صمت مشوب بالحذر، قابل للانفجار في أي لحظة. الترقب سيد الموقف من كلا الجانبين،
ولكل منا استراتيجيته للتحرك وصدّ الهجوم والخروج بأقل الخسائر. أتنقل من زاوية إلى
أخرى بنظرات
حادة، ممزوجة أحيانا بابتسامة خفيفة تظهر وتختفي حسب إيقاع نفسي، يفرضه
وضع لا يمكن الوثوق في صمته ولا سكونه.
- أرجوك ابني لا...
- أعتذر...
- لا بأس...
أجد الرد كيّسا لطيفا ومؤدبا... وما يزيد من تنامي إحساسي بالأمان، هو هذا الصمت
الذي يسدل جناحيه على القاعة، صمت لا يكسره إلا صرير أقلام أو بعض من وشوشات خجولة،
أتصدى لها بملاينة تُجنبني احتكاكا أو اصطداما أنا في غنى عنه. أريد أن أخرج بسلام
وبأقل الأضرار من الطرفين، لكن دون تواطؤ أو انقياد لسيل داهم قد يأتي على الأخضر واليابس.
- هات ما بيدك ابني، هات...
- مَعَنْدي والو... كلهم فْهاد البلاد كَيْغشّو
وحاطّينْ علينا غير حْنا...
- قلت لك هات ابني....
أنتزع منه القصاصة، أضمها إلى الركام المتصاعد على المكتب، بينما تنقض علي نظراته
الشزراء تنهشني بأنياب حنقه:
- حتى تخْرج على برّا ونْتفاهْمو...
يومض في عيني النصل الذي كاد ذات حراسة يخترق عمق جوفي لولا ألطاف الله... أواصل
مروري بين الصفوف، أسترق نظرة من ساعتي، يبدو الزمن عنيدا رغم انصرام نصف الحصة. تصعد
من أعماقي زفرة ملتهبة، ومع ذلك أشعر بالرضا لحد الساعة ما دمت متحكما في زمام الأمور.
يثير انتباهي أحد التلاميذ، لا يكف عن الزفير
وكثرة الحركة على مساحة مقعده، تنضح تقاسيمه السخط والتوتر وعدم الرضا. أقترب منه في
هدوء، أختلس النظر إلى ورقته، لا يزال البياض فيها سيد الموقف. أحاول التخفيف من توتره،
أنبّهه إلى الزمن المتبقى من الحصة. يفاجئني بدويِّ صرخة:
- هاد شي مَقْرِناهْش، مَبْغيتوناش نْجحو...
أربت كتفه وألتمس منه الجلوس:
- ركز قليلا ابني...
أقف وسط المصطبّة، أدعو الجميع إلى الانضباط، أحتوي القسم بنظراتي من جديد،
أحس بقليل من الارتياح بعد اطمئناني لعودة المياه إلى مجاريها. ملامح التلميذ لا تزال
تفيض غضبا واعتراضا وعدم رضا، يبدو ممزقا بين الورقة والساعة والنظر بين الفينة والأخرى
إلى جهة الباب، خاصة عند التقاطه وقع الخطوات في الممر. لم يكد الهدوء يستعيد نبضه
الذي فقده قبل قليل، حتى انفجر صراخه من جديد، مصحوبا هذه المرة بضربة قوية بقبضة اليد
اليمنى على زجاج نافذة بجانبه، تناثر فتاتا على الطاولة والأرجاء المجاورة. تنقطع أنفاسي
أمام هذا المشهد المُريع، يزيد من ذهولي الدم النازف من يده، بينما ينقسم التلاميذ
بين مندهشين، ومستغلين لفرصة من ذهب قد لا تعوض.
تضع معيدة ضمادا على يده... بينما يصرف وجهه إلى الباب وهو يصرخ:
- وعباد الله كفاش
نكتب دبا...؟ هادْ لمتِحانْ آخر فرصة... شْكونْ يكتبْ لي دبا...؟
وأمام أنظار المسؤول الذي حل بالمكان، يتسلل من خارج القاعة تلميذ يعرض تطوعه...
أخطو خطوتين إلى الأمام:
- لكن، لا يمكن...
بصوت خافت يقاطع كلامي:
- لا ضير أستاذ، أنا المسؤول، ينتظرني عمل كثير...
أحاول امتصاص الفوضى التي عصفت بالقسم، لكن تركيزي لم يكن ليفارق التلميذين،
أحدهما تعتريه ابتسامة عريضة، والآخر يسابق ما تبقى من عمر الزمن.