أعرف ضمنيا ومسبقا، ردودكم المفترضة
تفنيدا لرجائي هذا، ستقولون بأن اجتثاث الغش، ماذا قلت؟بل، مجرد وضع حد لامتداداته
القاتلة، ليس مسألة تقنية تحاول ترميم
الشكل الخارجي،ولا قانونا يوقعه وزير،ولا
وصلة إشهارية بدون روح،يمكنها حسم
القضية بجرة قلم، هكذا على الأثير،وإنما أساسا مشروع مجتمعي بنيوي طويل النفس،
متكامل الأبعاد، يتطلع إلى مجتمع إنساني تميزه قيم ومبادئ ومرتكزات وقواعد وفلسفات
ورؤى وقوانين وأسانيد ومرجعيات الاستحقاق والنزاهة والكفاءة والجدية والعدالة
والإنصاف،حيث الرجل المناسب في المكان المناسب.مجتمع العلم والديمقراطية والحرية والتباري الشريف،هنا
تكون حقا للقيم معانيها.
أعرف ذلك،وأعلم عليم اليقين،أنكم مجرد أجيال تمثل ضحية لسياسات تعليمية مرتجلة،بدون
أفق بناء،أبانت عن فشلها،أولا وأخيرا،استهدفت بكيفية مباشرة،أو غير ذلك،إفشال
مختلف السبل والمسالك،التي تهتدي بسلاسة نحو مدرسة تخدم المجتمع، ثم مجتمع يحكمه
وازع المدرسة.طبعا لاأقصد بالمدرسة هنا بنايات
صماء،ولاهياكل إسمنتية رمادية،بل منظومة معرفية رصينة ومناهج عقلانية كونية وموارد
بشرية سخية معقلنة وجسم أستاذي جدير حقا بالتسمية.
أعرف، بأن المسألة ليست بالبساطة
المتوهمة،فالأشياء متشابكة ومتداخلة حد العبث،بحيث لايمكنك العثور
على حل لجانب،دون ضرورة التحول إلى الثانية،وكأن الوضع أشبه بتداعيات تلك الأحجية
السوفسطائية الشهيرة:أيهما
أسبق الدجاجة أم البيضة؟إذا قلت الدجاجة فأصلها بيضة،وإذا انتهيت إلى البيضة،فلا
مصدر لبيضة بدون دجاجة !بالتالي،هل الغش
في الانتخابات مثلا باعتبارها الاختبار الأول لمدى صدق مجتمع مع نفسه،وما يلحقها
من تكريس بالسيف والقلم لمختلف أساليب التضليل،ماظهر منها ومابطن،مردها إلى برامج
تبخيس قيمة أخلاق العلم وتفريغ المدرسة من جوهرها،بالتالي سوغت رمزيا الغش في كل
المجتمع؟أم الأخير،وجراء اختلالات همت مؤسسات أخرى،قد أصاب المدرسة بالعدوى؟.
أعرف،بأنكم ستبررون المآل،بأن الغش أضحى متسيدا، والغشاشين
تغولوا،دون حسيب ولارقيب،والموضة أو ''القفوزية'' والشطارة
الاجتماعية، تكمن في العثور على قارورة إكسير الغش،قصد الوصول سريعا والظفر بجزء من
الغنيمة .النتيجة واضحة،ها نحن نصطدم بجبل من المشاكل : العنف، الجهل، الإرهاب، ''بلطجة ''الفضاء العام، المافيات،
الغوغائية، الشعبوية، العمى العقائدي…
.نيران ستحرق الجميع، يقتضي إخمادها أو على الأقل تطويق
استفحالها الفيروسي،العودة ثم البقاء أولا وأخيرا في حضن المدرسة ولاشيء غير بوابة
المدرسة.منظومة متخلفة، يقتضي تدارك عواقبها الهدامة، عليكم وعلينا والأجيال اللاحقة ،تفعيل
منظورات فكرية وثقافية تقدمية ذات توجه مجتمعي عام. وحدها مختبرات المدرسة، قادرة على
التكفل بهذه المهمة المقدسة.
