تونس ـ «القدس العربي» من عبدالدائم السلامي: الشائع لدى الذين لا يكتبون الشعر قولهم إن الشعر كتابة صعبة لمعنى مألوفٍ، وهو قول فيه أمران: أولهما هو تصريح بصعوبة صناعة الشعر تصريحًا فيه إخفاء لتصريحٍ آخر ضمني يحيل إلى ندرة هذه الصناعة وعدمِ تأتّيها إلا للقِلة من الناسِ. ويحيل ثاني الأمرين على التماهي بمفهوم «التردم» لدى عنترة العبسي، بوصفه عملية «إصلاح» أو «استصلاح» للمعاني الرائجة لإنتاجِ معانٍ أخرى تشبهها. وأعتقد أن في هذا القول تلخيصًا لحالِ الشعر العربي الراهن، وكشفًا عما تنهض عليه كتابته من تناقض؛ فهو في الآن نفسه عمل نخبةٍ يفترض في شأنها أنها قادرة على الخلق الشعري، ولكن المتحقق من الشعر لا يزيد عن كونه إعادة تدويرٍ للمألوف من المعاني. وإن تأمل حالِ الشعر الراهن يشي بكونه ضحية حداثةٍ موهومةٍ استدعي فيها المفهوم دون شروطِه، فأفرغت الشعر من الشعرِ، وملأت كتابته باكتئاب نفسي أربك وعيه للعالم من حوله وعمّق عزلته فيه، وأثقله الإعياء حتى باتت أغلب قصائده تقول كل شيءٍ ولا توحي إلا بالقليل من روحِ الأشياء، من روح شِعرها.
فتنة المعنى
الشعر هو التهور، هو فتنة تهورِ المعنى وحامِلِه اللفظي معًا، هو فتنة خسرانِ يقينه من منظومات الخارِج، إنه يجيد خسران الخارجِ، ولذلك هو عصارة الحزن الآدمي على الأرضِ. فإن تخسر القصيدة خارجها يعني أن تمحو ألواح معانيه، وأن تعبث بمفاصله وتبعث فيها رعشة التفككِ، أي أن تفيض في واقعها فيوضاتٍ تجرِف فيه جذور المتشابِهِ والمحايِدِ والخائفِ والنهائي والمطمئن والرسمي والمتعالي. ليست للشعر أحزان «قفا نبكِ»، وهو ليس كتابةً مرِحةً لقتلِ الوقتِ الفارِغ. الشعر لا يملك وقتًا ليبدده. و»الحدث الشعري ليس له ماضٍ» كما قال غاستون باشلار. إنه اختطاف للألفاظ وتحويل لوِجهتِها كي تتخلى عن تاريخ استعمالها في كثير من التضحيةِ. لذلك فالشعر لا يكون إلا لغةً بِكرًا لمعنى بِكرٍ، لغةً خارجةً على الخارجِ، وخارجة على تاريخها، لغةً حيةً تقول معناها بلا حياءٍ، وتطرد الموت لتجعل الحياة كلها فجرًا، وفق عبارة محمود المسعدي. والشعر الشاعر أيضا هو ذاك الذي لا يفاوض ولا يستنكر ولا يبكي على ماضٍ تليدٍ، وإنما يكتب حال اللغةِ وهي تحارِب عجزها بعزمٍ ممزوجٍ بمعاناةٍ، وبنشوةٍ ممزوجةٍ بشك، وبسعيٍ إلى المطلقِ ممزوجٍ برهبةِ العدمِ. الشعر محارِب ومحارب، وأول حروبه مع ذاته: وليس له في حروبه إلا أن ينتصر فيها أو أن يحيا فيه الموت.
