ما معنى أن تكون صحافيا في عالم اليوم ؟ انه سؤال يكاد أن يكون ذو طابع وجودي خاصة في ظل المتغيرات المتلاحقة التي حولت العالم ليس الي قرية صغيرة، كما كان معروفا سابقا عن السلطة الرابعة التي تحولت بفضل ثورة الرقمية الى سلطة أولى، فاقت السلطات التقليدية الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية التي كان قد نظر لها صاحب نظرية فصل السلطات في مؤلف "روح القوانين" المفكر الفرنسي مونتسكيو الذى من أقواله المأثورة أن " حريتك تنتهى، حيث تبدأ حرية الآخرين" وأن "الحرية هي الحق في أن تعمل ما يبيحه القانون".
اذن فمن هو الصحفي؟ هل الصحفي هو نفسه في أي زمان وفي أي مكان؟ هل الصحفي مجرد موظف أو مخبر أو منتج معرفة ؟ هل الصحفي لازالت له اليوم نفس السلطة الرمزية، برغم اختلاف وسائل التعبير الإعلامي والتقني ومنها النشر في الويب وعبر وسائط التواصل الاجتماعي ؟ وهل أيضا الصحفي هو الذي يحرر المادة الخبرية، عن طريق توظيف خبرته ومعرفته، اعتمادا على الأجناس الصحفية؟ أم يمكن اعتبار كل من يشتغل في حقل الصحافة، صحفيا ؟
واذا كانت الصحافة تظل نشاطا فكريا إبداعيا له خصوصيته، وله قوانينه، وله أساليبه وطرق إبداعه، فان القيمة المركزية للصحفي، ترتبط أساسا بحقل الممارسة الإعلامية، على الرغم من التطور التكنولوجي المذهل، والتعقيد الهائل في عملية انتاج المادة الصحفية، يظل مع ذلك العنصر البشري العامل الأكثر أهمية في العمل الاعلامي.
كما أنه على الرغم من أن مهنة الصحفي، تظل مرتبطة بحقول أخرى، حقوقية وقانونية وسياسية وأخلاقية، فان ممارسة المهنة بقيت تعبيرا حقيقيا عن مدى قوة وهشاشة فضاء الحرية التي تعد الرئة التي تتنفس بها مهنة المتاعب، في أي بلد من البلدان، مهما كان مستوى تطوره.
فالصحفي إذا كان "موظفا" في مقاولة اعلامية عامة أو خاصة، فإنما هو في حقيقة الأمر موظفا أساسا في حقل البحث عن الحقيقة التي تعد الهدف الرئيسي لأي صحفي منذ نشوء الصحافة، أي الحقيقة بطبيعة الحال، في أبعادها النسبية المتعددة والمنفتحة على الأسئلة العميقة، باعتبار أنه ليست هناك حقيقة واحدة مطلقة.
فماذا ينتظر القارئ والمستمع والمشاهد دائما من الصحفي؟ الجواب بسيط، هو أن يحوّل الصحفي وقائع المجتمع وتجاربه الإنسانية، إلى معطيات خبرية، مثلما ينتظر منه أيضا، أن يبحث عن المعلومات بهدف ادماج الرأي العام أفرادا وجماعات، في خضم سياقات وسيرورة الحياة، ويساعد بالتالي على تشكيل اتجاهاتهم ومواقفهم بخصوص القضايا التي تشغل بالهم.
من هذا المنطلق فالصحفي، ليس مطلوبا منه أن يكون لا صحافيا يساريا، ولا صحافيا يمنيا ولا صحفيا "اسلاميا"، وإنما صحفيا نزيها فقط، يمارس عمله بحرية وباستقلالية واحترافية. وهكذا فالصحافي " ليس مناضلا ملتزما، يصفق في المؤتمرات الحزبية أو يساند تنظيمات، همها الأول هو التدافع السياسي مع الأنظمة. فالصحافة مهنة والنضال مهنة أخرى. لكن ثمة من لا يريد أن يستوعب هذا الدرس على بساطته وعنفوانه أيضا.
