هل استقال المثقف
أم أقيل؟، هل قرر الانسحاب من المجال العمومي طواعية ،فأعلن قطيعة مع الأحداث والوقائع
، واختار عدم التفاعل مع الديناميات التي تخترق المجتمع
فدخل في عزلة اختيارية ؟ أم
أن هذا الكلام عار من الصحة والمصداقية ؟ في واقع الأمر،عدد لايستهان به من المثقفين
أصيب بخيبة أمل كبيرة وبإحباط شديد ، لاعتبارات كثيرة ومتداخلة ،أبرزها التحولات الجذرية
التي مست وظيفة وصورة المثقف في المجتمع المغربي ،بحيث لم يعد يتمتع بنفس القيمة الاعتبارية
والرمزية التي كانت له في العقود الماضية،ولم يعد مصدرإزعاج أو استفزاز بالنسبة للدولة
،عندما كانت هذه الأخيرة تهاب المثقف وتحسب له ألف حساب ،وكانت تعتبره خطرا عليها ،لأنه
كان يرمز إلى الثورة والتغيير والتجديد ،وحتى تلك المكانة التي كان يحتلها في البنيات
الحزبية لم تعد قائمة ،فبدل أن ترتفع أسهم المثقف في بورصة السياسة،نجدها قد هوت إلى
أدنى درجة ،فيما يشبه عقوبة من السياسي تجاه المثقف ، أما الدولة بمكوناتها ودوالبيها
ووظائفها فقد خططت منذ سنوات لاحتواء المثقف وتدجينه وإغرائه ،في مسعى حثيث لتحييد
فعاليته ،وطمس إشعاعه ،فتحقق لها هدف قتل المثقف ،دون أن تدرك أنها بفعلها ذاك إرتكبت
خطأجسيما ،كونها استئصلت من المجتمع أدوات التفكير والانتاج الرمزي ،وحولته تبعا لسلوكها
المتوجس ، إلى صحراء لاماء فيها ولاكلأ . لكن مع ذلك، هناك من المثقفين من وقف في وجه
العاصفة ،واعتنق خيار المقاومة والممانعة ،ورغم التشوهات التي طالت المجتمع ، والتحولات
التي شملت كل الأنماط والسلوكات والقيم ، ورغم احتقار شرائح واسعة من المجتمع للثقافة
والمثقفين والعقل ،ورغم التهميش الذي تمارسه وسائل الاعلام العمومية وعداء بعض مسؤوليها
لكل ماهو ثقافي ،فإن هذا الصنف من المثقفين يحرص على المشاركة في النقاش العمومي ،والالتزام
بمصاحبة ومواكبة مايحدث داخل المجتمع. من هنا نتساءل لماذا يكتب الكتاب ولمن يكتبون
، إذا كان مجتمعهم هجين التركيب والتكوين و يكرههم ويرفضهم ؟ هل بمقدور الكتابة أن
تغير شيئا في الواقع؟ وهل يوجد استعداد لدى صانعي القرار في المغرب للإنصات إلى ما
يقوله المحللون والاهتمام بما تنشره الصحافة من أخبار وتقارير وتحقيقات هناك مشاكل
عويصة ومتداخلة، وهناك أوضاع مزمنة وشروط عيش العديد من المغاربة مثيرة للاستياء، والاشمئزاز،
والمرافق الإستراتيجية كالمستشفيات تعكس حالة من انعدام المسؤولية و عدم احترام الواجب،
وتجسد استهتارا صارخا بحقوق المواطن في العلاج والصحة السليمة، واللائحة إن أردنا استعراض
مظاهر ومكامن الدولة غير المواطنة قد تطول إلى ما لا نهاية. عبد الصمد بنشريف وبدون
مبالغة أو مزايدة، لم تتأسس في المغرب ثقافة ولا سلوك تقدير وتثمين ما يكتبه وما يطرحه
المفكرون، والكتاب، والمحللون من اقتراحات وحلول ، وكأن مجهودات هؤلاء لا تعدو أن تكون
