الإهداء 1 : إلى كسرى ، مطماطة ، بني مطير ، القصيرن ، تكرونة
، حيث علّمت لغة الجبال والصخر والنقاء / الإنسان ....
تصدير 1 :
في محراب الاعتراف، وعلى سرير الانسياب، ولحظة الجلوس
على حافة الحبر أجدني طفلا تائها يعانق الخوف. أكدح على درب الخيال بالكلمة كدحا محموما،
لعلّني أرسم نصّا يدفع بي نحو الحقول والواحات . أتدثّر بحذري ، وضعف حيلتي ، ويزمّلني
السؤال والمجهول ، فأكتب سيرة شجني ، وعبرتي ، وفرحتي ، وأحبّر بكبير الحروف على جدار
الصمت ملحمة المحاولة ، وفي الفؤاد لوعة تكتب بصادق المشاعر المجبولة على الترحال في
صحراء الكلمات سيرة خيبة تعصف بسكينتي ، وتلقي بي في لجج الاضطراب ، فأقلّب سؤال الكتابة
كما تقلّب طفلة دميتها في ليل البحث عن ذاتها المتوغّلة في الضباب ، وأسأل ذاتي الحبريّة
المتورّمة أمام مرآة المداد عن قوافل الفجر ، عن الدروب الخضراء ، وأركب موج الكلمات
مرّات ومرّات ، وألقي بشباك رؤاي في عرض الرؤيا ، وأدندن بناي الرحيل أغنية الصباحات
المنشودة كامرأة فقدت طفلها ، وتنتظر تدفّقه من بين جنبيها ، وتسبقني عبرتي إلى خيمة
القرطاس ، وأفقد بوصلتي في الكلم الشاسع كلّما زارتني شهوة الرسم ، فأدفع بلبّي دفعا
جميلا متحسّسا طريقي إلى الشرفات ، وشرفات اللغات في عليّين لا يدركها قلمي النحيف
... لكنني سأكتب كي لا يموت الإنسان في ّ ... سأكتب لكي ينبت الصوت في حناجر الطيور ...
تصدير 2:
أسكب خيوط الفجر في كأس الحياة ... وأزرع في الرؤى
نخل جدي ....
اللوحة الأولى
خرج الصباح من عرينه ليغتسل في ماء النهر الممدّد
بين كثبان الحياة ، وكنت على ربوة الأسئلة تائه الخطوات أعدّ أشعّة الشمس الغائبة البعيدة
وأحصيها . دفعني شوقي بعصاه دفعا رقيقا نحو ساحات الفجر ، فاقتفيت آثار رغبته ، وكان
ثالثنا الحلم . سرنا والجبل نبحث عن ذاك الصبح الموعود . توقفنا عند عين عارية إلاّ
من غبارها لننهل من رضابها سرابا وحكمة ضائعة ، وإذ بصوت يطلّ علينا بشجنه الطروب اللعوب
من وراء قيظ الرحلة فجأة . تطلّعت نحو الصخرة العالية المطلّة على العين ، فإذا بها
أنثى صقيلة الوجه تقف كما اليقين في وجه الغياب ، رافلة في شهوتها تراقص ريح الوجود
، وترسم بعينين متنمّرتين على جبين الأفق علامات الفناء . جرفني نحوها سيل من الوله
الطفوليّ ، ضحكت ، وضحك شوقي من بعدي ، وانطلقت على جناح الروح والريح والريحان نحو
صوتها المتلبّس بفجر ينير لي طريق وجهي المفقود ، أو هكذا يبدو . سرت نحوها ، والجبال
بعراء أحلامها تبعث فيّ طقوس الخلاص. تقدمت نحو الصخور المتناثرة ، يصعد بي درب ، وينخفض
بي آخر ، ووجدتني أبحث في منعطفات الوجدان عن وجهي الذي ضيّعني وفقدته في مرايا الصخور
الصمّاء . وقفت على صفحة ماء بحيرة يتيمة في فؤادي المكلوم .لا وجه يفتح شرفاته لسؤالي
هذا الصباح ، ولا فجر يرفع رؤيتي في الخلاء بلا عمد . أنخت فكرتي على باب الهجير، وناديت
في الرحب ، فلا مجيب إلا صدى الريح يقهقه من أعلى الصخور، ويعبث بشعر الحورية في كلّ
اتجاه ، بحثت في رفوف ذاكرتي عن وجهي المنشود ودربي المفقود، ولكن الدرب التهمته ألسنة
الضياع ، والحورية في أعلى الصخر تقهقه ببرود قاتل . نزلت من على صهوة حيرتي ، وعقلت
سؤالي عند جبلها ، وسرت تحت ضوء القمرالجريح في مناكب أرض أجهل تفاصيلها وشعابها ،
دفعت بكلماتي نحوها ، والناي بيميني يكفكف ألحانه حياء ، ومدادي في جداول القلب يقلّب
الواقفة فوق قمّة الصخرة في صلف ..
