الإيمان هو بالفعل تجربة فريدة، تجعل الإنسان يُحدِّد
عن اقتناع مرجعيته المؤثرة في حالة الوجود وحالة العمل. والإيمان ليس لحظة بعينها نتبنى
فيها مجموعة من الأفكار
والمعتقدات، وإنما هو عملية عضوية تتكشف تدريجيا وتتبلور إلى
أن تصبح عقيدة راسخة، حتى أننا لا ندري متى أصبحت كذلك.وأساس العملية طبعا هو قدرة
الفرد البالغ على أخذ القرار بكل حرية وبعد تحري الحقيقة بنية صادقة لكي يختار مرجعية
فكرية وروحية تناسب قناعاته وميولاته. وهكذا، يصبح الالتزام بالقيم والمبادئ نابعا
من وضوح الرؤية وعمق الفهم، مما يهب الحياة هدفا ومعنى ويجعلنا نتصف بالشغف والتفاني
والتضحية.
فهل نحن مؤمنون حقا أم أن الدين بالنسبة لنا هو
مجرد انتماء وهوية؟ بمعنى هل نختار ديننا انطلاقا من تجربة روحية شخصية أم أنها فقط
عملية وراثية تحدد الجزء الفطري من هويتنا الفردية،مثلها مثل النسب ومسقط الرأس واللغة
الأم والجنسية؟
وفي المجتمعات التي تتقاسم غالبيتها نفس الهوية
الدينية يصبح الأمر ملموسا بشكل أكبر إذ يتبادر إلى الأذهان كيف أنالدين الذي يحث أتباعه
على القيم والفضيلة والاتصاف بمحاسن النعوت والأخلاق النبيلة ـــ وهذه خاصية مشتركة
بين الأديان كافة ـــلا يؤثر في سلوكيات المجتمع وقِيَمه؟ وعلى العكس تماما، تعاني
هذه المجتمعات من تفشي ظاهرتي الفساد والرشوة إلى حد كبير مما يحد من فرصها في تحقيق
التقدموالتنمية. ثم كيف للطفل الذي يتلقى هذه التربية الدينية أن يتشبع بقيمها وهو
يشاهد،بين القول والفعل، هذا التناقض الساطع، في المدرسة نفسها وفي البيت وفي الشارع.
ربما كانت الشعوب قديمالا تعتمد على التربية والتعليم
في تحقيق رفاهيتها بقدر اعتمادها على بسط النفوذ والسيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي
واستقدام العبيد للقيام بأعمال السخرة والأشغال الشاقة. والتاريخ يقف شاهدا كيف بنيت
مدن بكاملها وشيدت حضارات على جثث المستضعفين من غير أهلها. وبعد أن ذهب هذا الزمان
الموحش بغير رجعة وظهرت معالم النظام العالمي الجديد، وعلى الرغم من السلبيات والنقائص
التي تعتريه فهو لا زال يتطور ويتكشَّف باستمرار، أصبحت رفاهية الشعوب رهينة بمدى صحة
منظومتها المجتمعية ومدى اعتمادها على التنمية البشرية.
لذلك نجد أن مسألة الهوية والقيم والتربية، وكذلك
كل ما يتعلق بالنظام وتدبير الشأن العام، كل ذلك أصبح يحتل مكانة جوهرية في تشكل المجتمعات
وتقدمها. ولذلك أيضا نجد أن مجتمعات تفتقر إلى المساحات الشاسعة والموارد الطبيعيةهي
أكثر تقدما من نظيراتها التي تنعم بكل الخيرات، وذلك بفضل تركيزها على مواردها البشرية
واستثمار طاقاتها في التعليم وفي التربية. وفي هذه الحالة تمثل التربية على القيم التزاما
مجتمعيا متكاملا تنخرط فيه كافة شرائح المجتمع وفئاته العمرية، مما يخلق بيئة متوازنة
تسمح بترسيخ القيم وتغلغلها في حياة المجتمع. وبالطبع لم يكن بالإمكان تحقيق ذلك لولا
وجود مساحة شاسعة من الحرية.
فحين يصبح الدين مجرد هوية مجتمعية يتم تدوينها
أحيانا في أوراقنا الثبوتية ولا يتسنى لنا خوض تجربة الإيمان وبالتالي حرية اختيار
الأديان، نفقد الدافع والمحفز الذي يساعدنا على الالتزام بالقيم والارتقاء بماهيتنا
الروحية. وحتى إن لم نقتنع بفكرة الخلق والمصير واعتقدنا أن الأديان هي مجرد أساطير،فأقلها
هو أننا سنحيى حياة متزنة وسنختار مرجعية تربوية وقَيْمِيَّة تناسب قناعاتنا وتؤثر
في وجودنا، بدل التظاهر باتباع دين لا يرضينا ولكن لا نجرؤ على تغييره مثلما لا نجرؤ
على تغيير أسمائنا.
فإذا كانت هويتنا الجامعة هي مغرب المواطنة، دولة
الحق والقانون، الأرض التي احتضنت بين ذراعيها أطيافا وأجناسا وأديانا متنوعة، لماذا
نتعصب اليوملهوية دينية بعينها ونرفض أي حديث عن غيرها؟ هل هو اعتقادنا بأن ذلك هو
ما يوحدنا ويجعل منا مجتمعا ينعم بالاستقرار والطمأنينة، متناسين أننا قد نكون من بين
أكثر الشعوب تغذية للإرهاب بين الأمم، وبأن مجتمعنا اليوم يقف عاجزا أمام انهيار منظومة
القيم؟
إن الجهود العظيمة التي بذلت في السنوات الأخيرة
للنهوض ببلدنا ووضعه على سكة النمو الصحيحة لا زالت تكبلها بعض القوى الهدامة في طبيعتها،
والتي تعارض كل تغيُّر في ثقافة المجتمع بإمكانه أن يفقدها مكانتها وامتيازاتها العديدة،
وفي نفس الوقت لا تقدم أي تصور منبثق من مرجعيتها يستطيع إيجاد الحلول لمشكلات العصر
المستعصية. وهذا ما يخلق انفصاما في هوية المجتمع حين يتصارع الجزء الفطري من هويته
مع مكتسبات الهوية القادمة من رحم الحداثة، وذلك بفضل مناخ العولمة وتوفر المعلومة،
وبفضل وجود رغبة جامحة ـــ وإن كانت دفينة ـــ في الالتحاق بهذه المنظومة.
فلا شك أنالدين يشكل إحدى روافد الهوية المتعددة،
إن لم يكن أهمها، ولكن حريٌّ به أن يشكل الجزء المكتسب من هذه الهوية مثله مثل باقي
اختياراتنا الوجودية التي تحدد شخصيتنا وأسلوب حياتنا. وحريٌّ بهويتنا المجتمعية أن
تتجاوز حاجز الدين والجماعة الدينية وأن تتخذ من المواطنة، قولا وفعلا، إطارا جامعا
تُبنى عليه دعائم الدولة الحديثة التي تنظر إلى المواطن الإنسان بغض النظر عن أفكاره
ومعتقداته وانتمائه لأحد الأديان.هكذا نؤسسللهوية الإنسانية،حيث تهيمنإنسانيتنا على
كل الهويات الفرعيةوحيث الدول جميعها مدن كبيرة في دولة البشرية.