هراء أو صيحات في واد. وهنا أستحضر ما قاله المفكر المغربي عبد الله العروي بخصوص نقاش
جرى بينه وبين القيادي الراحل المهدي بن بركة في الستينيات حول الفعل السياسي، هل هو
ممكن بدون أرضية إيديولوجية واضحة؟ فكان جواب المهدي بن بركة هو: نعم، أما العروي فأجاب
بالنفي. ومن هذا المنطلق لا نتصور أن تكون هناك سياسة ناجحة وذات جدوى، ولا قرارات
مؤثرة إذا لم تستند إلى أرضية وتصورات واضحة، تؤطرها وتوجهها وترسم لها الآفاق الآمنة
والواعدة. وهذا ما يعجل اليوم بضرورة تطليق السلوكات التقليدية والسلطوية في التعاطي
مع والفكر والثقافة الصحافة ، لقطع الطريق على لوبيات الدفاع عن الزبونية والحلقية،
والمقاربات العشائرية والعائلية والإخوانية ـ بالمفهوم الاجتماعي الضيق وليس الديني
ـ ضدا على المؤسسة والكفاءة ومعايير الانتقاء العقلاني ومقتضيات المصلحة العامة التي
تراعي التوازنات والتوافقات. حاولت في عدة مناسبات أن أجد مسوغا منطقيا لأفهم لماذا
بالضبط يشكو النسيج الاجتماعي المغربي من فوارق وتناقضات مهولة؟ ولم أجد أي دليل مقنع
على استهتار صناع القرا ر بما يثيره منتجو الأفكار من تساؤلات،وما ينجزونه من أبحاث
حول تحولات وتغيرات المجتمع ،ونفس الشيء يسري على ما تطرحه الصحافة من ملفات وقضايا
،غالبا ما ينظر إليها باستخفاف ، فمدن كالرباط العاصمة، والدار البيضاء ومراكش وطنجة
وفاس ألخ ، تختزل مغربا بسرعات مختلفة وثقافات متباينة، وقيم متصارعة، فــأحياء سكنية
ك “بير قاسم” و”حي الرياض” في الرباط يرمزان إلـى مغرب قائم بذاته له خصائصه ونمط عيشه،
وله لغته الخاصة به، مغرب يرفل في السعادة والهناء والاستقرار، كل شيء موجود ومؤمن.
لكن هناك في المقابل أحياء تنوء العاصمة بحملها، وهي أحياء مهمشة ومزروعة بالألغام
والقنابل الموقوتة من جريمة وعنف وانحرافات ورفض وسخط. أما خارج العاصمة، وبعيدا عنها،
فالأمور تتخذ بعدا أكثر مأساوية، ورغم كل ما كتب وما أنجز من تحقيقات ودراسات، لإثارة
الانتباه إلى ما يمكن أن تشكله هذه الفوارق والتباينات من خطورة على الأمن والانسجام
الاجتماعي، فإن المسؤولين الذين يتحدثون عن الحداثة والديمقراطية يرون هذه المشاهد
صباح مساء ويلمون بخباياها وما تنطوي عليه من تشوهات وإساءة لصورة المغرب الذي نريده
أن يكون نموذجا للتنمية السياسية، وقبلة للسياح، ومرجعا للاستقرار. والمؤسف هو أن المراهنة
على الديمقراطية والحداثة في مثل هذه البنيات لا تملك شرعية مقنعة، لأن الديمقراطية
لها مجموعة من الدعامات والمقومات، سياسية واجتماعية، ومؤسساتية، وحقوقية، وثقافية،
أما تجريدها من هذه الدعامات فيعني إلغاؤها تماما ونفيها من المجتمع الذي به ومن خلاله
تكستب وظيفتها الفعلية، ووجودها المادي.
نشربالمجلة بتاريخ الأحد، 24 أبريل، 2011