الدرب إليها ضبابيّ الملامح ، ومزدحم ببحيرات غطّتها
جماجم الأوّلين وقليل من الآخرين ، والقمر الثخين في علييّن ينام بين أحضان الصباح
. تقدمت نحوها بخطوات ملتهبة ، فوقف دوني الليل على شاطئ شفتيها، وعقر آخر نقطة ضوء
تلوح كنافذة نحيلة من وراء الغيوم . وقفت بملامح باهتة بين يدي همس الجبل، ألقيت بشوقي
بين أحضان السفح، وبينما أنا على الحالة تلك إذ بالحورية تطلق في أرض السكون ضحكة غجرية
التدفّق، وثمار صدرها تتدلّى كعناقيد شهوة خرافية من أغصان فستانها. اتخذت لنفسي مكانا
قصيّا أتابع حركتها على الصخر من وراء بلّور الروح المتعبة. والرذاذ يدندن على أغصان
الفراغ موسيقى حزينة ، وينقر من حين إلى آخر وجه الجبل ، وبينما أنا أتابع اضطرابها
من وراء الضباب ، كان في السماء ضوء خافت يبثّ فيّ طقوس الرحلة ، وموسيقى هادئة منحدرة
من مرتفعات الجمال تدفعني نحوها . أشعلت لفافتي ، انطلق الدخان من بين أصابعي كراقصة
بالي تقتفي آثار الضوء ، شدّتني إليها الرقصة والموسيقى المتلبّسة بفستان شفيف من الهمس
ونسيت الحورية والجبل وسرت وراء الراقصة المنبعثة من سيجارتي ، بعث المشهد في نفسي
شهوة اللّقاء ، وسرعان ما عاودني الحنين إلى الصخرة وصقيلة المفاتن ، وقفت تحت قدميّ
الصخرة ، ومطيّتي شوقي المتدفّق نحوها . طرقت بلطف المتيّم باب حلمها ، فجاءني صوت
رقراق من وراء حجاب ، أسرجت ابتسامتي ، ورتّبت تفاصيل لساني ، وامتدّت يميني نحوها
بباقة من طيب الكلم . لبست وجهها القمريّ ، واكتفت بابتسامة، وتاهت في الغياب . ترنّحت
حروفي في زحمة الأشواق ، ونفخت فيّ الصخرة من روحها على عتبات الحلم بذور حياة بعد
موت ، دفعت مطيتي في وعر الدروب نحو قمّة الصخرة لعلّني أدركها في منعطف من منعطفات
الفؤاد ، سخرت الحجارة من خطاي ، وضحكت بحيرات الجماجم المتناثرة هنا وهناك ، أطلقت
العنان لرجليّ ، فدحرجني تعبي نحو سحيق العودة ، وشددت الرحال مرة أخرى إلى مرتفعات
الروح . تعثّرت مطيّتي والأمنيات ، بعثت بعينين حذرتين لأتهجّى في ليل الطرق صحف الفجر
ووجهها . ركبت خوفي وذعري وأملي ومحنتي ، وصعّدت نحو مقصدي ، أمدّ يميني من حين إلى
آخر لأضمّد عرقي ، ونحيب الريح على باب الصخرة يداعب سخرية الحورية من أعلى المكان
. استرقت السمع ، وصهيل الليل يملأ القلب ذعرا ، وخرير الرؤى المنهكة يصمّ آذان الجبال
الراكدة في الفؤاد ، ركبت الحذر، وأطلقت العنان لبصري من وراء ستائر الخوف ، إنها هناك
عند باب الغار تلملم جثث أحلامها ، ووقع أقدامها على أديم عبرتي يحثّني . بعثت الجبال
بعراء أحلامها في النفس طقوس الفناء . تقدمت نحو الصخور المتناثرة، ووجدتني أبحث في
منعطفات الغنج عن وجهي الذي ضيّعني وفقدته. وقفت على صفحة الماء في الطريق إليها ،
، بحثت في رفوف ذاكرتي عنّي ، وقفت مستقيم الرؤى لعلّني أدرك أنّني في حضرة الصباح
