-1- السياسة في قواميس اللغة العربية، تنحدر من مصدر ساس يسوس سياسة.
وفي شرح لصاحب القاموس: "ومن المجاز سست الرعية سياسة، أمرتهم ونهتهم،
وساس الأمر سياسة، والسياسة على الشيء بما يصلحه"(1).
والسياسة في القواميس اليونانية القديمة، كلمة تنحدر من أسرة "المدينة"/
بوليس، وتعني العلاقة بين الناس في مجتمع منظم ومتكامل.
والسياسة في موسوعة العلوم السياسية، هي فن إدارة المجتمعات الإنسانية،
وفي معجم العلوم الاجتماعية، تشير السياسة إلى أفعال البشر التي تتصل بنشوب الصراع
أو حسمه حول الصالح العام، والذي يتضمن دائما استخدام القوة أو النضال في سبيلها، وفي
المعجم القانوني، السياسة هي أصول أو فن إدارة الشؤون العامة (2).
-2-
تاريخيا، يعد كتاب الجمهورية للفيلسوف الإغريقي أفلاطون (380 ق م) أقدم
الأطروحات الفكرية عن السياسة في التراث الإنساني، تدخل مرتين في السياسة لإنشاء دولة
فلسفية في سراتوسيا وفشل. وتقوم فكرة هذا الكتاب/ الجمهورية على النخبة القادرة على
الحكم. الشعب في نظر الفيلسوف الإغريقي عاجز عن المشاركة، أما طبقات الجمهورية فهي
ثلاث: الفلاسفة، الطبقة الوسطى من الجنود والموظفين، والطبقة الدنيا من الحرفيين والعامة.
الفلاسفة يحكمون بفكرة المستبد المستنير، لا يملكون ولا ينتمون للعائلة، يعيشون في
شيوعية "كومونة" بدائية، العامة يستطيعون التملك والانتماء للعائلة، الطبقة
الحاكمة تتنازل عن الثروة مقابل لذائد الجاه ومتعة الفكر.
و"الجمهورية" هو الكتاب الأول الذي أعطى
دروسا قيمة في الحكم والإدارة وتدبير الممالك والمدن، والذي كان له نصيب وافر من الاهتمام
في عهد الترجمة، حيث نقلت أفكاره ومفاهيمه إلى السريانية، ثم إلى العديد من اللغات
الأخرى، لتحتل مساحة واسعة في تاريخ الفكر الإنساني.
وعربيا، يعد كتاب السياسة المدنية لأبي نصر محمد الفرابي (المتوفي سنة
950) من أهم الكتب العربية التي تناولت العلوم السياسية بمنهج فلسفي، في زمن مبكر.
وتؤكد العديد من المراجع أن "المعلم" الفارابي قبل أن يتطرق
لموضوع السياسة تضلع في المنطق والرياضيات والموسيقى، وجمع في العديد من كتبه بين رأيي
الحكيمين أرسطو وأفلاطون، وحاول التوفيق بينهما في المنطق والسياسة المدنية.
وحتى الزمن الراهن، مازال كتاب المعلم الفارابي في السياسة، من أهم المراجع
التي يعتمد عليها البحث الأكاديمي في تحديد المفاهيم السياسية المتداولة منذ عهد أرسطو...
وحتى اليوم.
وتاريخيا أيضا، يعد كتاب "زبدة الحكم" للفيلسوف السرياني رهاوي
(المتوفي سنة 1280) من أهم المراجع الفلسفية في المسألة السياسية، حيث تناول في وقت
مبكر، أسباب تكوين المدن وكيفية سيرها وأدارتها بطريقة خاصة، تخالف المنهج الذي سلكه
أفلاطون في جمهوريته، حتى وأن ارتكز في بعض "أحكامه" على المفاهيم الأفلاطونية.
أكدت فصول هذا كتاب أن الذين كتبوا في السياسة من الفلاسفة السابقين،
كانت بحوثهم فلسفية مثالية، تحاول تبديل مجرى الحياة السياسية، و قلب النظام الاجتماعي
رأساً على عقب، و جعل الأرض سماء، بطرقة خيالية لا يمكن تطبيقها، و لا يعقل فرضها على
الهيئة الاجتماعية مهما كان البشر أطهاراً و أبراراً، وهو ما جعل الفيلسوف السرياني
يأتي بتعاليم سياسية واقعية قابلة للتطبيق على الهيئة البشرية، لتقويمها و إصلاح ما
فسد فيها من نظام وما تعطل فيها من النواميس الطبيعية و الاجتماعية و السياسية، و هو
و الحالة هذه يتبوأ درجة عليا بين الفلاسفة الذين طرقوا هذا الباب، و ينفرد في واقعيته
التي تتمشى و الحياة البشرية جنباً إلى جنب.
وإسلاميا، يؤكد الباحثون في الدراسات الإسلامية،
أن لا وجود لكلمة السياسة في تراثنا الإسلامي، سواء في النص القرآني أو في السنة النبوية،
أو في فقه المذاهب المتبوعة، أو في الفكر الإسلامي عامة.
إن كلمة السياسة، أو أي مصطلح مشتق منها وصفا أو فعلا، لم ترد في القرآن
الكريم... ولا في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، أو معجم ألفاظ القرآن (الذي
أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة نهاية القرن الماضي.
ذلك لا يعني في نظر الخبراء والفقهاء، إن القرآن الكريم أهمل المسألة
السياسية، بل جاءت مفاهيمها في النص القرآني، بصيغ وأساليب شتى، بما يدل عليها وينبئ
عنها بما يعني حكم الناس وأمرهم ونهيهم وقيادتهم في أمورهم، في آيات قرآنية عديدة.
