كتاب “محمد بن عبد الكريم الخطابي والكفاح من أجل الاستقلال”- ترجمة وتقديم: محمد أونيا – عبد المجيد عزوزي-عبد الحميد الرايس منشورات تيفراز
نشير بداية على أن اهتمامنا بالريف ليس وليد اللحظة، بل يعود إلى عدة سنوات خلت، حين بدأنا أبحاثنا حول تاريخ هذه المنطقة. وقد قمنا بذلك بالأساس، بدافع الاهتمام الذي كنا نوليه دائما لشخصية محمد بن عبد الكريم الخطابي. والدليل على هذا هو أننا خصصنا له في جميع الكتب التي ألفناها إلى حدود اليوم، حيزا هاما وصفحات عديدة، باعتباره شخصية أساسية ليس فقط في تاريخ المغرب، بل أيضا ضمن التاريخ العالمي خلال القرن العشرين، وذلك بصفته رائد الكفاح من أجل تحرر الشعوب من نير الاستعمار.
لذا، لا نخفي سراً بأن إحدى أكبر رغباتنا كانت دائما تتمثل في أن نتمكن يوما ما، من تخصيص كتاب كامل له وحده. وغني عن القول أنه عندما اقترحت علينا دار النشر التي نتعامل معها، بأن نكتب ترجمة عن حياة عبد الكريم، قبلنا العرض عن طيب خاطر وبكل حماس. فقد سنحت الفرصة أخيرا بأن نفرد له حيزا أكبر مقارنة مع ما سبق أن كتبناه إلى حدود اليوم، وبأن نتعمق في الإحاطة بجوانب عديدة من مساره السياسي والإنساني. أتيحت لنا الفرصة أيضا بأن نتدارك ونصحح بعض الأخطاء التاريخية، وبأن نوضح نقطا محددة، وأن نُعَرِّف القارئ باللغة الاسبانية بالشخصية الحقيقية لعبد الكريم، بعيدا عن الصورة السلبية التي قُدِّمت لنا في الكتابات الاستعمارية. لقد كانت هذه الخطوة تحديا حقيقيا قررنا أن نواجه بحزم وثبات لا يخلوان من بعض التخوف. قد نُنعت بالجرأة الزائدة بقبولنا مباشرة هذه المهمة الصعبة، لأن تأليف كتاب من هذا النوع يتطلب معرفة دقيقة وإحاطة عميقة للمجتمع الريفي. وقد أدركنا فعلا، أن إلمامنا بهذا المجال تعتريه نواقص عديدة، بما أننا لا ننتمي إلى الريف ولسنا متخصصين في الأنتروبولوجيا. فقد صدق دايفيد مونتڭومري هارت حين قال بأن المجتمع القبلي الريفي يتميز بالتعقيد الشديد.
لقد كان الدخول إلى هذا «العالم الريفي» بالنسبة لنا، بمثابة ولوج غابة كثيفة مليئة بالأشجار التي تتفرع عن جذوعها عشرات الأغصان، بعضها كبيرة وأخرى أصغر حجما، تتفرع عنها بدورها أغصان أخرى مما يجعل المرء يتيه وسطها نظرا لصعوبة التمييز بينها. وتُمثل الجذوع والأغصان بالنسبة لنا، العشائر والسلالات الريفية، بالإضافة إلى المستويات الأخرى التي ينبني عليها المجتمع القبلي الريفي، هذه الأجزاء الانقسامية التي تتشابك وتتقاطع فيما بينها لتُشكّل شبكة معقدة، يصعب معها التمييز داخل نفس العشيرة أو القسمة بين أعضاء السلالات المختلفة، ودرجة القرابة التي تجمعهم. فيبدو أن العديد منهم لهم نفس الانتماء ويحملون نفس الاسم الشخصي والعائلي، غير أن طريقة كتابة أسمائهم في الوثائق تختلف من حالة إلى أخرى، الأمر الذي يجعل اسم نفس الشخص يرد في وثيقة بشكل محدد ويُكتب في أخرى بطريقة مغايرة. حيث أن الموظف الإسباني الذي يوجد في الخدمة في فترة ما، والذي عادة ما يكون عسكريا شبه أمي، كان يكتب أسماء الريفيين حسب ما تلتقطه أذناه. لهذا السبب تعددت الأخطاء لدى تسجيل الأسماء، ليس فيمال يتعلق بالأعلام البشرية فحب، بل الجغرافية أيضا.
إن غياب أصوات محددة في اللغة الإسبانية مطابقة لما تتضمنه اللغتان الريفية والعربية، يزيد من حدة هذا المشكل، حيث يضطر الإسبان للجوء إلى حروف مختلفة لنقل هذه الأصوات التي تفتقر إليها اللغة الإسبانية، وإن لم عدم تتطابق بشكل كامل مع أصوات اللغة الأصلية. كمثال على ذلك نذكر الصوت المطابق لحرف “الجيم” الذي يكتبه الإسبان مستعملين حرف “x” كما في لفظتي «أجدير» Axdir و«وجدة» Uxda أو حرف “y ” في حالات أخرى، كما في كملة «جبل» yebel، الأمر الذي يخلق لبسا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن نفس الحرف اللاتيني “y” يحيل في العربية إلى الحرف الياء.