، التحفت الرهبة ، والصخرة في خشوع الأفق متسمّرة ، لا تريم ، ولمّا بلغت مجلسها استقبلتني
استقبال العشّاق
***
اللوحة الثانية :
فوق الصخرة على حافة الغد جلسنا، والسؤال ثالثنا،
والكلام قارب في عرض الدهشة يتابع بصمت أهازيج النجوى. لملمنا الصباح وبعض كلمات وحفنة
من الرؤى ، سرّحنا قوافلنا في الأنين الفسيح بحثا عن صوتنا لعلّنا ندركه بين أشجار
الهمس ، أو في الكهوف الجالسة القرفصاء على باب الحلم، كان نسيم الصباح يداعب خصلات
الأفق الورديّ ، وكنّا على الصخرة طفلين نلاحق بعين حالمة خيوط الشمس . عانقت حروفي
المنتشرة في حقول المعنى ، وتوقّفت عند كثبان الماء الغائب , فخرجت عليّ الرؤى من خدر
العشق بعودها الصقيل . ومن وراء كثبان الذاكرة كنت مع حوريتي نتابع عصفورا تحت خيوط
المطر ، يسير في الطريق بلا أجنحة يتهجّى بياض الصباح، يحبّر بخطاه سيرة التيه ، وينقر
من حين إلى حين حبّات حلم مبلّل ، والأرض من تحتنا تهدهد جثث الأطفال المبثوثة على
صدر المدائن ، وامرأة تبحث في صحف الدّمار عن رضيعها ، والعصفور على ضفّة السكون يكفكف
دمعته تارة ، ويستأنف سيره نحو البرك أطوارا ، والريح السموم شرقية الهوى تعانق وحدتنا
، وفي ساحات الأنين تطاولت أصنام كما الأنعام حولنا تلبس عمائم قاحلة ، تدير كؤوس المطر
على ولدان من طين الهباء ، والعصفور تحت ظلّ دمعته يتابع خطوات الليل على أنغام تكسّر
عبراتي على الصخرة . تدفّقت ذكرياتي من شاهق الشجن ، والوجود بسمائه الكئيبة من فوق
رؤوسنا يعزف لحنا حزينا يرسل من حين إلى آخر بحمامات فوق سفننا . أينعت أناملي داخل
سجيتي ورسمت بآهات العصفور في خيالي امرأة خرافيّة الرقصات ، فتوجهت نحو الجالسة بجانبي
على الصخرة قائلا : " هكذا تغتالنا أمانينا ... تلقي بنا دمعة على قارعة الحريق
... ننهض من مرقدنا ... من زمن السكون ... نحلّق من جديد ... فتلاحقنا أوهامنا كريح
عاتية ... وتعبث بنا وبرؤانا مخالب الغياب ... فتذرف مراكبنا الوقت ...ونصعّد رغم المحن
في جبال الشجن لعلّنا ندرك ذات فجر فجرا وليدا ، أو عصفورا يغنّي لجناحين منطلقين "
تطلّعت نحو وجهها ، وصوتي المجروح يدفع بقطيع من
السحب نحو أرض كلماتها دفعا جميلا ، وبيميني وجهي القديم أوقّع به في محراب الوجوم
، وينساب همّي من أعلى قولي فيدكّ تدفٌّقه اطمئنان حوريتي المنطلقة في أرض أضغاث أحلامها.
ركبننا فلك الحلم لنسافر بعيدا في الأمنيات ، انخفض بنا موج ، وارتفع بنا آخر ، ونحن
في عرض السؤال نوهم النفس بالمرافئ ، وأطلقنا أنامل العصفور في تفاصيل الصباحات ترسم
على صفحة الوجود لوحتها بألوان زاهية ، ولكن لذئاب المدائن المسبيّة أحكامها في تصريف
نهر الدمّ في عرض اللوحة ، ولمّا أدركنا عويل التيامي والثكالى طويت عصفوري وصباحاتي
الشاحبة ورفيقتي ، ومضيت نحو كهوف أشجاني المقيمة بين جنبيّ...
