من
شِعرٍ منسوبٍ إلى (القاضي علي بن محمَّد العنسي)، غَنَّاه كثيرون على لحنٍ من
التراث الصنعاني، تسمع النصَّ الآتي:
وا
مُــهَــــيِّــــجْ صَــــبــابـــا ** تِــيْ بـِـتَـرْجِـــيْــع الاْلْحـــانْ
ما جَـــرَى
لَـكْ تُــهَــيِّــجْ ** شَــوق قـلـبي والاْشْـجــانْ
لا
اْنْـتَ عـاشِــقْ ولا مِــثْــ ** ـــلي مُـفــارِقْ للاْوْطـانْ
...................
بُــلْــبُـــلَ
الــــواديَ الأَخْــــــــ ** ــضَـرْ تَـعالَ اْيْـنَ
دَمعـكْ؟
تـَــدَّعـــيْ لَــوْعَـــــةَ الـعــــا ** شِـقْ وما العِـشْق طَبعَـكْ
فاســتَرِحْ
واشــغــلِ الــبــا ** نَـةْ
بِخَــفْـــضَــكْ ورَفْـعَــكْ
...................
واتْـــرُكِ
الحُـــبِّ لَاْهْـــلِ الـ ** ـحُـــبِّ يا بُـلْـــبُـــلَ الــبـانْ
...................
حِـــبَّــــتــي
بَــعـْـدَكُــــمْ والـــ ** ــلــهْ جَـــفـانِـيْ هُــجُــوْعِــي
وجَــــرَحْ
مُــقْلَـــتِـيْ يـــا اْحْـ ** ـــبـابِ جـَــاري دُمـُـوْعِـــي
آهِ وا حـــــســـرتــيْ مـنْـــ ** ــكُــمْ ألا يـــــا وُلُــــــوْعِـــي
...................
كُـــلِّ ذا
مِــنْ جَــفــاكُـــــمْ ** لَـــيْتْ يا لَـــيْتْ لا كـــــانْ
...................
يـــا
أَحِــبَّـــــــــةْ رُبـــَى صَــنـ ** ـعــا سَـقَـــى اللهُ صَــنـعــا
حَــــيِّ ذاكَ الــــرُّبَـــــى لا ** زالَ لِــلْـــغِـــــيْـــدِ مَـــرْعَـــــى
لَــــوْ
يَـــقَعْ لِـــيْ إليـهِ اسْــ ** ـعَـى على الرَّاسْ لاْسْعَـى
...................
يـا
بــرُوْحِــي نَجِـــحْ رُوْ ** حِــيْ بَلابِـــلْ وأشجـــانْ
...................
لَـيـتَ
شِعــــريْ متَى شَـــلْـــ ** ـــقِـيْ عَــصاةَ المُــسافِــرْ
وايِّ
حِـيْنْ شَـا يَطِــبْ ليْ ** عَــيْـش قـدْ كـانَ
نـــافِــــرْ
وايِّ
حِـــيْنْ شَــا تـخَــطَّـــرْ ** بَـــــيْـنَ تــلـكَ المَـنــاظِــــرْ
...................
هُــوْ قَـريـبْ ذا على
اللـــ ** ـهِ اِنْ يَـقُـلْ لَهْ يَكُــنْ كــانْ
غناه
مغنُّون من اليَمَن وغير اليَمَن. وأجمل من غنَّاه مطرب اليَمَن (أيُّوب طارش
العبسي).(1) وهو يمتاز بفخامة صوته وعذوبته معًا، ومقدار
الشجن والطرب فيه. فما وزن هذا النص؟ إنه من مجزوء البحر الخفيف، المخبون المقطوع
العَروض والضَّرب، ويُسمَّى: (المكبول)، بحيث تصبح (مستفعلن): (متفعلْ=
فعولن). ويُسمِّي العَروضيُّون العِلَّة
هاهنا (قَصْرًا)، لا (قَطْعًا)؛ لأنهم يفترضون أن التفعيلة في هذا البحر تتكوَّن
مقاطعها هكذا: (مستفعِ لن). وهو افتراضٌ تحكُّمي لا يدعمه منطق، ويجعلنا أمام
تفعيلةٍ وهميَّةٍ مختلَقة. أمَّا
القوافي، فقد جاءت على النمط الموشَّحي، أو الحُمَيْني،
في توزيع الأدوار والأغصان. وقد قيل إن أوَّل من أضاف هذا الوزن الجديد من بحر
الخفيف الشاعر
العباسي (أبو العتاهية)، وحين نُبِّه إلى أنه قد خرج به عن مألوف
العَروض، قال: «أنا أكبر من العَروض!» وعليه أبياته:
عُتْبُ،
ما لِلخَيالِ ** خَـبِّريني ومـالِــي؟
على أن
للغناء عبثه أحيانًا بعَروض الشِّعر. فتقطيع الأبيات هكذا: «وا مغردْ/ بواديْ
الدْ/ دُرِّ من فو/ ق الاْغْصانْ»: (فاعلاتن/ متفعلْ/ فاعلاتن/ متفعلْ (+نْ)).