ليس
المهم التشبع بمكيافيلية دنيئة للظفر بشهادة تبقى مجرد ورقة لا غير،فالمهم أن تكون إنسانا
مسؤولا، قويا، سويا، مكتمل البناء النفسي قادرا على مواجهة التحديات الحياتية.الحياة
أكبر بكثير جدا،وأعمق كفاية، من مجرد مبرر نقطة
تحصل عليها جوابا بأسطر على أسئلة وضعها شخص ما أو مجموعة أشخاص، لايهم، قصد استفسارك
عن معارف نسبية. أمر يتحقق بالتحصيل العلمي والمثابرة والكد والشعور
بحلاوة النجاح.أعرف بأن قسما مهما من إعلامنا لأهداف محض تجارية وتسويقية،يجلدكم
على امتداد السنة وصباحا مساء،بنماذج ''أبطال ورقيين'' لهذا الزمن، من نوع مختلف جدا، عن سياق المدرسة وفلسفتها ورهاناتها،صغار
في سنكم أو أكبر قليلا،تربصوا ب''هموز''سهلة اقتضاها السياق، فأضحوا مضربا قوميا
للأمثال.والحال كذلك، لماذا
ستتعبون جماجمكم بالحفر والغوص في معاني ودلالات الوجود؟.لا تهتموا
بكل تلك الضحالة،حتما هي عابرة،
فلا يصح في نهاية المطاف سوى الصحيح.
طيب
لنتفق على قضية واحدة،ألا تقضون اليوم كله وأنتم تتابعون على لوحات هواتفكم،ساخرين
ومتهكمين بل ممتعضين تقززا،من هذا البرلماني الذي يتهجى العربية مثل صبي في المسيد، وذاك الوزير العاجز عن نسج جملة مفيدة مقنعة،دون أن يرشح عرقا،إلخ.ثم تسرعون إلى تدبيج تعليقات على منوال :واش هذا ما قريش، حشومة على مستوى
يالطيف؟ أتريدون تكرار ذات التجربة، وتسقطون
في نفس المطب !ماجدوى كل مناصب العالم،حينما يعيش
الواحد موقفا مخجلا كهذا؟ يجب حقا أن تحققوا القطيعة،وتحدثوا المثال الملائم.
نعم ليس مهما،أن تنصفك شهادة خرساء،بجدليتي نجاح
أو رسوب تبقى في نهاية المطاف مواضعاتية،بل المهم سعيك بجد إلى المعرفة كي تدرك ما
يجري،وتمنحك حصانة ومناعة نفسية،لاسيما مع التنميط غير الذكي بتاتا الذي أضحى مصاحبا للامتحانات الإشهادية منذ غزو الوسائل
التقنية، ولا أقول العقل السيبرنطيقي،فنحن أبعد ما يكون،عن استلهام روح الفكر
التقني، مثلما صار عليه الأمر في العالم الغربي.ومما
زاد الطين بلة، عدم القدرة منذ البداية على وضع استراتجية شاملة،كي نتعامل بحصافة
مع القادم،وحماية الذكاء المغربي من الاستنزاف.بل تم التعامل مع التقنية مثل كل استهلاك تجاري عادي مستورد
يدر الأموال الطائلة لأصحاب الاحتكارات طبعا،غير هذا لايهم. الشهادة لاقيمة لها بغير فاعلية
صاحبها. ربما تعلمون، أن
الغالبية الكبرى لعظماء الغرب والعرب،راهنوا أولا وأخيرا،على العصامية والتعليم الذاتي،وأخذوا
من المدرسة أهم مبادئها :المثابرة والكد في سبيل التحصيل.
صحيح كل الوقائع، تؤكد بأن المنظومة التعليمية المغربية، يلزمها حقا ''معجزة''،حتى يصبح
بإمكانها تكلم لغة العالم المعاصر.في الانتظار، من
حقنا أن نحلم.