يذهب ظنى إلى أنّ القراءة المُتعمّقة فى الفلسفة (سواء المدرسة المثالية أوالمدرسة المادية) والقراءة المُتعمّقة فى تاريخ الشعوب ، هى (أى تلك القراءة) التى تـُفرّق
وتـُميزبين مُبدع وآخر. فمثلا كثيرًا ما يقع فى يدى العديد من الروايات ومجموعات القصص القصيرة ودواوين الشعر، فأكتشف كتابة سطحية لاتقول أى شىء أومُغرقة فى تهويمات بحجة (الحداثة ومابعد الحداثة) وبالتالى تتبخرالكتابة فورالانتهاء من القراءة ، بينما آخرون تظل إبداعاتهم مثل الشمس التى تـُشرق بعد كل غروب ، فتدفعنى إلى إعادة القراءة وأحيانـًا الكتابة عنها. من بين هؤلاء المُبدعين الشاعر حسن طلب الذى تنبض أشعاره بالوعى العميق بتاريخ الشعوب وبالفلسفة. ومن هذا المُنطلق (رغم أنّ الشعرإبداعه الأساسى) لم تكن مفاجأة لى عندما قرأتُ كتابه (أصل الفلسفة- حول نشأة الفلسفة فى مصرالقديمة- وتهافت نظرية المعجزة اليونانية) الصادرعن دارعين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية- عام 2003. والكتاب جزء من رسالته للدكتوراه.
موضوع الكتاب تفنيد نظرية المعجزة اليونانية التى تنفى أى دورللحضارة المصرية. ويهمنى التأكيد على أنّ د. حسن طلب بدأ الإعداد لرسالته منذ أواسط السبعينيات من القرن العشرين. وذكرفى التصدير((عندما انتهيتُ من هذه الدراسة أوائل الثمانينيات لم تكن الكتب الشهيرة التى بدأتْ تبحث عن مصادرالفلسفة اليونانية فى التراث الشرقى عامة والمصرى خاصة، قد ظهرتْ بعد)) مثل (موسوعة أثينه أفريقية سوداء) وكتاب (التراث المسروق) ود. طلب لا يُريد من هذه الإشارة السبق والريادة ، إنما كان هدفه توضيح ما يلى ((ولكننى أريد أنْ أشير إلى ما جعل هذه الدراسة (دراسته) تخلو من الإشارة إلى هذه الكتب الشهيرة))
فى بداية الكتاب ذكر بعض الأمثلة من ذوى التعصب العنصرى مثل (السيرهنرى سمرمين) الذى كتب ((باستثناء قوى الطبيعة العمياء لايوجد أى شىء يتحرك فى هذا الكون إلاّوهوإغريقى الأصل)) (ص14) ويذهب رأى أقل تعصبًا إلى أنّ المصريين ، وإنْ كانوا ذات طابع عملى ، فلم يتركوا تنظيرات فلسفية تأملية. ناقش د. طلب هذه الحجة بتوسع فأكد على أنّ ((هناك الكثير من مظاهر التأمل والقدرة على التجريد فى التراث المصرى)) ثم نقل عن بعض العلماء أنّ النزعة المثالية أو التأملية الخالصة اقتبسها أفلاطون وأقام عليها مثاليته التى تعود أصولها إلى نزعات مثالية مصرية قديمة. كما تحدّث باحثون كثيرون عن التفكير بالأيدى ودور اليد فى إخصاب التفكير. فعن طريق الأيدى وممارسة العمل توصّـل الإنسان إلى التقنية ، والتقنية بدورها هى التى تـُولد الفكر(ص25)
وفى فصل مهم عرض آراء العلماء أصحاب نظرية (الانتشارية العامة) ومؤداها أنه لا سبيل أمام ثقافة ما لكى تنمو وتتقدم إلاّ بالأخذ عن ثقافة أخرى . ومن هذه النظرية تفرّعتْ نظرية (الانتشارية الخاصة) التى افترض أصحابها أنّ مصر هى المكان الأول الذى انتشرتْ منه أهم العناصرالحضارية إلى سائرأنحاء العالم . وهم وإنْ كانوا يؤمنون بمبدأ الاستمرارالذى يعنى أنّ كل جماعة بشرية يعود الفضل فى ثقافتها إلى جماعة أخرى ، فإنهم يستثنون مصرلأنها البداية. ونقل عن العالم (بيرى) أنه فى ضوء المعلومات المُتوفرة ((كان لابد أنْ نـُسلم بأنّ مصر فى عصر ما قبل الأسرات كانت تتمتع بثراء ثقافى يفوق أى مجتمع من المجتمعات التى قامت حضاراتها على إنتاج الطعام فى أقدم العصور. فلا نجد فى (سوسا) أوسومرأوفى أية بقعة أخرى مثيلا لتلك الثروة ” الثقافية ” )) ويرى العالم (إليوت سميث) أنّ أصالة المدنية المصرية تتجلى فى آلاف التفاصيل التى تتكوّن منها الحضارة المعاصرة. وأنّ باحثــًا إنجليزيًا معاصرًا يعمل بمصلحة المساحة البريطانية أثبت أنّ طراز المصاطب الإنجليزية مشتق من طراز المدافن المصرية (من ص 31– 55)