غير أن كل عمل الصحفي، يتأثر بمستوى الحريات في بلد ما، ووضعية حقوق الانسان به، على الاداء المهني. فإذا كان الصحفي محظوظا، فسوف يعمل في بلد يسمح له بقدر كبير من الحرية في أن يقول الحقيقة، كما يقرأها وينشرها، ويتعامل معها، وأن يقدم وصفا أو تفسيرا دقيقا للأحداث في المجتمع بقدر امكانياته، ولكن حتى إذا منح قدرا كبيرا من الحرية، فسيكون عليه أن يتعامل مع أولئك " الرقباء " أو " المشوهين " الذين يسكنون في عقله، والذين يجعلونه يصوغ تصوراته للحياة بأساليب معينة.
الا أن ماهية الصحفي في زمن الثورة التقنية في ظل الحواسب والالواح الالكترونية والهواتف المحمولة بأكسسوراتها، جعل أحد الاعلامين يذهب الى القول بأن هذه التحولات أصبح معها " يكفى ان تحفظ 300 كلمة من القاموس وها أنت صرت صحفي ". غير أنه يستدرك الامر حين عبر عن الأمل في استيعاب وسائل الاعلام لإسهامات غير المحترفين وتنظيمها ، حتى يصبح الإعلام من جديد مهنة أعز من أن تدرك ب " 300 كلمة وعصا "سلفي" وجبهة عريضة".
ومهما كان مستوى التحولات الاعلامية والمجتمعية، فإن الصحافة هي أيضا فن الممكن، بمعنى أنها ممارسة مهنية، تتطلب قدرا كبيرا من " التكيف" مع شروط و"خصوصية" الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والاعلامي الذى تحيا في ظله ، لكن بدون أن يصبح هذا "التكيف" خضوعا، لما يتعارض مع حقائق الأشياء، ومع أخلاقيات المهنة ذاتها.
وفي هذا الصدد، اذا كان ما ينجزه الصحفي لا يظل معزولا عن ضوابط المجتمع والمعتقدات والقناعات السائدة، ولا يقتنع بالصحافة كفن للممكن، فلابد أن يصطدم بمختلف أشكال المقاومة، منها ما يتعلق بالمؤثرات خاصة ذات الطبيعة السياسية والاقتصادية والمالية .
غير أن هذه الاسئلة ستظل مطروحة على الصحفي، مادامت الصحافة تشكل أرقى مجالات حرية التعبير التي هي حق أساسي من حقوق الانسان، فالإشكال هنا ليس من طبيعة قانونية وتقنية فقط، بل تتداخل فيه عوامل متعددة منها الموضوعي والذاتي، مما يجعل حتى الصحافة بمتاعبها المتعددة، مهنة حقيقية لها قواعدها وشروطها وأخلاقياتها، وبالتالي فهي ليست مهنة من لا مهنة له، كما يحلو للبعض أن يقول.
إن رسالة الصحافة، باعتبارها سلطة مقاومة لكل السلط، تتمثل في البحث عن الحقيقة وتوفير المعلومات للجمهور الواسع حتى يكون بمقدوره، أن يشكل رأيه في كل القضايا التي تهم مختلف مناحي حياته، ويكون في مستطاعه أن يقرر مصيره في ظل الحرية، رغم الصعوبات التي تواجه الصحافة في الوقت الراهن والتحديات التي تقف أما قيامها بأدوارها في الاخبار والتوعية، خاصة في زمن " الأخبار الزائفة" التي تورطت في ترويجها مؤسسات اعلامية شهيرة، الأمر الذى جعل البعض يدعو الى اعتماد التشريعات الكفيلة بالحد من انتشار هذه " الأخبار" التي غالبا ما تكون مجهولة المصدر، وتعرف رواجا واسعا على مواقع التواصل، وهو ما يطرح سؤال ماذا يعنى أن تكون صحافيا اليوم؟.