لقد كنا دائما من أشد المساندين لاعتماد الوثائق الأرشيفية كمادة أساسية في مجال البحث التاريخي. بيد أن حتى هذه الوثائق ذاتها يمكن أن تضللنا وتقودنا إلى اقتراف الأخطاء. فبغض النظر عن تباين طريقة كتابة الأسماء في المصادر المختلفة، تتعدد أيضا حالات إغفال إدراج المعلومات بها، مما يتسبب أيضا في ارتكاب الأخطاء. هكذا مثلا، لاتشير الوثائق أبدا بخصوص حالة رحمة، إحدى شقيقات عبد الكريم، بكونها زوجة محمد أزرقان، كما لا تفيدنا بأنها هي نفس الأخت التي بقت أن تزوجت بريفي آخر وتطلقت منه، والتي أفردت العديد من الوثائق لحالة طلاقها حيزا هاما، لكن دون ذكر أسم المرأة أبدا، خلاصة القولـ أن هذا الإغفال جعلنا نعتقد بأن الأمر يتعلق بشقيقتين مختلفتين لعبد الكريم هما رحمة وآمنة، في حين أنهما امرأة واحدة هي رحمة. التبست علينا الأمور أيضا بالنسبة لحالة آمنة، التي اعتقدنا بأنها الشقيقة الكبرى لعبد الكريم، في حين أنها الأخت الصغرى، كما اختلطت علينا الأمور أيضا بخصوص زوجها المسمى الحاتمي، والذي يرد اسمه في الوثائق الإسبانية بأشكال مختلفة، مما يدفع المرء للاعتقاد بأنها تتحدث عن عدة أشخاص وليس عن شخص واحد.
لقد تم تجاوز هذا الالتباس وتدارك هذه الأخطاء المشار إليها، في النسخة العربية، وذلك بفضل المترجمين، محمد أونيا وعبد الحميد الرايس وعبد المجيد عزوزي، الذي نود بالمناسبة، التعبير لهم عن امتناننا الكبير وشكرنا لهم على عملهم الممتاز. لقد اتصفوا بشدة التدقيق ومعاينة أصغر التفاصيل مع الصرامة في التعامل مع المعطيات وإيلاء كل صغيرة وكبيرة ما تستحقه من تفحص واهتمام، هذا علاوة على معرفتهم المعمقة للريف والمجتمع الريفي. لقد دأبوا طيلة مدة الترجمة على مدى سنتين، على مراجعة كل الأخطاء كالتي أشرنا إليها أعلاه، عبر إثارة انتباهنا إلى الحالات المشكوك في صحتها واحدة واحدة. هذا فضلا عن أخطاء كثيرة أخرى، بما فيها الأخطاء المطبعية، والهفوات التي يسمها الفرنسيون والإسبان «الأخطاء الناتجة عن السهو» هكذا إذن، أصبح ممكنا في الطبعة العربية تدارك أخطاء النسخة الإسبانية، وذلك بفضل ملاحظات المترجمين وتوضيحاتهم ومقترحاتهم.
إننا نعتقد بكل صدق وتواضع، أن هذا الكتاب، ورغم نواقصه، يبقى ربما الأكثر اكتمالا مما كُتب إلى حدود اليوم حول عبد الكريم. فقد تم التطرق فيه بشكل موسع ومعمق للمجالات الثلاثة التي شملها نشاط الزعيم الريفي، ونقصد بها الريف وإسبانيا وفرنسا، دون أن نغفل الانعكاسات الدولية لحركة المقاومة الريفية، ومرحلة المنفى التي عانى منها عبد الكريم، أولا إلى جزيرة لارييونيون، ولاحقا في مصر، إلى أن وافته المنية في فبراير 1963. يتضمن الكتاب أيضا، عدة عناصر وجوانب جديدة لم يسبق التطرق إليها أبدا، وكان محتملا أن يصدر هذا المؤَلَّف في حجم أكبر يتجاوز الألف صفحة، لو تم استغلال كل الوثائق الموجودة في حوزتنا والتي استقيناها من الربائد الاسبانية والفرنسية والبريطانية. غير أننا اضطررنا في فترة محددة أن نقرر إنهاء هذا العمل لأننا نعتقد بأننا قد تطرقنا إلى أهم المحاور والنقط، وأفسحنا المجال لأبحاث جديدة نرجو أن يباشرها هذه المرة، باحثون مغاربة شباب، يسرنا أن نقدم لهم كل الدعم والمساعدة.
عندما يتوخى المرء تحقيق أعلى مستويات الإتقان، فإنه لا يشعر أبدا برضاه الكامل على العمل الذي أنجزه. حيث نواجه أنفسنا دائما بنفس الخطاب: «لقد كان باستطاعتنا انجاز عمل أفضل». لقد كُتب هذا المؤلَّف بناء على تعاطف واضح مع عبد الكريم والقضية الريفية. ومن هذا المنطلق يمكن أن يُعتبر غير محايد، بيد أنه معزز بالوثائق بشكل كبير، وخاضع للصرامة والدقة العلمية. تشوب الكتاب بالطبع بعض النواقص، وهو أمر لا مناص منه في أي عمل إنساني، لأن كل ما هو إنساني لن يبلغ أبدا درجة الكمال التام.
ماريا روسا ذي مادارياڭا
مدريد في 1 أيلول/سبتمبر 2012