اللوحة الثالثة :
انحدرنا من الجبل ، يدحرجها أملها ، ويدفعني نحو
الهاوية فضولي ، كانت تجري كما الريح ، ومن ورائها قهقهاتها تذكي فيّ نار السؤال ،
وفجأة توقّفت عند جبّانة تخيّرت لها من الأماكن سفح الجبل ، طافت بصمتها بين القبور
، تصفّحت الوجوه وكأنّها تبحث عن شيء مّا ، أو عن اسم بعينه ، وأنا التّائه في ساحاتها
أراقبها ، أتهجّى ملامح مشيتها المتقلّبة ، ناديتها فلم تجبني ، لذت بصمتي ، وسرّحت
في الوجود اضطرابي . تسمٍّرت في مكانها تتصفّح القبور بعينين نهمتين ، كانت بين الموتى
غريقا تنهش وجهه الأمواج الهادرة على حافة سكرات الموت ، أطلقت من بين شعاب ذهولها
صيحتها الخرساء، تردّد صداها بين الجبال ،وأتت على حقول سكينتي . حلّق غراب في السماء
، لذت بربوة لأسترجع بعض أمن بعد خوف . خلعت ملابسها عند باب قبر عثرت عليه في طريق
بحثها المحموم ، وأطلقت العنان لحنجرتها ترتّل نحيبا مفزعا ترتيلا ، والصخر من حولها
مضطرب الملامح ، والأرض من تحتها فتاة على فراش اللذّة ، نفشت شعرها ، واستقبلت بيديها
أبواب السّماء ، حلّ ببدنها شيطان الرّقص ، تدفّق من بين شفتيها عويل بعث في كامل أقطار
جسمي مشاعر متوحّشة شتّى ، حدّثت نفسي في نفسي بالفرار من هول ما رأيت : قبور ... شياطين
... رقص مجنون ... صياح شوكي... عواء صخور ... نحيب رياح ، لكن الخوف شدّني لذعري
. تقيّأت الجبّانة سكّانها ، وانتشرت الجماجم والعظام في الرّحب ، تحلّق حولها الموتى
، وراحوا جميعا يراقصون العويل حولها ، ارتفع نشيج الأرض تحت أقدامهم ، وامتدّت ألسنة
الغبار تخدش وجه الفجر، انتشر الرقص في كلّ إتجاه كما الأفعى يلتهم كل ما يعترض طريقه
، تسلّق ضجيجهم أعمدة السّماء ، وغطّى بجناحيه أديم الأرض ، تململت وراء الرّبوة تعبا
، ولم تتعب الراقصة ومريدوها ، فجأة هدأ الرقص ، وخفت صوت الضجيج ، ونضب الصياح ، هدأ
صوت الغبار ، وقفت الراقصة في التيه كريشة في المدى ، أو كطين تحت شمس الظنون ، مبلّل
وجهها بحلم أسود الخطوات ، تطلّعت نحو القبور ، ومريدوها من ورائها يفتّشون بعيون فارغة
، لا شيء في القبورغير الفراغ يعبث بذرّات الأجداث ، أعادت البحث في الحفر كرّة أخرى
حفرة حفرة ، فرسم وجهها اليباب على صفحة الهباء ، أنكرها وجهها وأنكرته ، كتبت بدمعة
الخسران على جدار روحها سيرة الغياب ، والمريدون من حولها حمامة مجروحة الأوتاد ، لا
شمس تكفكف خوفهم هذا الصباح الرماديّ ، ولا شمس تنتصر لضجيج رقصهم المسفوك ، أشبعث
الحورية القبور ركلا وشتما ولطما . تركتهم وغادرت المكان ، وأنا أتتبّعها بحذر من وراء
الربوة . انتشرت سحب الموت ، ودقّ قحط الرؤى في الأحلام أوتاده ، غادر الغبار عشّه،
وطار، وحلّ غراب المعنى ، وتبرّجت أطلال الفجيعة ، غيّبت مسالك التيه القوافل المحمّلة
بدنان الفجر في أوهامي ، وتدثّر الصخر بليل الغزاة ، زهرة بريّة فقدت طريقها إلى النهار
، عقر الموتى ضجيجهم ، وخلعت النجوم فساتينها ، ونزلت إلى برك الدمّ المكلوم لتتطهّر
من أدران الضوء . وقفت على ضفّة الحيرة القاتلة ، وصفّفت أفكاري المبعثرة على عجل ،
خلعت نعلي بباب السؤال ومن ورائي يحثّ فضولي تفّاح المعنى ، فارتفع صمتي في قيعان العيّ
، وارتدّ الصدى شوكا ، وأينع الخذلان في دربي ، وغادرت الحورية الجبانة على صوت من
وراء العزيمة يغنّي
:
تسأل عنك الدروب
تبكيك النوافذ كل صباح
والشرفات في المنحدرات شيّعت أشعتها
لبست الليل
فقدت الشمس لذّة السير في مداراتها نحو واحات البحر
قمر ضيّع بوصلة اللغات وتاه كطين الحكاية بين يدي
خزاف
ونامت ذكراك على عتبات الموتى تهدهد وطنا طريح الذئاب
وترسم يد مرتعشة طريق عودتك من وراء الخراب
وخرائطنا وجه فاتنة ينهشه الضباب
والمرايا بوح بين الشعاب
وسيرتك لحن متدفق من ناي مكلوم
فمتى يشرق وجهك؟؟؟
وتعود البسمة للخرفان المسرّحة في صحفنا
اللوحة الرابعة :
الزمن فجر كاذب...
