المؤمنُ الحقيقيُّ بالله، هو المنشغلُ بتوثيق علاقته
بالله، البارُّ بخلق الله ومخلوقاته. المؤمنُ الحقيقيُّ بالله يتعبَّدُ، ويساعدُ الناسَ
على التعبّد، وإن اختلفتْ طرائقُ التعبّد. لماذا؟
لأنه من الوعي والثقافة بأن يدرك
أمرين. الأول: أن الأصلَ الثابت هو: "الصِّلة" بالله، و"التواصُل"
مع الله. وهذا هو الجذرُ اللغوي لكلمة "صلاة". والثاني: أن الهدفَ دائمًا
هو "الوصول" إلى الله. واللهُ واحدٌ أحدٌ، لا إله إلا هو ربُّ الكون المترامي.
لهذا، فإن شِطرًا من إيمان المؤمن، أن ييسِّرَ تواصُلَ المؤمن الآخر مع الله.
اليومَ سأحكي لكم عن نموذج لأحد أولئك المؤمنين؛
الذين أحبوا اللهَ فأحبوا خلقَ الله. أحد أولئك الذين آمنوا بالله فساعدوا إيمانَ غيرهم
على التحقق، ولو عبر دربٍ آخر. لأن دروب الوصول إلى الله والصلاة له والإيمان به، لا
نهاية لها.
في صباح كلِّ يوم جمعة منذ أعوام كثيرة، يفتحُ الكاهنُ
الإيطاليُّ "ألدو دانيللي" أبوابَ الكنيسة التي يرعاها بإحدى مدن شمال إيطاليا
على مصاريعها. يفتحها لماذا أيام الجمعة، ومن أجل مَن؟ يفتحها من أجل المُصلّين المسلمين،
الإيطاليين منهم والعرب والآسيويين وغيرهم، حتى يؤدّوا صلاة الجمعة في باحة كنيسته
الواسعة. لماذا؟ لأنه لا مسجدَ قريبًا موجودٌ بالمنطقة. ولكيلا يشقَّ على عباد الله
بالسفر مسافات طويلة كل أسبوع ليقيموا مناسكَ عبادتهم، خصَّص الكاهنُ النبيلُ جزءًا
واسعًا من صحن كنيسته "سانتا ماريّا أسونتا"، بضاحية "باديرو دي بونزانو"
بمدينة "تريفيزو"، ليغدو هذا الجزء المُقتطَع من الكنيسة، مسجدًا يعمُرُه
أكثرُ من ثلاثمائة مسلم من مختلف الجنسيات. وحين سُئل عن هذا تكلم عن رغبته في التيسير
على خلق الله وتكريس قيم التقاء الثقافات والأديان، وتعزيز سبل اندماج الجالية المسلمة
المقيمة في تلك البلدة، مع أشقائهم المسيحيين.
خبرٌ مثل هذا يُخجلني، بقدر ما يُبهجني ويعطيني
الأملَ في غدٍ أجملَ للعالم. أما الخجل فيُدثّرني حينما أقارنُ بين رُقّي سلوك كهذا،
وبين سلوك إرهابي يُفجّر كنيسة أو يغدر حافلة تقلّ مسيحيين في طريقهم للتعبّد في أحد
الأديرة، وكذلك حين يضطر عقلي، لا إراديًّا، إلى مقارنة سماحة ذلك الكاهن مع تشنّجات
وعصبيات عقائديه، من بعض المصريين لا تدلُّ إلا على خواء أصحابها، وفقر إيمانهم بالله.
لكن مصرَ الجميلةَ، التي لن تغدو وهابيةً أبدًا
بإذن الله، لا تعدمُ أن تنجبَ عقولاً وقلوبًا رفيعة مثل ذلك الكاهن الإيطالي الطيب.
النموذج المصري هو القمص "سيداروس أخنوخ"، المولود عام 1890، في قرية البياضية
ملوى بمحافظة المنيا. ضرب هذا الأبُ الطيّب مثالا رفيعًا للإيمان الرفيع والتحضر النبيل.
كان طوال شهر رمضان، من كلّ عام، يقرعُ جرسَ الكنيسة في قريته، تمامًا في موعد الإفطار،
مع آذان المغرب، حتى يُنبّه المسلمين الصائمين لموعد إفطارهم. وقتذاك لم تكن هناك وسائلُ
تواصل؛ لا ميديا إخبارية مثل الراديو أو التليفزيون، ولا الكهرباء قد دخلت تلك القرية
لتشغّل مكبرات الصوت في المساجد. ويُحكى أن حفيده، لما كان بالمدرسة الابتدائية، سأله
أحد المعلّمين عن عدد الطوائف المسيحية فى البياضية؛ فأجاب الطفلُ ببراءة: بروتستانت–
كاثوليك– مسلمين– أرثوذوكس! علامَ تدلُّ إجابةُ ذلك الطفل؟ تدلُّ على أن منزل جده الكاهن،
كان يرحب باستضافة المسلمين مع المسيحيين دون تمييز، حتى اختلط على عقل الصغير أن المسلمين
والمسيحيين أبناء عقيدة واحدة، وإن اختلفت الطوائف. مصرُ ثريّة بأبنائها المستنيرين،
رغم الظلام الضارب في أنحائها الآن. يتأكدُ ذلك أيضًا حينما نتذكّر أن شيخ الأزهر العظيم
الراحل: الدكتور محمد سيد طنطاوى رحمه الله رحمة واسعة، أجازَ للمسلم التبرّع من ماله
الخاص من أجل بناء كنيسة ليتعبد فيها أشقاؤنا المسيحيون. قائلا إن الكنيسةَ دارٌ للعبادة
لها قداستها واحترامها وطهارتها؛ وإن العقيدةَ علاقةٌ بين الإنسان وربه، وإن الشرعَ
الحكيم لا يمنع المسلمَ من أن يوصى ببناء كنيسة. وكان، رحمه الله، دائم الدعاء لله
أن يرزق "المنحرفين" فكريًّا الهدى والمحبة. وأيَّد تلك الفتوى الطيبة د.
محمود عاشور، عضو مجمع البحوث الإسلامية ووكيل الأزهر الشرف آنذاك، قائلا: "إذا
كانت الدورُ للعبادة والصلاة فينبغي أن نتبرع جميعًا لها سواء كانت مسجدًا أو كنيسة.
إذْ لا يجوز غلقُ دار عبادة في وجه إنسان. لأن غلق دار عبادة يتبعه فتحُ باب معصية.
فكل باب عبادة يتم غلقه، يتم أمامه فتح باب للشيطان.”
وبقدر ما تبهجنا وتذكي الأملَ في نفوسنا عقولُ شيوخ
أجلاّء مثل د. طنطاوي ود. عاشور، بقدر ما تحزننا وتخيفنا من المقبل عقولٌ أخرى تعملُ
على وأد ائتلاف هذا الوطن الحزين الطيب. أولئك هم أعداءُ مصر وجنود داعش الكامنون في
قلب الوطن، ومن يجب التصدّي لهم بنفس القوة التي نتصدى بها للإرهاب والإرهابيين.