ما لا يمكن تجميله
غير أن ما يوصف به الشعر لا يحققه الشعر العربي الراهن الذي بدا في منجزه العام يداري شيخوخة كيانه منذ القرن الثالث عشر ميلاديا، حيث ظل يخفي تعطل وظائفِ حواسه عبر إخضاع جسده لعمليات إحياءٍ وتجميلٍ ــ يسميها نقاده تطورًا. فليكن ــ تأكد حضورها مع موشحةِ الأندلس وبلغت عنفوانها مع قصيدة التفعيلة ومشتقاتها وانتهت بالنثرةِ الرائجة اليوم. ولكن هل حققت عمليات التجميل أدبية الشعرِ؟ وهل يمكن أن يحيل النثر الشعري على خروج الشعر من دائرة جنسه وعودتِه إلى الكلام المشترك الذي أشار إليه ابن رشيق في عمدته حين قال: «وكان الكلام كله منثورًا، فاحتاجت العرب إلى الغِناء بمكارم أخلاقها، وأطيبِ أعرافها وذِكرِ أيامها الصالحة، وأوطانِها النازحة، وفرسانِها الأنجاد، وسمائحِها الأجواد لتهز أنفسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشيِم، فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام، فلما تم لهم وزنه سموه شعراً لأنهم شعروا به، أي: فطنوا»؟ وأضيف: هل مازال جسد القصيدة العربية يتحمل عمليات الشفط والشد والتليينِ بعد أن غزاه الترهل وقلت فطنته؟
تموت القصائد ويبقى الشعراء
قديمًا، وإلى حدود لحظةِ محمود درويش، كان يموت الشعراء لتبقى قصائدهم؛ مات جبران والشابي والسياب ودنقل والبردوني والفيتوري وآخرون كثر وبقيت قصائدهم تتلى بين الناسِ، واليوم تموت القصائد ليبقى شعراؤها (بلا قصائد)، تذكر أسماؤهم وتنسى قصائدهم. أعرف أن هذا القول سيزعِج طمأنينة أصدقائي الشعراء لما فيه من تعميمٍ، ولكني سأتكئ على ما يبيحه التعميم من فضاءٍ تأملي، لأقول إنني أرى المشهد الشعري العربي كالتالي: ثم شيء يركض، يركض بسرعة إلى الأمام وبدون التفاتٍ، وهناك قصائد عربية تجري وراءه عاضةً على تلابيب جملِها، وكلما انقطع نفس الواحدة منها سقطت لاهثةً، فتمر فوقها أخرى وتجري خطواتٍ ثم ينقطع نفسها وتتعثر فتسقط قربها، وهكذا يتواصل اللهاث والسقوط حتى تكتمل اللوحة بنصوصٍ شعريةٍ مكدس بعضها فوق بعضٍ، مليئةٍ بالندم والحسرةِ والعزلة، ويبقى شيء ما يركض مبتعدًا عنها كالطيف، يبتعد ولا يلتفت ولا يلهث. ذاك الشيء هو ماضي القصيدة الذي يسبقها. قصائدنا الراهنة تجري خلف ماضيها، تريد استعادة مجدِها الثقافي الساكنِ في لاوعي كتابِها؛ تريد أن تستعيد الروح الرمزية للقول الشعري ووظيفته الاجتماعية وقداسة قائله. إنها معنية بماضيها أكثر من حاضرها الذي استعصت عليها قراءته؛ وإذ تضيع جهدها الإبداعي في استصلاح الموجودِ، ذاك الذي هو مكتوب في الأذهانِ قبل أن تكتبه هي، فإنه لا يبقى لها من جهد لكتابة ما لم يكتب بعد؛ الخلق. وربما بسبب ذلك يجوز فيها القول إنها صنيعة خيالٍ حنِينِي يتحرك خارج وقته، ومثقلٍ بعذاباتِه التاريخيةِ، خيالٍ يتمنى صاحبه أن يرجع إلى العصر العباسي ببدلة «غوتشي» وربطة عنق ليمارس ألعاب الغزل والمدح والهجاء والاعتذار والرثاء، بل قل: صارت القصيدة جهازًا للتحايلِ على اللغة (وعلى قارئ اللغة)، فلا تقول الشعر وإنما تقول شيئا آخر تجهله هي ذاتها، هو شيء لا يشبه الشعر، وإنما يتسمى به تسميةً مجانيةً بلا جوهرٍ: شيء هراء (يبدو أن الهراء صار غرضا أثيرًا للقصائد العربية). وحول أكداسِ تلك القصائدِ يتقاتل الشعراء، يقتل الشاعر الشاعر خارج اللغةِ، يقتله ليفوز بحصتِه من مآثر الشعرِ الساكنةِ في لاوعيه التاريخي، بعد أن يئس هو من قدرته على السكن بنصوصه في بيت المستقبل. والحق أن ما يؤرق في القصيدة العربية الراهنة، بدون بلوغ التعميم فيها، أمور منها قِلة حمولتها الرمزية، والمبالغة في الغموض حد التعمية، هذا فضلا عن خلوها من الإيقاع، وكثرة أخطائها اللغوية، وإفراطها في الذاتية. وهي أمور جعلت ما يكتب من الشعر الآن إنما هو نص واحد بعناوين مختلفة.
تقديس الماضي
قد يقول قائل إن القصيدة لا تقدر على الانفكاك من إرثِ الماضي، لأنه جزء مكون لتاريخها، ومن ثم عليها أن تتواصل معه وتحييه فيها حتى لا تفقد هويتها الثقافية. وهو قول وجيه، وصورة وجاهته أن دعائم شخصية القصيدة العربية، وشخصية أي نص إبداعي عربي، إنما هي سليلة منجزات الماضي اللغوية والثقافية والسياسية والاجتماعية والجغرافية والعقائدية، وكل ما اتصل بحياة الإنسان العربي وصنع تاريخه وحاضِره. غير أن استفادة القصيدة من منجزات ماضيها لا تكون ذات دلالة وجيهة إلا متى اعتبرت ذاك الماضي «منصة وثبٍ» إلى المستقبل، والوثب حركة انقطاعٍ عن المكان وسلطته، إنه القفز ـ القطيعة الذي ينقلنا من نقطة معلومة إلى أخرى نجهل تحديدها قبلاً، هي نقطة مغامرةٍ في الزمنِ لا نملك معها إلا أن نتخيلها، بل هي نقطة خيالٍ محضٍ يفيض فيها الممكن الشعري بكل طراوتِه وعنفوانِه لفظًا ومعنى، قلت: يفيض.