كما تناول (معابر الانتشار) وهى : 1 – (مصر- كريت – اليونان) 2 – (مصر- آسيا الصغرى – اليونان) 3 – (مصر- العبرانيون – اليونان) 4 – (مصر- اليونان مباشرة) والشاعر حسن طلب صدّر هذا الفصل بحكمة فارسية قديمة دالة هى (( كل جميل يأتى من مصر )) كما استشهد بالعلماء الذين أكدوا على أنّ الإلياذة والأوديسة حفلتا (( بالشواهد الدالة على عمق النفوذ والأثر المصرى فى الحضارة اليونانية. وأنّ هوميروس قد زار مصر. وأنّ اليونانيين كما ذكر العالم (بيرى) كانوا يُردون أنسابهم إلى أصول مصرية. ورجع د. حسن طلب إلى كاتب مصرى حديث عاش فى الفترة الليبرالية السابقة على كارثة أبيب /يوليو1952عندما استولى الضباط على الحكم وشطبوا اسم مصر، هذا الكاتب هو (عبد القادرحمزة) فى كتابه (على هامش التاريخ المصرى القديم) حيث دلل على اقتباسات هوميروس من الأساطير والآداب المصرية ، مُعتمدًا على تحليل نصوص بعض القصص المصرية وبعض نصوص الإلياذة والأوديسة. ونقل د. طلب عن أفلاطون فى محاورة (طيماوس) أنّ (صولون) الذى عاش فى مصر تلقى توبيخ أحد الكهنة المصريين وقال له (( أنتم أيها الهيلينيون لستم سوى أطفال وما من حكيم بينكم )) وعرض المؤلف بالتفصيل لعدد العلماء اليونانيين الذين عاشوا فى مصر لعدة سنوات أمثال : طاليس ، فيثاغورث (عاش فى مصرلمدة 22سنة) ، ديمقريطس ، أفلاطون (عاش فى مصرلمدة 13سنة)
وعرض المؤلف كتاب ( أفلاطون فى مصر) للعالم الألمانى ( در شتاين) الذى أحصى عشرين إشارة إلى مصر والحضارة المصرية فى أعمال أفلاطون الذى هاجم الشعراء الإغريق ، لأنهم زعزعوا الإنجاز السرمدى للإلهة المصرية إيزيس . وكتب (( فى مصر وجد أفلاطون الحقيقة )) كما تناول د. طلب أثرالحضارة المصرية فى التراث اليونانى ، من قيم دينية وأخلاقية وفنية. والتشابه بين القصص المصرية واليونانية ، مثل قصة ( الصدق والكذب ) المصرية وقصة ( العدل والظلم) اليونانية. وأنّ توارد الخواطر لا يمكن أنْ يكون صدفة ، خاصة أنّ التفاصيل واحدة ، وأنّ الأصل هو الأدب المصرى ، كما أشار إلى ذلك كل من ، لوفيفر، فوكار، ماسبيرو. وأنّ العالم (بيرار) أثبت أنّ جنة النعيم فى الأوديسة ليست يونانية بل مصرية ( من ص 2266- 228) ونقل المؤلف عن العالم (بيرى) من كتابه ( نموالحضارة) أنّ ((مصرهى البلد الذى تــُزكيه كل الحقائق موطنــًا للحضارة . وهى المصدرالأكبرللوحى المُتجدد الذى ألهم الحضارات المجاورة خلال قرون طويلة)) وعن إلهة العدالة المصرية (ماعت) نقل د. طلب رأى علماء علم المصريات الذين أكدوا على تأثيرها فى معظم الحضارات القديمة. وترجم نصًا مصريًا قديمًا قال فيه كاتبه (( أقم العدل لرب العدل ))
إنّ كتاب د. حسن طلب غاية فى الأهمية نظرًا لمنهجه العلمى واستناده إلى عشرات المراجع . ولو أنّ الثقافة المصرية السائدة أعادت النظر فى بوصلة توجهها واقتنعتْ بلغة العلم القاضية بأنّ الانتماء الحقيقى منبعه ومصبه للثقافة القومية المصرية ، وليس للولاءات الأيديولوجية أو التوجهات السياسية أو العواطف الدينية . لو فعلتْ الثقافة السائدة فى مصر ذلك ، وانطلقتْ من وجدان مصرى وإيمان بقوميتنا المصرية ، لفرضتْ هذا الكتاب على أبنائنا الطلبة فى التعليم الثانوى والجامعى ، خاصة وأنه مُرصّع بآراء عشرات علماء علم المصريات الأوروبيين الذين أنصفوا الحضارة المصرية ، أمثال جورج ساراتون الذى قال فى كتابه ( تاريخ العلم والإنسانية الجديدة) الذى ترجمه المفكرالمصرى إسماعيل مظهر ابن الليبرالية المصرية التى تعمّد ضباط يوليو1952 وأدها (( إننا عندما نتكلم فيما نـُسميه المعجزة اليونانية ، فلا محمل لما نقول إلاّ محمل الاعتراف بجهلنا والسليم به))
رسالة الدكتوراه للشاعر حسن طلب هى تأكيد لما ذهب إليه اعتقادى ، حيث أنه غذى أشعاره بالفلسفة ، والفلسفة غذتْ إيمانه بلغة العلم والموضوعية ، لذلك اختلف عن العروبيين الذين لم يهتموا بقراءة تاريخ الحضارة المصرية ، واختلف عن الإسلاميين المعادين لهذه الحضارة الإنسانية . وأعتقد أنه رغم الزمن الردىء الذى نعيش فيه ، فإنّ كتاب د. حسن طلب ( أصل الفلسفة ) سيكون مرجعًا لكل طالب علم ومعرفة ( رغم العداء للعلم والمعرفة) بالضبط كما ستكون أشعاره خالدة ، لمرجعيتها الفلسفية والتاريخية ، وليستْ الأيديولوجية.