بزيادة حرف ساكن، وهذه الزيادة لا نذكر لها شاهدًا من الشِّعر الفصيح، حتى لدى أبي
العتاهية. لكن المغنِّين يكسِّرون بعض الأبيات: فنسمع بعضهم، كالفنّان (علي
الآنسي)، يقول: «تدَّعي لوعة العشَّاق وما العشق طبعكْ». وبعضهم يقول: «وا مهيّج
صبابتي بترجيع الالحانْ». والبيت: «آهِ وا حسرتي منكمْ وآه يا ولوعي»، لا يستقيم
وزنًا، ولا بُدَّ أنه، مثلًا: «آهِ وا حسرتي منكمْ ألا يا ولوعي». وقد لا تفهم ما
يقوله المغنُّون في البيت الثامن، ولا حتى المنشدون! فالكلمة الثالثة من الشطر
الثاني تسمعها تارة «نجح» وتارة «نقح»! وكنتُ أظن الشطر: «يا
بروحي نَجِيْ روحي بلابل وأشجانْ»، وأن الشاعر يفدي بروحه «نَجِيَّ» روحه، وإنْ كان نجيَّها بالبلابل وبالأشجان. حتى
استدركَ عليَّ أحد الإخوة اليمنيِّين فأرشدني إلى أن معنى «نِجِح»: نضج. فتذكَّرتُ أن هذا التعبير مستعمل كذلك بلهجتنا
في جبال (فَيْفاء) عن نضج الطعام. ففي التركيب هنا استعارة مكنيَّة، وكأن
روحه قد أنضجتها البلابل والأشجان.
وأمَّا
بلبلنا (محمَّد عبده)، فقد غنَّى الأبيات قديمًا غناءً جميلًا، صوتًا، عجيبًا،
لحنًا ونصًّا، فضلًا عن تكسيره الوزن، مع الآخَرين!
ومهما
يكن من أمر، فإن للغناء عالمه الموسيقي، وللشِّعر عالمه اللغوي الموسيقي، كما يقول
كاتب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي. غير أن نماذج المقارنة بين الضربَين
تشير دائمًا إلى أن أُذن الشاعر أرهف حِسًّا غالبًا من أُذن الموسيقي، وأن «نوتة» الوزن العَروضي هي أدقّ وأكثر صرامةً في
قوانينها من نظيرتها لدى المغنِّي أو الموسيقي.
فكيف بغيرهما في هذا العصر (النثري)
وغير الموسيقيِّ أصلًا؟!
أمّا في
الشِّعر الحديث، فتُغنِّي (ماجدة الرومي) قصيدة (سعاد الصباح)، «كن صديقي»(2)، مكسورة العروض، ويتناقلها الكَتَبَة كذلك،
هكذا:
كُن
صديقي..
ليس في
الأمر انتقاصٌ للرجولة..
غير أن
الشرقيَّ لا
يرضَى بدورٍ..
غير
أدوار البطولة!
وفي السطر الثالث كسر عَروضي،
فالصواب: «غير أن الرَّجُلَ الشرقيَّ لا
يرضَى بدورٍ ...».
وخلاصة القول: إننا ما لم نُعِد النظر في أواصر ثقافتنا الأدبيَّة والفنيَّة، بفصحاها
وعامِّيتها- على نهج (الخليل بن أحمد الفراهيدي)، و(الجاحظ)، و(أبي الفرج
الأصفهاني)- فستظلُّ أمشاجًا سقيمةً عقيمة، غير مخصبة ولا
منتجة، فضلًا عن أن تكون مبدعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لمن شاء العودة إلى موقع «اليوتيوب» لسماع المواد المشار إليها: https://goo.gl/3IbBi5
(2) من ديوان «فتافيت امرأة»،
(القاهرة: الهيئة المِصْريَّة العامَّة للكِتاب، 1986، 1989). وغناء (الرومي) على الرابط: https://goo.gl/aLUBCM
................................
* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «قراءة في جسد التراث (القصيد، والتوشيح، والغناء)»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، الخميس 27 يوليو 2017، ص21]. على الروابط: