هكذا تحدث الزعماء السياسيون الفرنسيون، ضدّ صعود اليمين المتطرف، كانوا صفا واحدا ضدّ الفاشية ومن أجل الوطن، حتى لا تفقد الأمة الفرنسية روحها التي تم إرساؤها ـ بتضحيات جسيمة ـ على قيم الحرية والمساواة والأخوة.
يحدث هذا في شمال المتوسط، ولا يعتبر التكتل ضدّ حزب سياسي غير ديمقراطي أمرا مضادا للديمقراطية، كما لا يعتبر حزب اليمين المتطرف حزبا ديمقراطيا فقط لأنه يقبل بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع وبالمشاركة في الانتخابات، بل ينظر الناس إلى الحزب من حيث مشروعه المجتمعي وخطابه وأهدافه، لأنها هي التي تحدّد إن كان فعلا حزبا ديمقراطيا أم لا. إذ يمكن لحزب ما أن يكتسح الانتخابات دون أن يعتبر حزبا ديمقراطيا كما هو الشأن بالنسبة للحزب النازي في ألمانيا أو الحزب الفاشي في إيطاليا في منتصف القرن العشرين، أو حزب أردوغان في تركيا حاليا.
في جنوب المتوسط وشرقه، تمثل الأحزاب الإسلامية اليمين المتطرف لمجتمعات شمال إفريقيا والشرق الأوسط، إنها تحمل نفس خصائصه العامة، وتسعى مثله تماما إلى استغلال صناديق الاقتراع لإدخال البلد في مسلسل العد العكسي التنازلي عن الديمقراطية، التي هي قبل كل شيء قيم الحرية والمساواة والعدل على أساس المواطنة الجامعة، كما يلتقي اليمين المتطرف الإسلامي واليمين المتطرف في أوروبا في كراهية الأجانب وكراهية الاختلاف والرغبة في التنميط، الأوائل على أساس عرقي والأواخر من منطلق عقدي ديني.
لكن خلافا لشمال المتوسط، لا نلمس تكتلا حزبيا مناهضا للفاشية الدينية في بلدنا المغرب، بل إننا يمكن أن نجد حزبا يساريا ناضل طوال تاريخه ضدّ "الرجعية" يسعى جاهدا لعرض خدماته على الحزب الإسلامي في الحكومة، وليس لهذا معنى آخر غير أن الديمقراطية في بلدنا في غاية الهشاشة، ما دامت لا تتوفر على التكتل الحزبي الذي باستطاعته حمايتها من الإيديولوجيات الهدامة.
طبعا في غياب التكتل الحزبي الشبيه بتكتل الأحزاب الفرنسية ضدّ حزب الجبهة الوطنية، اضطر النظام السياسي المغربي إلى استعمال آليات غير ديمقراطية ـ ولو كانت دستورية ـ لحماية الدولة من غلو الإسلاميين، وهو ما جعل هؤلاء يعتبرون أنفسهم في موقع الضحية، في الوقت الذي كانوا يسعون فيه إلى جعل الجميع ضحايا لهم.
يطرح علينا ما يجري سؤالا جوهريا: كيف يمكن توفير الآليات الديمقراطية الضرورية لحماية المكتسبات الديمقراطية ببلادنا من الإيديولوجيات الشمولية، والتي أصبحت مصدر تهديد لاستقرار بلدنا وتطوره ؟
يبدو أنه لا يوجد حلّ آخر غير تشكيل جبهة ديمقراطية متراصة، تستطيع بقواها الحية والفاعلة أن تعمل في الوقت المناسب على وقف أي زحف للتطرف أيا كان مذهبه وعقيدته. وسيكون على هذه الجبهة أن تمتد من النخب السياسية إلى المدنية، وأن تخترق مختلف فئات المجتمع، ويربط بينها خيط رفيع هو الدفاع عن القيم التي تسمح بالانتقال من الوضع الحالي إلى الترسيخ الديمقراطي المأمول.
لقد رأينا في مصر كيف خرجت الملايين إلى الشارع لتسقط حكم الإخوان، بعد أن تفطن الناس إلى مآربهم، كما رأينا كيف حدث نفس الشيء في تونس وأدى إلى إسقاط حكومة النهضة وتشكيل حكومة إنقاذ وطنية. لكن التجربتين معها لم تفضيا رغم ذلك إلى الترسيخ الديمقراطي المطلوب في البلدين معا، حيث عاد الجيش إلى الاستيلاء على الحكم في مصر، وعاد أعوان النظام السابق إلى كراسي الترأس والتدبير في تونس. وهو ليس بالحلّ الذي تبتغيه القوى الديمقراطية، لكنها على ما يبدو فضلت "ديمقراطية أخف الضررين" كما أسميناها، على حكم الإخوان الذي يقوم بتدمير بنيات الوعي الديمقراطي وقيمه في المجتمع، كما يقوم بتخريب المؤسسات الحديثة لتيسير استعادة الدولة الدينية، مما يؤدي رأسا إلى الزج بالبلد في أتون الحروب والفتن.
كل هذا يدل على مقدار الحاجة إلى التعاقد الاجتماعي الحاسم الذي يحمي الجميع من الجميع، كما يوفر الضمانات الضرورية لعدم العودة إلى الوراء، ويمكن من تشكيل التكتل الديمقراطي المطلوب لحماية مسلسل الانتقال نحو الديمقراطية، وتحصينه من الإيديولوجيات الهدامة.