تثاءبت خديجة وهي تمد ذراعيها خارج غطاءها الصوفي.
اعتدلت نصف جالسة. شردت بتفكيرها لحلم الليلة، عناقّ ودموع. يرتفع آذان الفجر. استعادت
من الشيطان
كانت الشمس قد أشرقت بخجل، عندما تسلّلت خديجة خارج
الدار. حملت معها حفنة لوز وإبريق حليب، وكثيرا من التمر والكعك والخبز. لا يستغني
أحمد، حبيبها عن فطوره هذا أبدا. كانت تسير مترنحة بخمرة موعد لقاء أسكرتها حدّ الثمالة.
لم تخلف موعدها معه أبدا، حتى عكازها كان يسابقها الخطى فرحا، وكالسهم انطلقت.
لم يكن لهما أبدا رأي في اختيار مكان اللقاء. كان
الطريق إليه مغبرا ومليئا بالأشواك. تعثرت مرات عديدة، فالحصى قد نبتت في كل مكان.
نادت على أحمد بصوت عال حتى يأخذ بيدها ويعبر بها. كان صدى صوتها قويا حتى أفزع الغربان
من منامها، فحلقت في أسراب بعيدة عنها. وهي تغادر، رسمت قلبا في السماء، ابتسم له قلب خديجة. كانت الطيور
ككل صباح، تحييها بحب وتبارك لقاءها المرتقب.
تتبعت مصدر شدى عطره الذي داعب مسامها، لم يغيره
بعد كل هذه السنين، تتنفسه الآن. أغمضت عينيها، استنشقته حتى أبعد نقطة بعمقها السحيق.
انتعشت وهي تتحسّس خطواتها إليه. كتمت أنفاسها حتى لا تندثر أي ذرة من رائحته.
كان أحمد شبه نائم، يتقلب بين سبات ويقظة. انتظرها
دهرا، وعندما طال انتظاره، أسند جثته ليرتاح. كانت هناك يرقة قد أقلقت منامه، فراشة
على وشك الولادة، يعرف بألم المخاض. لقد كان هناك مع خديجة في ميلاد كل أبنائه الخمسة.
عاصر وجعها وألمها وفرحتها ودموعها. يتذكر عندما كانت حلمتاها تتشققان وتسيلان دما.
كانت تداري ألمها عنه. تبتسم، تضع كمادات ساخنة، ثم ترضع صغارها بكل حب وحنان.
كان اللقاء هناك فوق قمة الهضبة، ربما ليكونا أقرب إلى السماء، حتى تسمع
الملائكة مناجاتهما. ودَّعها عكازها أسفل الهضبة، بعد أن أفردت ظهرها، ومسحت عن جبينها
كل آثار الزمان. كانت تمشي برشاقة كضبية في الغابة. تقفز من شجرة لشجرة وهي تقطف ثمار
الكرز وتضعها بسلة لتزين حفلة الفطور. جلست القرفصاء جنبه، وهي تسترجع أنفاسها. كانت
تلهث بدلال، وهي تحكي له عن قطاف الكرز. مدّت طرف ثوبها، مسحت على جبينه. قبلته قبلة
طويلة حتى تسلل نسيم برائحة أزهار الياسمين إلى أنفها. داعب وجنيتها وأطار منديلها
المزركش الذي كانت تزين به بياضها الوردي. انتبهت
لأنامله تلاعب شعرها. تملصت منه بدلال وهي تجري وراء منديلها الطائر.
صبّت الحليب بكأسين كانا على مقربة منها. نثرت اللوز
والقمح والتمر على المائدة، وجلست تحكي له أخبار أمسها.
- أخبرتك أن البارحة كان موعد زيارة الأبناء
لي. هكذا وعدوني بالهاتف منذ شهر، لكنهم لم يحضروا، حتى الصغيرة أحلام، تتذكر كيف كنّا
ندللها، وكانت شقية وجميلة، آخر العنقود. كنت أتحرق شوقا لرؤية وفاء ابنتها، لم أراها
بعد، لكنها حرمتني منها.
- تعرف حبيبي، كنت سأحضرهم اليوم للقائك.
أعرف أنك اشتقت إليهم كثيرا، لكن لا تحزن، قريبا سيلعبون وينثرون الزهور حولك.
نزلت دمعة حارة على خديها، وكأن صمته قد أخبرها بأنه غاضب منهم. لطالما انتظرهم بفارغ
صبر وفرح، لكنهم أبوا إلا أن يقضوا مضجعه .
_ تعبت من انتظارهم، ولولا فرحة لقائك كل
يوم، لما تحمَّلت.
كان يوسف يستمع لخديجة بهدوء ساكن، أخرج يده اليمنى
من قماشته البيضاء، وربّت بحنان على ظهرها، شعرت بحرارة لمسته وأنفاسه، زادت دموعها
حتى ابتلت الأرض حولهما. مدّت يدها، قطفت أجملها وصنعت له باقة بألوان زاهية. يحب أحمد
مزيج الألوان ، لذلك كل فصولها معه كانت ربيعا. كان يقول لها أن للألوان نبض وإحساس.
