أظن أن عنوان هذا المقال ينطوي علي غموض، ولهذا يلزم الإيضاح، الإيضاح هنا يخص ثلاثة ألفاظ: التراكم، والتقدم، والتخلف. والسؤال إذن: ما معني هذه الألفاظ الثلاثة؟
إن لفظ “ديالكتيك” لفظ معرب من اللفظ اليوناني dialktike ومعناه الحوار، أي أن تبادل الآراء من اجل الإقناع، والإقناع يستند إلي فن البرهان، إذن الديالكتيك هو فن البرهان، وكان البرهان في البداية، يستند إلي قانون عدم التناقض ومؤداه أن الشيء لا يمكن أن يكون هو ليس هو في آن واحد ومن جهة واحدة، وبناء علي هذا القانون أسس أرسطو (384 – 322 ق.م ) منطقا اسماه “اورغانون” أي الألة التي نستعين بها في التدليل علي صحة القضايا التي يقررها كل علم، وقد أطلق إسكندر الأفرويسي – احد تلامذة أرسطو – اسم “المنطق” علي هذه الآلة.
ثم جاء هيجل (1770- 1831) وأسس منطقا آخراً مناقضاً لمنطق أرسطو واسماه المنطق الديالكتيكي يستند إلي قانون آخر هو قانون التناقض بمعني أن الشيء يكن أن يكون هو وليس هو في آن واحد ومن جهة واحدة، ومعني ذلك أن هذا الشيء في حالة تطور متواصل بلا فاصل من السكون.
والسؤال إذن: ماذا يعني التطور في هذه الحالة؟
انه يعني “تراكم” المتغيرات التي تحدث للشيء إلي الحد الذي يتحول فيه هذا الشيء، عند نقطة معينة، إلي شئ مناقض آخر، مثال لما نقول: عندنا نسخن الماء فدرجة الحرارة تأخذ في الارتفاع إلي نقطة يتحول عندها الماء إلي بخار فتنطبق عليه خصائص البخار وليس خصائص الماء، وهذا هو ما يعرف بقانون التحول من الكم إلي الكيف بفضل علمية التراكم.
هذا عن لفظ “تراكم” ومعناه فماذا عن اللفظين الآخرين: التقدم والتخلف؟
ثمة علاقة عضوية بين التراكم من جهة وبين التقدم والتخلف من جهة آخري، بمعني انه ليس من حقنا أن نتحدث عن التراكم من حيث هو تراكم، وإنما نتحدث عن “التراكم بـ”
والسؤال إذن: تراكم ماذا؟
كان هيجل يقول : “أن التناقض يقود إلي الإمام”، واستنادا إلي هذا القول تساءلت؟ هل التراكم بالتقدم هو التراكم الوحيد؟
أظن أن قول هيجل يوحي بأن يكون الجواب بالإيجاب، ولكن المنطق الديالكتيكي يلزمنا البحث عن النقيض، ومعني ذلك إننا إذا قلنا تراكما بالتقدم لزم أن نقول تراكما بالتخلف، ويشهد علي سلامة هذا القول ما ورد في كتاب كوندورسية المعنون “صورة تاريخية عن تقدم العقل الإنساني” ، وكوندورسية من الفلاسفة التنويرين في القرن الثامن عشر، قال: “لقد تابعنا القعل الإنساني، وهو ينمو نموا بطيئا بفعل التقدم الطبيعي للحضارة، وراقبنا الخرافة وهي تتحكم في العقل فتفسده، وكذلك الطغيان وهو يفسد العقل، وقد استثنيت أمة واحدة من الخرافة والطغيان، ومن هذه الأمة اشتغل لهيب العبقرية فتحرر العقل من قيود الطفولة، واتجه بخطي ثابته نحو الحقيقة، بيد أن هذا الانتصار حث الطغيان علي العودة مصحوبا بالخرافة فانغمست البشرية في ليل دامس يبدو وكأنه لن يزول، بيد أن النهار سرعان ما انبلج فرأت العين نور الصباح بعد طول غياب في الظلام، ولكنها لم تستطع مواصلة الرؤية ،ولكنها مع الوقت اعتادت علي النور فحملقت فيه من غير تراجع واستطاعت العبقرية ، مرة أخري، العودة إلي الأرض من جديد بعد أن طاردتها البربرية والدوجماطيقية”
في هذا النص ثمة أمران، الأمر الأول أن ثمة صراعا بين ما اسمية “التراكم بالتقدم والتراكم بالتخلف، والأمر الثاني أن محور هذا الصراع هو العقل، فإذا كان العقل صالحا فثمة تراكم بالتقدم ، وإذا كان العقل فاسدا فثمة تراكم بالتخلف.