لا نوارس تحلّق في سماء القصيدة هذا الصباح ...
كل النوافذ والشرفات غادرت مواقعها ...
الضوء مسفوك الأمنيات على الصخر ...
الشاطئ مقفر...
تحاول السّماء تمزيق فستانها الأسود...
الرمال تغطّ على باب البحر في صمت كما النحيب...
نهضت الحورية من غفوتها ، جرّت وراءها بعض بأس ،
غادرت الجبّانة ، وتوجّهت متثاقلة نحو شاطئ البحر مطرقة كمن يدفع به أمل جريح نحو المرافئ
. بوصلتها التيه ، ودربها أفق شوكيّ الضباب .
زورق يتيم متآكل خشبه جالس في وحدته يحادث الموج
ويحادثه ، ومن حين إلى حين يلثم الماء وجنتيه المتورّمتين . وقفت بين يدي الأفق مرتّلة
بأعلى صمتها آيات السقوط ، ورسمت بعبراتها على جبين البحر شمسا نحيلة وعصفورا.
صفّفت أحلامها المبعثرة بعناية أنثى متبرّجة ، وتعطّرت
بأريج اللغات ، خلعت نعليها بباب السؤال ، ومن ورائها يحثّ النسيم تفّاح المعنى في
قوافلها ، أخذتها سنة قدسيّة الهوى ، فبعثت بصيحة في الرّحب رسولا . ارتفع صمتها في
قيعان العيّ ، وارتدّ الصدى شوكا.
خرج الموتى من كثبان الحروف ، ونسلت من بين شقوق
الرؤيا الجماجم تسعى ، جاءتها من كلّ فجّ عميق صفّا صفّا . امتدّت في الأفق ابتسامة
رضيع متيّم بالزوارق تراقب الجمع المبثوث على رمل الشاطئ ، خرج عصفور من بين أصابع
الأحلام المحمومة وحلّق في الفضاء . تقدّمت نحو الزورق ومن بعدها مريدوها الموتى ،
أضرمت نار الغناء والرقص حولهم ، وكنت أنا المتيّم باقتفاء آثارها مبعثر الأفكار ،
لذت بهضبة من الرّمل المتيبّس لأتتبّع المشهد ، دون أن يتفطّن لوجودي أحد ، فالجميع
سابح في ملكوت الغناء المجنون حول الزورق الغارق في حيائه ، والمنشد من عمق الحلقة
يغنّي بصوته الشفيف
:
أقتلوني يا ثِقاتي
إنّ في قتلي حياتي
أنا عندي مَحْوُ ذاتي
من أجلّ المكرماتِ
سَئمتْ روحي حياتي
في الرسوم البالياتِ
فاقتلوني و احرقوني
بعظامي الفانياتِ
ثَم مرّوا برفاتي
في القبور الدارساتِ
تجدوا سرّ حبيبي
في طوايا الباقياتِ (*)
استأسد المنشد في إنشاده ، واغرورقت العيون بالدمع
والأمنيات ، واشتعلت السوق رقصا ، والرؤوس كأمواج البحر في ليل مطيرتحاول تسلّق ألسنة
الأصوات المتطاولة في البنيان . كانت الجماجم حول الحورية والمنشد كما الدوائر المتناسلة
على وجه الماء الراكد بعدما أيقظت سباته حصى البحث ، أو كما الجداول تطعم النهر ، والنهر
في مجراه يتثنّى كأفعى تبحث عن فريستها ، يسبقها سؤالها إلى المكان . والزورق تحت أقدامهم
وبينهم وقد أنذر للكلام صوما ، يراقب بعينين باردتين نارالصخب من حوله مثله كمثل عقلي
المسجور الجالس على شوك حيرته مذ عانقت عيناي الحورية في قمّة الصخرة .
