غداة الاجتياح العراقي للكويت، بدا الارباك مرتسماً على غلاف مجلة لبنانية مرموقة، كانت "تتمول" من السعودية والعراق على حد سواء ... لم يكن الصراع العراقي – السعودي قد بلغ حد الانفجار بعد، صدرت المجلة بغلاف مقسوم إلى نصفين، وضعت صورة للملك الراحل فهد بن عبد العزيز على نصف الغلاف الأيمن، وصورة للرئيس الراحل صدام حسين على النصف الأيسر، مع عبارات ملؤها الرهان على حكمة العقلاء في حلٍ للأزمة بالطرق السلمية، تحفظ للأمة مصالحها العليا وتنجيها من فتنة لا تبقي ولا تذر.
لم تستطع المجلة الإبقاء على موقفها الرمادي بين قطبين (اقرأ ممولين) متنازعين حد الحرب الشاملة والمفتوحة ... صدرت في الأسبوع التالي بغلاف أقرب إلى إعلان الحرب على بغداد، وليس على صدام فحسب، فالكفة في تلكم الأزمنة، مالت بشكل لا لبس فيه لصالح "تحالف حفر الباطن"، وكان يتعين على مالك المجلة أن يعمل بالنصيحة الأمريكية الذائعة تتبع المال أو: “Follow the Money”.
ما أشبه اليوم بالأمس... مع اندلاع الأزمة الخليجية بدت حال كثير من الصحف ووسائل الإعلام والكتاب والصحفيين، شبيهة بحال المجلة اللبنانية قبل أزيد من ربع قرن ... لكن سرعة تتالي التطورات، واقتراب "الساعة الرملية" من إفراغ ما في جوفها من حبيبات متناهية الصغر، لم تبق مجالاً واسعاً للتردد أو التريث ... الحسم سيد الموقف والاستقطاب لغة العصر الخليجي، ومن ليس معنا، فالمؤكد أنه مع إيران المجوس والشيعة الروافض، أي ضدنا بالكامل ... إنها الحرب الضروس التي تجعل "عدم الانحياز" خيانة كبرى، وتجعل من أصاحبها ضرباً من القاعدين، والآية الكريمة تقول: "لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ“…..
ولأننا أمام صراع عبثي، ينتمي لمدرستي "داحس والغبراء" و"حرب البسوس"، فإن كثرة كاثرة من "المثقفين والإعلاميين والمفكرين العرب" الذي كيّفوا أنفسهم مع "معكوس" نظرية غرامشي عن "المثقف العضوي" فباتوا مندمجين عضوياً بالبلاطات والدواوين، نقول كثرة كاثرة من هؤلاء أشهرت سيوفها من أغمادها وراحت تكيل الضربات يمنة ويسرة لخصومها في المقلب الآخر من الخندق، وتمعن في شيطنته، وكل بلغته ومفرداته ومرجعياته، وتثني على "أرباب نعمتها" كما لو كانوا قلاعاً للجهاد، ذروة سنام الإسلام، أو لحرب التحرير الشعبية، أو كما لو كانت العواصم التي يقيمون بين ظهرانيها تجسيداً حيّا لتراث فولتير وجان جاك روسو أو كارل ماركس وفلاديمير لينين أو الخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ليس المهم ما تقوله ولا ما تستند إليه من إرث ومرجعيات، طالما أن ذخيرتك ستصب الحب صافياً في هذه الطاحونة، وستنثر العصي والمسامير في طواحين "الأغيار" ودواليبها ... انهل كما تشاءمن كتب التاريخ وسيره واستحضر ما أردت من نظريات وأفكار، فالمعركة مفتوحة، وهي تتسع لكل ما في الموروث من سهام ورماح، طالما أن "الدعاية للحرب والصراخ والكذب والكراهية تصدر عمّن لا يحاربون" كما يقول جورج أورويل، خصوصاً في حروب الأغنياء التي لا يموت فيها الا الفقراء فقط، على حد قول جان بول سارتر.
ولأن وضع هؤلاء، سيما من أصحاب الإرث النضالي والفكري بات محرجاً للغاية، فلم يعد لديهم من خيارات سوى ادعاء تمثلهم الكامل لرواية "المانحين" وأصحاب اليد العليا، وإعادة تقديمها بوصفها ثمرة لجهدهم العلمي والأكاديمي العميق، مع أنها لا تختلف في حقيقة الأمر، عن التصريحات السياسية المتهافتة والركيكة التي تصدر عن المستوى السياسي، ومن دون أن يدرك هؤلاء أن لعبتهم في "تقعير" اللغة وتدبيج العبارات والجمل، لا تجعل منهم طرفاً آخر مستقلاً عن أولياء النعم أطال الله في أعمارهم.
في الأزمة الخليجية، سقطت الرصانة الفكرية، أو بالأحرى الرطانة الفكرية، المتدثرة بلبوس فلسفي سميك، ليتحول أصحابها ومراكزهم الفكرية ومعاهدهم البحثية وصحفهم وفضائياتهم، إلى "فرق عمل" و"غرف عمليات" لإدارة المعركة ضد العواصم القريبة، وأطقهما المماثلة القابعة على الضفة المقابلة من الخندق ... يبدو أن لحظة تسديد الحساب قد أزفت، ومن تضخموا وتكرشوا بأموال طويلي العمر، عليه أن ينفروا خفافاً وثقالاً للجهاد ضد نظرائهم في العواصم القريب، وهم بالمناسبة من طينتهم وعلى شاكلتهم، حتى إن هم نظروا إلى أنفسهم في المرأة رأوا صور خصومهم ومجادليهم.
ومن يدفع للزمار يقرر اللحن، تلكم حكمة قديمة، لا تعني شيئاً في عصرنا الراهن غير "الاحتواء الناعم" أو "شراء الصوت والصمت"، حاول المتحذلقون أن ينفذوا من "أقطارها" على نحو خفيف ومراوغ، إلى أن أزفت الآزفة الكاشفة، التي أحالت كثيرين منهم إلى "دمى في مسرح عرائس"، تحركهم خيوط ترتبط جميعها وتلتقي بكف واحدة، يجهدون في جعلها غير مرئية، من دون جدوى، فالوقت من دم وساعة الرمل تكاد تُفرغ ما في جوفها.
أسوأ هذه الفئات، "المثقف العضوي الوافد" الذي يتعين عليه أن يبذل جهداً مضاعفاً للبرهنة على "وطنية" تتفوق على "وطنية" المواطنين ... وأكثرهم تهافتاً أولئك المتحدرين من رحم قضايا وطنية وقومية كبرى كالقضية الفلسطينية، من بقايا اليسار والقوميين ... هؤلاء كالغراب الذي نسي مشيته ولم يتقن مشي الحمام، خلعوا "الفوتيك" و"السفاري" ولم يتعلموا بعد ارتداء الدشاديش البيضاء... أوهموا بعضنا بأنهم منذورين للقضايا الكبرى، فإذا بهم يتحولون إلى صورة شوهاء عن المتنبي في ديوان كافور الأخشدي، فليس في المشهد سيف الدولة الحمداني.