تدخل بلادنا منعطفا سياسيا خطيرا يتهدد نسيجنا الاجتماعي
وهويتنا الوطنية بفعل التقاطب العقائدي الحاد الذي يفرضه حزب العدالة والتنمية وأذرعه
الموازية على عموم
المغاربة . وقد جند الحزب كل إمكاناته لإشاعة الفتنة عبر التحريض
ضد خصومه السياسيين واتهامهم بالكفر ومحاربة الإسلام والسعي إلى إفساد المجتمع . وما
ينشره أعضاء الحزب على صفحاتهم في المواقع الاجتماعية من تحريض على قطع رؤوس مخالفيهم
لهو بداية الفتنة التي أحرقت وتحرق اليوم شعوبا عربية كثيرة . وما يزيد من خطورة هذه
التدوينات أن قيادات الحزب تتبناها وتشرعنها عبر التهديد بإحراق المغرب وجعل الشعب
المغربي يدفع التكلفة غاليا في حالة لم يتصدر الحزب نتائج الانتخابات التشريعية ليوم
7 أكتوبر القادم. كل هذه التصريحات والتغريدات تشي بأن الحزب بلغ مرحلة من التغول لم
يعد مستعدا فيها للتعايش وقبول الاختلاف ، بل صار منفلتا من كل رقابة قانونية ودستورية
. ولعل الكتائب الإلكترونية للحزب ، وهي تحرض ضد حزب الأصالة والمعاصرة في إحدى تدويناتها
،أسقط القناع عن الأهداف الحقيقية للحزب ومسعاه إلى إقامة دولة دينية على أنقاض الدولة
المدنية وإلغاء كل التشريعات التي تضمن الحقوق والحريات الفردية وكذا القوانين التي
تحمي حقوق النساء . فما معنى أن تربط هذه الكتائب بين التصويت لحزب الأصالة والمعاصر
وبين (محاربة إسلامية الدولة ، منع وتجريم تعدد الزوجات، إباحة الإجهاض ، إلغاء حكم
القصاص ،إشاعة اللباس العصري الذي يسمونه العري والتعري ، إقرار حرية الإفطار في رمضان
،خلق المهرجانات ،علمنة المجتمع ..) لا معنى لهذا الربط سوى الإقرار بأن هدف هؤلاء
الإسلاميين هو إقامة دولة دينية تصادر كل الحقوق الفردية وعلى رأسها حرية الاعتقاد
، وحرية اللباس وتشكيل محاكم وشرطة مهمتها الوحيدة هي مطاردة ومعاقبة من لم jلتزم بنمط اللباس والتدين الذي يفرضه هؤلاء
(مهاجمتهم للمهرجانات الفنية وارتياد النساء للشواطئ واللباس العصري وفرض الولاية على
المرأة ،وابتزاز الدولة لسحب حرية الاعتقاد من مسودة الدستور...) . إنهم يسعون لإقامة
حكم الطالبان وتشريعات الدواعش في الوقت الذي ينشغل فيه باقي الفاعلين السياسيين إما
بالصراعات الداخلية التي تغذيها الأطماع الشخصية في المكاسب والمواقع والمناصب أو بالحروب
البينية التي تخدم خصوم الديمقراطية وأعداء الشعب والوطن. ذلك أن الأعداء الحقيقيين
للوطن وللشعب ليسوا فقط حمَلة السلاح من قوى أجنبية غازية أو العناصر الإرهابية المتمنطقة
بالأحزمة الناسفة ، فهؤلاء يعرفهم الشعب ومتأهب للتصدي لهم ؛ بل الأعداء الأشد خطورة
هم الذين يتغلغلون في المجتمع والدولة ويُحكمون قبضتهم على مفاصلها ضمن إستراتيجية
التغلغل المتدرج إلى حين التمكن والتغوّل . هؤلاء ليس هدفهم دعم الحريات والحقوق الفردية
والجماعية ولا صيانة المكتسبات ولا دعم دولة المؤسسات وفصل السلط وسيادة القانون حتى
يمكن الاطمئنان إليهم وإلى مخططاتهم وبرامجهم ؛ بل مشروعهم يشكل خطرا على النظام والدولة
والوطن والمجتمع . وتجربة الصراع بين أردوغان وكولن في تركيا نموذج لمنحى السيطرة على
الدولة والشعب معا. فالإسلاميون ،إذن، ليس من أهدافهم بناء الوطن وتحديث الدولة والارتقاء
بالتشريعات بما يضمن كرامة المواطنين ويصون حقوقهم الفردية والجماعية . الأمر الذي
يقتضي من كل الأحزاب السياسية وهيئات المجتمع المدني أن تعي أهداف الإسلاميين وتستحضر
إستراتيجيتهم للسيطرة على الدولة والاستيلاء على الحكم . فالدولة المغربية الحديثة
بقوانينها ومؤسساتها ليست وليدة اللحظة ولا هي ملك لأحد . إنها نتاج نضالات مريرة وطويلة
كلفت المواطنين الشرفاء تضحيات جسيمة على مدى عقود .ويأتي في مقدمة هؤلاء اليساريون
الذين كانوا مهووسين بحب الوطن ولا يرضون عنه بديلا . إن هذه الروح النضالية التي ميزت
اليساريين عقودا وإيمانهم بأن الوطن للجميع هما سر قوة اليسار الذي عليه أن يجدد أسبابها
ويشيعها بين المواطنين عموما والشباب على وجه الخصوص . إن هامش الحريات الذي يعيشه
المغاربة اليوم والحقوق السياسية والاجتماعية التي يتمتعون بها قبل أن تعصف بها حكومة
حزب العدالة والتنمية ، لهي ثمرة تلك النضالات المريرة والطويلة والمكلفة التي خاضها
اليساريون بكل وعي وإصرار وحب للوطن وللشعب . فمقياس حب الشعب والوطن هو مدى التضحية
أو الاستعداد إليها من أجلهما دون قيد أو شرط ، ودون السعي وراء المناصب والمكاسب
. إن هذا التاريخ المجيد الذي سطره اليساريون بدمائهم وحرياتهم لهو أدعى إليهم بأن
يستحضروه حين يختلفون وحين يتحالفون . ذلك أن الاقتتال بين الفصائل أو الأحزاب اليسارية
مهما كانت نعومة الأسلحة المستعملة لن يخدم أي طرف يساري مهما كانت مواقفه من النظام
أو من المشاركة في الانتخابات ،بل يزيد الفجوة اتساعا في الوقت الذي تتطلب المرحلة
التاريخية تجميع العائلة وتوحيد الجهود وتحديد الخصم الرئيسي الذي يهدد المكاسب والحقوق
والحريات ،بل يهدد الاستقرار ويبتز الجميع (النظام والدولة والأحزاب والشعب ) إما بالفوز
بالانتخابات أو إحراق الدولة .الوطن يناديكم ويناشدكم أن اقتصدوا طاقتكم ووحدوا صفوفكم
فالمعركة المصيرية تنتظركم ولا خيار لكم غير خوضها والانتصار فيها ،لأن الخسارة والانهزام
ضد أعداء الحداثة وخصوم الديمقراطية ودعاة الخلافة ودولة الشريعة معناه نهاية الدولة
ونهاية التاريخ.
recent
كولوار المجلة
recent
recent
جاري التحميل ...
recent