ثم جاء ماركس (1818- 1883) وربط التراكم بالمجال الاقتصادي فقيل “تراكم رأس المال”، إلا أن هذا الربط لم يعد صالحا بسبب صعود مفهوم الثقافة، إذ هو يقف الآن في مقدمة المفاهيم المعاصرة وتتداخل معه مفاهيم أخري فقيل “هدية ثقافية” وقيل “تنمية ثقافية” وكنت أول من عقد مؤتمرا أوروبيا عربيا في القاهرة في أبريل 1983 تحت عنوان “الهوية الثقافية في الزمان” بمعني انه لا يمكن تناول الهوية الثقافية كمطلق معزول، ولكن يمكن تناولها في تطورها في الزمان وفي مقارنتها بهويات أخري، وفي عامي 1993، 1994 أجرت “جماعة البحث في علم الاجتماع” بالجامعة المفتوحة في لندن بحوثا عن الهوية الثقافية، وفي عام 1986 وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة علي أن يكون “عقد التنمية الثقافية” في الفترة من 1988 إلي 1997، إذ لم تعد التنمية الاقتصادية صالحة للتقدم.
وبناء عليه لا يمكن الفكاك من مفهوم الثقافة سواء ارتأيناه في إطار الهوية أو في إطار التنمية، ولكن بشرط تناول الثقافة علي إنها في حالة “تراكم”، ويبقي بعد ذلك تحديد نموذج هذا التراكم، إلا أن هذا التحديد لن يكون بالأمر الميسور، ففي إطار “تراكم رأس المال” قال جوان روبنسون في مقدمته لكتاب روزا لكسمبورج المعنون “تراكم رأس المال” (1913) إن ملاحظات ماركس علي نماذج التراكم كانت في حالة فوضى اثر موته، فما بالك إذن بنماذج رأس المال الثقافي؟ أظن إننا في بداية، البحث عن هذه النماذج؟ وأظن أيضا انه يمكن حصرها حتى الآن في إطار نموذجين هما التراكم بالتقدم والتراكم بالتخلف علي ضوء مسار الحضارة الإنسانية في انتقالها من الفكر الأسطوري إلي الفكر العقلاني، في إطار هذا المسار يمكن القول بأن ثمة ثقافات الغلبة فيها للفكر الأسطوري، وثمة ثقافات الغلبة فيها للفكر العقلاني.
والسؤال إذن: أين موقع ثقافتنا من هذين النموذجين؟
في عام 1105 اصدر الغزالي كتابه “تهافت الفلاسفة” وفيه يدلل علي أن الفلاسفة المسلمين كفار لأنهم تأثروا بعقلانية الفلاسفة اليونانيين، وفي عام 1997 اصدر المجلس الأعلى للثقافة ترجمة لكتاب “أثينا السوداء” ثم اصدر ترجمة لكتاب “التراث المسروق أو الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة” وكل من الكتابين المترجمين يدلل علي أن الفلاسفة اليونانيين لصوص لأنهم سرقوا الفلسفة المصرية القديمة ونسبوها لأنفسهم، والمفارقة هنا أن المجلس الأعلى للثقافة تجاهل ترجمة كتاب “ليس من أفريقيا” 1996 لمؤلفة يهودية، اسمها ماري لفكوفيتش، ترد فيه علي ما ورد في كتاب “أثينا السوداء” من أن الفلاسفة اليونانيين لصوص
السؤال عندئذ: هل يصح القول بأننا نشتهي ممارسة “التراكم بالتخلف”؟