد أني كنت الأول الذي كون تلاميذ، وكتب كتبًا في تاريخ
الإسلام. وطبيعي أن يتكون جيل جديد في تونس من الباحثين في مادة التاريخ الإسلامي
ممن تتلمذوا عليّ، وهم اليوم يكتبون ويحللون وينقدون وهذا جيد جدًّا…