لذلك لما استبدل أثواب ملابسه الزاهية بقماش أبيض،
حزنت كثيرا، لكن قلبها أخبرها لاحقا، أن مكانه وردي ومليء بالفراشات الملونة.
_ أعرف أنك مازلت تعاتبني على بيعي لبيتنا
الكبير. لم أستشرك في ذلك، لكني لم أرغب به بعد غيابك، وبعد أن غادره الجميع. كنت أتوه
فيه وحدي. ظننت أنني أمنح السعادة لصغارك عندما وزعت ثمنه عليهم. كبروا الآن وكل واحد
استقل بحياته. لقد تركتَهم صغارا، لم يبلغوا الحلم. تغيروا كثيرا.
أحبهم أكثر عندما يبتسمون، أرى ابتسامتك وعينيك الجميلتين فيهم.
كنت أتنقل بينهم كالغريبة، بعد أن سكن بيتنا الفسيح
أغراب، أتخيلهم مرات يجلسون لطاولتنا الكبيرة يتناولون العشاء وهم يضحكون كما كنّا
نفعل من سنوات عديدة. غالبا ما تراودني فكرة زيارة بيتنا والتجول بغرفه وبستانه. سأذهب
لأبحث عن شذى عطرك هناك، وأحمله معي. تعرف أني
أتنفسك، لأعيش. قال أبناؤك أنني، متطفلة، ربما أفسد فعلا تربية أبنائهم، ولا
أرقى لمستوى أصدقائهم، وشهاداتهم العليا. وجودي يحرجهم ويحرج زوجاتهم وأزواجهن. أصبحت
شاردة الذهن، والأكل قد يتساقط من فمي كما تساقطت آخر أحلامي عندما غادرتني، وحينما
وضعوني ببيت أكبر، لم أعترض، بل وجدت راحتي نسبيا، لي أهل وإخوة وأخوات. الآن، نتقاسم
اللقمة والكلمة وأنين المرض، ثم لا تنس أنك دائما معي ،تهوّن علي وتؤنسني.
_ شي بركة الحاجة، نقراو على المرحوم.
أرجعها صوت "الطاّلب" لواقعها الأليم.
نظرت حولها، صمت الموت يطبق على المكان. الأشواك في كل مكان، وأكوام من تراب وحصى توزعت
بين القبور. رفعت رأسها إليه وهي تسند ظهرها المنحني بيدها المرتجفة:
_ لا، أشكرك، أفضل أن أقرأ على زوجي المرحوم
من قرآني وبصوتي. ناولته ورقة نقدية، وقد رقّ له قلبها، وهي تراه بأسمال بالية. جلباب
ضاعت ملامحه بفعل الغبار والشمس، وتساءلت كيف للقرآن أن يكون مفتاح رزق داخل أسوار
المقبرة أو خارجها؟؟ أوليس كلام الله خاصا، ويخص العبد وربه بدون وسيط؟
علاقة روحانية وجدانية، ولا أحد ينوب عن الآخر أو
يتكلم بلسانه، وبقلبه.
وهي تقرأ ما تيسر من آيات، حطّ الحمام حول قبر أحمد.
يأكل اللوز والقمح ويشرب الحليب، ثم طار بعد أن ترحم على الأموات، وجهته شبابيك الأبناء.
يدق بمنقاره عليها حتى تفتح، ثم يرمي ببعض من رائحة الغائبين، ربّما تمسح غشاوة أنانيتهم
وتغسل قلوبهم، وقد يلتحقون بموعد الغد في الصباح.
غادرت خديجة المقبرة، حافية القلب، وبلا قدمين،
بخطى أثقلتها سنواتها السبعين، توزع التمر والخبز على أحياء أموات، يعيشون بين أموات
أحياء. سحناتهم باهتة، أسمالهم مغبرة، وعيونهم متحجرة، بحر من همٍّ وبؤس، فارغة إلا
من لوعة انتظار لمسة عطاء. هم أوفياء للأموات.
يضبطون ساعات حياتهم، بإخلاص على كل الزيارات.
وهي راجعة
إلى دار العجزة، حطت فراشة بألوان قزحية على وجنتيها. أحست بقبلة أحمد يودِّعها، ويهمس
لها أن لا تتأخري عن موعد الغد. التفتت إلى مكان رقاده، مقبرة ذكرياتها. أرسلت له قبلة
طائرة. كان هناك، وقد أحكم شدّ قماشته البيضاء عليه، يبتسم لها بعد أن لفحته قبلتها،
ويستعِدّ للنوم من جديد، لا يريد أن يبرد وحيدا، سيفسح لها مكانا بجانبه، ويوما ما
سيستأنفان حديثهما من تحت الثرى، يدثران بعض، وفراشاتهما تتراقصان على أنغام سمفونية
سباتهما وحبّهما الأبدي.