مسجدٌ يحبُ الإنسان
عن المسجد الإنساني
"لن تستطيعي إلا أن تفعلي ما تفعله النباتات
خلال العاصفة: تحني رأسك إلى أن تنتهي العاصفة"!
كانت تحكي لي عن الهجوم الكهنوتي الشرس الذي تعرضت
له هي ومركزها عام 1999 بسبب مؤتمر بحثي أكاديمي عُقد في صنعاء، واعتبر البعض ما قيل
فيه من آراءٍ بحثية "كفرا".
وكان عليها أن تحني رأسها خلال العاصفة، كي لا تجرفها
معها.
تذكرت عبارتها هذه الأيام.
وأنا أتابع ردود الفعل على المسجد الإنساني المختلط
وصلاة الجمعة التي أقمناها في 16 يونيو في برلين.
مسجد له إسم: مسجد إبن رشد ـ جوته.
مؤسسته هي المحامية والناشطة النسوية الألمانية
من أصل تركي سيران أطش. إمرأة رائدة. تعرضت مرة لمحاولة قتل بسبب دفاعها عن امرأة معنفة.
أطش رائدة نسائية، وتبحث عن روحانيتها في مسجد يحترم
إنسانيتها، ولذا أسست المسجد في برلين. هي إمامة هذا المسجد.
ودوري كان في إمامة أول صلاة مختلطة فيه، إمامة
مشتركة مع الدكتور عبدالحكيم الغوري. كي تعكس رسالة المساواة التي نريد أن نبعثها.
والعاصفة كانت متوقعة. لكنها كانت شديدة الضراوة.
شتائم، تهديدات بالقتل، وإصرار البعض على ضرورة
تطبيق الحد علي وعلى من أسس المسجد.
وكنت أقرأ.
أقرأ شتائماً، يندى لها الجبين، ويخجل أن يرددها
الإنسان.
وتهديدات، تبدو لي غاضبة أكثر، حائرة تبحث عن مخرجٍ
لغضبها.
ثم وقفت عند نقطة تطبيق الحد، وسألت نفسي
"اي حد؟"
ولم أعلق.
من يسألني من الصحافيين أرد عليه.
ثم أصمت.
أتركهم/ن يشتمن/ون، يهددن/ون، ويطالبون بالقتل.
هذه ايضاً ستمر؟ أسأل نفسي.
الأزهر كما هو متوقع خرج علينا بفتوى، لا للمسجد
الليبرالي.
وديانات التركية اعتبرت أن المسجد مؤامرة خطط لها
منافس أردوغان غولان.
وكلٌ على هواه.
وكلٌ وخطابه. متخشب، غاضب، كاره، مُسيس، وُيصر على
نظرية المؤامرة.
ونحن نتابع ونَنظر.
هجمة شرسة تعكس إدراكاً أن فكرة المسجد الشامل المختلط
موجودة لتبقى.
لن تغيب.
هي فكرة بغض النظر عن شخوص من يدافعون عنها.
يمكن قتل الشخوص، لكن الفكرة ستبقى.
قائمة وستبقى، وفي الواقع تكبر مع الوقت. مساجدها
تنتشر في بلدان أوروبية، في الولايات المتحدة وكندا، وايضاً في بعض الدول الإسلامية.
وأبنتي تسأل.
"ما الذي فعلتموه تحديداً في المسجد؟"
سألتني وهي تسمع عن الضجة.
قلت لها: "صلينا. رجل وامرأة قادا صلاة مشتركة
مختلطة معاً".
وجدتها تنظر لي منتظرة:" ثم؟"
رددت عليها: "هذا ما فعلناه".
وجاء استغرابها طبيعيا. لأن الإختلاط هنا جزء من
حياتنا، وفي بيوت الرحمن بتنوعها. لاترى فيه ما يرعب ويخيف.
لكنه يخيفنا نحن لأن مغازيه أبعد من مجرد اختلاط.
ماذا تقول لنا فكرة المسجد الإنساني المختلط؟
تقول لنا هو مسجد يحترم الإنسان كما هو، رجلا، امرأة،
بغض النظر عن انتماءاته/ها المذهبية، ع، عن عقيدته/ها، فكره/ا، أو ميوله/ها الجنسية.
الرحمن يحُب خلقه، والمسجد يجَب أن يعكس هذا الحب.
وحبذا لو عكس القانون المجتمعي هذا الحب بمساواةٍ
غير مشروطة.
ماذا تقول لنا فكرة المسجد الإنساني المختلط؟
تقول لنا إن المسجد يعكس لنا واقعاً مجتمعياً.
المسجد الذي لانرى فيه امرأة يعكس واقعاً مجتمعياً
أبوياً يتحكم فيه الرجال.
والمرأة التي تطالب بوجودها في المسجد، تطالب بتغيير
هذا الواقع المجتمعي وطَبيعته الذكورية، لا أكثر ولا أقل.
أين تصلي المرأة، كيف ومتى، يعكس موقعها في مجتمعها.
يُطلب منها أن تصلي بعيداً في غرف منعزلة عن الرجال،
أن تغطي شعرها وهي تصلي (حتى وهي تصلي وحدها أمام الرحمن)، وأن تكف عن الصلاة وهي حائض.
كل هذه قيود فرضت عليها بسبب نوعها. لأنها أنثى.
هذه القيود تعكس رؤية مجتمعية لا زالت تعتقد أن
المرأة ليست كيانا كاملا، ليست إنساناً كاملا راشداً بالغاً مستقلا كالرجل. وهي بالتأكيد
لاتقف مع الرجل متساويان أمام الرحمن.
والأهم لاحق لها في الإمامة الدينية، وتلقائيا يتبع
ذلك عدم حقها في القيادة السياسية.
تصوروا يوماً تصبح فيه إمرأة رئيسة لدولة عربية؟
تضحكون؟
تضَحكن؟ حتى أنتن؟
هذا اليوم سيأتي.
مسألة وقت فقط.
أما الضحك فهو نابع من قناعة راسخة أن المرأة تظل
بالنسبة لنا بضاعة متعة. ناقصة عقل ودين.
فكرة المسجد الإنساني لاتقبل بهذه الرؤية.
تفهم أن التغيير صعب. وأن ردود الفعل الغاضبة متوقعة.
وهي تحترمها في الواقع، لأنها تعبر عن خوف من التغيير.
رغم ذلك تصر على أن التغيير ممكن.
تقول لنا ببساطة، المرأة هي إنسان، راشد، كامل،
لا نقص في عقلها ولا دِينها، وهي تقف أمام الرحمن مع الرجل متساويان، في المسجد، في
المجتمع وأمام القانون.
أين المشكلة إذن؟