-3-
في العصر الحديث، وانطلاقا من نهاية القرن التاسع عشر (3) تحولت السياسة
إلى علم/ علوم تهتم الجامعات الأكاديمية في مختلف أنحاء العالم بمفاهيمها ونظرياتها
الفلسفية وتطبيقاتها، بعدما تأكدت أهميتها، فاعتمدتها كمادة للتدريس في الجامعات الأوروبية
بصفة عامة، والجامعات الأمريكية بصفة خاصة.
وقد أدت أحداث العالم خلال القرن الماضي، إلى مضاعفة
الاهتمام بالعلوم السياسية والاتجاه نحو الدراسة الاستقرائية لمختلف الظواهر السياسية،
كالأحزاب ومنظمات وهيئات المجتمع المدني والرأي العام، وجماعات الضغط وغيرها، خاصة
في الولايات المتحدة الأمريكية، التي غلبت فيها النزعة المنهجية لدراسة الوقائع والجزئيات
إلى درجة أحدثت تطوراً منهجياً جديداً جعل علماء السياسة فيها يتبنون نظريات جديدة.
وقد ظلت دراسة النظريات السياسية التقليدية غالبة
في أوروبا إلى أن تأثر العلماء والمفكرين السياسيين بالمناهج الاستقرائية والتحليلية
الأمريكية، مما احدث تحولا تدريجيا لصالح هذا الاتجاه.
وقد ظلت النظرة السائدة إلى علم/ علوم السياسة،
إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية، على أنها فرع من العلوم الاجتماعية والإنسانية
التي تهتم على وجه ما بالحياة السياسية، وأنه ليس هناك ميدان خاص للمعرفة ينفرد بالسياسة،
انطلاقاً من أن جميع العلوم الاجتماعية والإنسانية تتناول السياسة، في مفاهيمها وآلياتها
المعرفية والقانونية، أي أن النظرة لعلم السياسة أو للعلوم السياسية، كانت تؤكد العلاقة
بينها والعلوم الاجتماعية دون أن يعترف لها بموضوع خاص ينفرد بها دون سائر العلوم الاجتماعية.
إلا أنه عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وما نتج عنها من ظواهر سياسية، لم تكن
موجودة من قبل وانقسام العالم إلى كتلتين وقيام كيانات دولية جديدة - وضع العلوم السياسية
في موقع متقدم من الدراسات الأكاديمية، وفتح الباب لها لتعميق بحوثها ودراساتها، وهو
ما أعطى لعلم السياسة أبعاداً جديدة تبرزه عن العلوم الاجتماعية الأخرى.
-4-
هكذا تكون السياسية، وبسبب التطورات الحضارية والفلسفية
المتتالية منذ الزمن الإغريقي إلى زمن العولمة، قد تحولت إلى عملية استكشاف كاملة للإنسان
من قبل الإنسان/ إلى كل نشاط إنساني محوره الإنسان/ إلى العلاقة المتبادلة بين المواطن
والمجتمع والدولة/ بين الحاكمين والمحكومين. أنها أصبحت الخيط الرابط بين الأزمنة والأمكنة
والعقول والسلوكات والتصرفات... وبالتالي أصبحت هي فن الممكن/ هي القدرة على الفعل/
هي فن يتكيف مع الزمان والمكان ولا يتأثر بهما، إلا من خلال أفكار وعقائد وثقافات الإنسان.
والسياسة خارج المفاهيم الأدبية والفلسفية، المتراكمة
على ساحتها منذ عهد أفلاطون، وحتى اليوم، أصبحت قوانين حية، تصورات متدبرة وجريئة،
أصبحت حصيلة كل ذلك مقرونة بإرادة تفهم الجماهير، وتخطيط لما تريده. فهي ليست أمنيات
أو أحلام، ولكنها وقائع وأرقام ومعطيات واستقراء وتحليل وقراءات. هي المحصلة التفاعلية
لكل التيارات المذهبية/ الإديولوجية. ولكل الخطابات الثقافية السائدة في المجتمع...
ومن تمة أصبحت فضاء عاما يضم كل القابلين بها والرافضين لها. تحت خيمتها، الممتدة على
تضاريس الكوكب البشري، تعيش البشرية تقدمها وتخلفها، سلامها وحروبها.
فمنذ عصر أفلاطون، وحتى يومنا هذا، والسياسة مصدر
أفكار وأراء ومذاهب وإيديولوجيات في تدبير حياة الناس والدول والسلط. فهي كعلم منطقي
يخضع ككل العلوم للمنطق الفكري والإنساني، ينظم الحياة عن طريق المؤسسات التي يمنحها
مسؤولية العمل السياسي حتى يبعدها بالفكر السياسي
عن اللامسؤولية، ويبعد الممارسة السياسية عن الفوضى. وفي مقدمة المؤسسات السياسية التي
ابتكرها علم السياسة، التنظيمات السياسية التي أخذت في الغالب أسماء الحزب/ البرلمان/
الحكومة/ السلطة العليا.
******
1- انظر مادة سوس في تاج العروس (4/169) طبعة
دار صادر بيروت.
2 -انظر موسوعة العلوم السياسية/ جامعة الكويت/ ص:102.
3 - في سنة 1872، ثم إنشاء المدرسة الحرة للعلوم السياسية بباريس/ فرنسا،
ومدرسة لندن لعلم الاقتصاد والسياسة.