فجأة هدأت الحركة ، وسكتت الحناجر ، وطلّقت الضوضاء
المقدّسة مباهج الغياب . انسحب الموتى كيومهم المنصرم يجرّون وراءهم حطب الهزيمة ،
وفتحت القبور أفواها شرهة ، واحتضنت سكّانها ونامت . لملمت الحورية جراحها ، وجلست
على هضبة توتّرها تراقب جفاف المكان بعدما غادره الصّخب ، وقد لفّها القلق ، وجالستها
الحيرة . كفكفت ضعفها ، وراحت تبحث بين منعطفات الوجود عن حلمها . أطلقت العنان ليديها
وعينيها وعقيرتها كمن نهض لتوّه من غفوته . فتّشت في أركان البحر ركنا ركنا ، وقّلبت
الفضاء قرب المركب باحثة عن غنيمتها ، سألت الأفق ، وكذا الرّمل وزبد البحر ، سألت
دمعتها ، لا جواب يطفئ لهيب البحث ، فتّشت بين الصخور ، بين ثنايا الموج الهادر ، في
شعاب الملح ، في حمرة الأفق المتثائب ، في رحم الوجود . توقّفت على حافة الشاطئ تستردّ
أنفاسها ، ثم امتدّت يدها نحو وجهها تمزّقه ، ألقت بأشلائه على صفحة الماء ، لبست وجها
آخر ، امتطت صوتا جديدا ، صاحت في الرحب مرّة أخرى ، لكن دون جدوى ، فكلّ وجه ترتديه
عقيم وقد بلغ من الإعياء عتيّا ، هكذا استغرقت حركة تمزيق وجه وارتداء آخر زمنا غير
قصير ، وأنا وراء هضبة الرمل أتتبّعها بذهول ، أحاول فكّ الأحجيات التي بعثت في مشاعري
الراكدة هول الضباب المحيط بسماء ملبّدة .
***
*حياة في الموت /الحسين بن منصور الحلاج
اللوحة الخامسة :
خفت صوت العربدة والشمس في كبد القصيدة ، نهضت الأرض
متثاقلة تلملم جماجمها وترتق قبورها ، نفضت الحورية غبار سكرتها ، وعادت الحبّانة الى
ما كانت عليه ، تمدّدت وراء الربوة، ووجّهت وجهي شطرها ، كانت جالسة القرفصاء تبكي
سعيها ، تقدّمت نحوها ، حدجتني بنظرة منكسرة ، ورسمت على ثغرها ابتسامة جرداء قائلة
: هذا الخلاء هباء ، وهذه الصخور في ساحات الزور شهداء ، وهذه الجبّانة منذورة للغياب
، وأنا كما أنا على الطريق أفتّش في أركان الكون عنّي لعلّني أظفر بي نخلة ، أو ماء
، أو نارا تخرج من بطون القبور ، سأسعى حتّى أبعث فيهم العصفور قولا سويّا .
