انتهت أجواء الاحتفالات في فرنسا لمؤيدي الرئيس الشاب المنتخب حديثاً إيمانويل ماكرون وانتهت معها أحزان المنافسين. بدأ الجميع العودة إلي العمل سواء في ممارسة
الحكم أو في المعارضة. انتهي الاحتفاء بأصغر رئيس يصل قصر الإليزيه، ولكن أحزاننا في شرقنا العربي لا تنتهي. ظهر الإعلامي المعروف عمرو أديب ليسأل الشعب المصري والأحزاب لماذا لا نجد مثل هذا الشاب يوماً في الاتحادية؟ الردود علي سؤال كهذا قد تستغرق أياما من النقاش ولكن أبسطها ما يحدث في الرأي العام المصري منذ أيام.
اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي تهاجم الشيخ سالم عبد الجليل كونه وصف العقيدة المسيحية بأنها “عقيدة فاسدة” ضمن برنامج ديني علي إحدي القنوات الفضائية. بين مؤيد ومعارض، بين مكفر للمسيحيين في العموم وبين مفسر لاختلاف عقيدتهم وبين شعور أقلية دينية بأن الوطن قد ضاق بهم، تاه الرأي العام وغابت عنه أولويات القضايا الحتمية التي يجب الا ننشغل عنها. تم تقديم بلاغات ودعاوي ضد الشيخ سالم تحت مظلة “ازدراء الأديان”. واستنادا علي أن الحديث في الدين لا يخلو من المعارك الجدلية الكلامية، فقد ظهر الأب مكاري يونان (وهو إحدي الكهنة أصحاب عدد كبير من المريدين) ليدافع عن المسيحية وليعلن أن مصر مسيحية في الأساس وأن المسلمين هم أقباط لم يقدروا أن يدفعوا الجزية. وبالطبع أغضبت تلك الكلمات قطاعا من المسلمين محركين هم أيضا دعاوي قضائية ضد الأب مكاري مما يشعل الضغينة في قلوب محبيه أكثرا فأكثر.
أتدري أيها القارئ العزيز أنه أثناء تلك المهاترات العقيمة التي تشغل بالنا وإعلامنا ومناقشتنا، سوريا تئن في حلب وصنعاء تستغيث في اليمن والتمزيق يفتك بليبيا؟ هل تدري أيها القارئ العربي أن ثورات بأكملها قد قامت في عواصمنا كي ننزع كل سلطوية عسكرية وفاشية دينية من كراسيها ولازلنا نشغل أيامنا بتكفير وتحريم وتحريف وتجريم؟ هل تعلم أننا لازلنا لم نصغ بعد عقدا اجتماعيا في مصر يحكم علاقاتنا كأبناء وطن واحد ويفصل بيننا وبين أي سلطة كانت؟
أستاذي العزيز عمرو أديب، كيف ينبت في أراضينا شاب حر يحلم بكرسي الرئاسة إن كان ما يشغل نخبتنا ومثقفينا وإعلامنا تفسير شيخ ووعظة كاهن وتعليق مفتي وتحريم إمام؟ كيف يظهر ماكرون في مصر بين جدل ديني يملأ المجال العام بدل أن تملأه الاختراعات والتجديد والتنوير. عذرا فنحن لسنا في حاجة لتجديد الخطاب الديني، كفانا خطابا دينيا في مجالنا العام. احترموا الأديان ولو مرة وابعدوها عن كل ما هو نسبي. إمانزيل ماكرون ظهر في بيئة قد عملت منذ عقود علي تحييد الدين عن القانون وعن المجال العام، فملأته قضايا المساواة والعدالة الاجتماعية والتنافس السلمي لحل مشكلات المواطن. بعد سنوات من حرب بين الثورة الفرنسية والكنيسة الكاثوليكسة في فرنسا، تم سحب كل ما هو ديني من المجال العام ومن مؤسسات الدولة بحكم القانون في بدايات القرن العشرين.
لماذا تريدوا أن تتجرعوا مرارة نفس التاريخ، إن كان التاريخ لا يتعلم شيئا كما قال يوما هيجل، فلتفطن شعوب المنطقة أننا نسير بخطي ثابتة نحو مجتمعات متناحرة بسبب الدين ومغيبة بقضايا الصد والرد، فلا مكان للحديث عن طفرة علمية أو تجربة تنموية. فلا مجال يا أستاذي الكريم عمرو أديب لظهور ماكرون جديد في مصر.. فالشعوب تستحق من يحكمها يا سيدي.