تجاوز اليقين
قيل للعتابي: هل تعلم أحدًا لا عيب فيه؟ قال: إن الذي لا عيب فيه لا يموت أبدًا (ابن عبد ربه: العقد الفريد). وظاهر أن ما عناه العتابي بعبارة «لا يموت أبدًا» إنما هو الله، لأنه خالٍ من العيوبِ. ومتى حاولنا التوسع في دلالة هذه العبارة ضمن سياق ما نحن فيه، جاز القول إن النص الشعري الذي لا عيب فيه ليس إلا ذاك الذي لم يولد بعد، ولن يولد أبدًا، ومن ثم يظل في منأى عن يدِ الموتِ، فما الكتابة الإبداعية إلا إعلان النقصان وتمجيده. ولطبعِ النقصِ في كل فعل بشري، فإنه لا تخلو صنعة إنسانية من هناتٍ، ولا تتطور صناعة إلا بوعيِ الصانع بحدودِها، وبسعيِه إلى تجاوزها. ولذلك فإنه لم يبق أمامِ الشعر، في ظل هذا الانفجار الروائي الذي افتك منه قراءه ودارسيه، إلا الوعي بهناتِه، وتبين أسبابها للتحررِ منها. ولن يكون بمستطاعِ الشعرِ أن يفعل ذلك، في تقديري الشخصي، إلا متى آمن بضرورة أن تضخ القصيدة منه قوة ألفاظ عصرها وروحه المتمردة في مفاصلِ جملتِها الشعريةِ حتى تحيي خلاياها، فلا تتحول إلى كلامٍ عام تقوله العامة من المتكلمين. فوثبة الشعرِ إلى مستقبلِه تكون عبر سبيل محاربتِه كسله اللغوي وطمأنينته المزمِنة إلى مفهومِه، فلا يشيخ الشعر إلا جراء شيخوخةِ مفهومِه وأساليبِ كتابته، وإن ثبات المفاهيم هو ما يقتل المستقبل بدمٍ باردٍ. وعليه، فإن الشعِر منذور جهده اليوم للذهابِ بلغته بعيدًا حتى أطرافِ القول ــ لا أعني الهذياناتِ اللغوية التي تنشر هنا وهناك، فالشعر وعي بالمحوِ وليس محوًا للوعيِ ــ وفي تلك الأطراف ستتخلق أكوان له وسيعة وستتكون فيها مخلوقاته شفيفةً على غيرِ مِثالٍ، وجذلى بلا إثمٍ. ولئن كان معلومًا أن لكتابةِ الشعر مناخاتٍ وأمزجةً وأزمنةً تختلف من شاعر إلى آخر، فإن الشاعر المقتدِر هو ذاك الذي لا يكتب خارج مناخاته، أو يطوع ـ في حالات القسوة ـ مفرداتِ المتاحِ من حوله ليخلق بها مناخاتِه الكتابية، لأنه إن كتب خارج تلك المناخات صار مغتصِبًا للشعرِ، ومكررًا لذاته، فلا ينطاع له من القولِ إلا أرذله، وهذا ما سماه بارت «أزمة الكتابة» التي تظهر «عندما يجد الكاتب نفسه أمام خيارٍ قاسٍ: إما التكرار وإما الانسحاب».
ولعل الشاعر التونسي الراحل «أولاد أحمد» كان واعيا بضرورة مثل هذا الانسحابِ عندما قال: «إذا كان بعض الكتابِ يستطيعون الكتابة، فأنا أستطيع أن لا أكتب». وقد يخِف انصباب الشيخوخة على جسد الشعرِ العربي الراهن حين تقبل منظومات التعليم العربية ـ وإن بعناءٍ ـ استثمار نصوصِه الجديدةِ الجادةِ، تلك التي غلقت أمامها أبواب الإنشاد على كثرة صفاء أصواتِها، كخلايا حيةٍ لتجديد حياة العالم.
ولعل الشاعر التونسي الراحل «أولاد أحمد» كان واعيا بضرورة مثل هذا الانسحابِ عندما قال: «إذا كان بعض الكتابِ يستطيعون الكتابة، فأنا أستطيع أن لا أكتب». وقد يخِف انصباب الشيخوخة على جسد الشعرِ العربي الراهن حين تقبل منظومات التعليم العربية ـ وإن بعناءٍ ـ استثمار نصوصِه الجديدةِ الجادةِ، تلك التي غلقت أمامها أبواب الإنشاد على كثرة صفاء أصواتِها، كخلايا حيةٍ لتجديد حياة العالم.