طوّقت بذراعيّ أحلامها ، ولثمت على خجلي أمنياتها
، فتفتّحت بين يدي كزهرة الصباح ، حملتها على مغادرة المكان ، وسرنا والصخر ننشد أرضا
غير الأرض ، ومكانا غير المكان .. لا ليل فيه ، سرنا مطرقين والجبال من شرفة الزيف
تحرسنا ، وتبارك رحيلنا ، والقبور من وراء ستائر الموت تحثّنا في خلاء النجوى بصوتها
المسفوك ، مشينا زمنا لم نقدّره ، حتى نال منّا الإعياء ، وعندى مجرى دمعة توقفنا وحططنا
الرحال ، جلسنا على حافة اليتم والسماء من فوقنا في طريقها إلى مساحات السواد نركت
رفيثتي لصمتها ورحت أبحث عن حطب يذهب وحشتنا ، سرت والفراغ ، أخبط في أرض التوتّر خبط
عشواء بحثا عن حطب يذهب وحشتنا في هذا الخلاء الممتدّ ، وبينما أنا كذلك إذ بواحة جرداء
نخلها متلبّس بأجداثه تطلّ برأسها ، تقدّمت نحوها لعلّني أظفر بمأربي ، ولكن شيئا من
الأنين المكبوت المنبعث من وراء الصخور يشدّني إلى دهشتي ومكاني . شهيق متوحّش صداه
يتردّد بين يدي الليل المحيط بالمكان وبي . وقفت فيأرض مرتفعة تطلّ على منبع الصوت
، لا بوصلة لي في زحمة الهواجس إلاّ ظنوني . صوت أنثوي مبحوح تداعب نسماته جفاف المكان
الموغل في سكونه المخيف ، استنفرت حواسّي جميعها وبعثت بأذنيّ هدهدا يتبيّن الأمر
. أغصان الصوت ممتدّة كالنسيم في الفضاء ، وعنكبوت فضولي نسج حول صدى الصوت أساطير
قديمة ، انحدرت مخيّلتي نحو قيعان اللذّة ، صوت أنثى يترنّح في الرّحب كما الثعبان
وقد تعتعته المتعة ، فوجدتني في مكاني كسكارى الفجر أراوح مكاني بين الخوف والرجاء
، تطلّعت من وراء الكثبان بحذر. هيكلان عظميّان متعانقان تحت شجرة البوح تحرسهما شمعة
كسيحة الضوء تنبعث منها رائحة الموت القديم ، يتهامسان ، يداعبان ضحكة متغنّجة ، حديثهما
كدبيب النمل ، أو قاب قوسين أو أدنى من النجوى كلامهما ، وعظامهما في زورق المضاجعة
كأمواج البحر في يوم مطير ، شدّني تمايل الجمجمتين تحت ضوء الشمعة الجريح ، يراقصان
موسيقى الفناء ، ويعزفان لحن عشق سرمديّ على حافة متعة مهرّبة . بقيت على لوح الرحلة
زمنا لم أقدّره أتابع رقصة العظام النخرة تحت جدار التقيّة ، ومن حين إلى آخر يبعث
فيّ هديل التأوّه أسباب الحياة ....
تملّكني شيء من الفضول الزئبقيّ ، فتمسّكت بقارب
شجاعتي ضعيف الحيلة لأتابع بقيةّ مراسم الفرح في محراب الموتى الأحياء . نسيت صاحبتي
المنذورة للوحدة والانتظار هناك وراء ظهري في ساحة الهزيمة ، تلك الجالسة منتظرة حطبي
وناري في عراء الأمنيات ترسم بريشة يتيمة في خيالها المحموم عصفورها المنتظر .
بقيت أتابع المشهد وكأنّ الجمر تحتي وفجأة تنحّى
الهيكل العظمي الراكب متعبا وألقى بعظامه قرب الهيكل المركوب يسترجع أنفاسه ، وحملتني
مخيّلتي في غفلة منّي إلى أرض أجهل شعابها ومفاصلها وأهلها :
وقف الفجر على حافة الحلم مؤذّنا في الناس ، وفتح
بصوته الزلال باب الصهيل على ساحات الرحيل نحو واحات من بياض ، ونسلت القوافل من بين
اصابع المداد محمّلة بصباحات مكلومة وأفئدة مشتعلة شوقا للمرافئ القابعة في الأرحام .
تدافع الناس نحو فلك الحياة ، وألسنتهم ترمّم بالذكر
في بساتين النجوى طيورا ونخيلا وماء ، وعلى جبين الافق البعيد ترفرف الزغاريد ، وضجيج
الأطفال من حول صبايا الرحيل يدندن على أوتار السير موسيقى التحليق في غفلة من خرير
الشجون ، وصوت المؤذّن من حين إلى آخر يدفع بلوح الهجرات دفعا جميلا ، اطلّت شمس ذاك
الصباح من وراء ستائر الضباب الشوكيّ تراقب أعراس الموجّهين وجوههم نحو الأرض المنذورة
للولادة ، هكذا حدّثتهم صحف الأوّلين ، ووعدهم كهّان المعابد ، هكذا حدّثهم العصفور
التائه في الامنيات