حين اقتنعتُ أن القلق استقرّ نهائيا بسبب وقاحة ضوء البلدية في الشارع العام، قمت ووقفتُ إلى النافذة ـ الباب أفكّر في حلّ. لو كان معي بندقية الآن، لصوّبتُ على المصابيح الكروية الثلاثة ولأرديتُها، الواحدَ تلو الآخر، قتيلة ! لو... لو خطر في بال ألمانية في مثل حالي، فكرة من هذا النوع ـ وهو أمر محال ـ أفلن يعتبروها مختلّة عقليا، مرشّحة للإقامة في مصحّ مجانين ؟
لكني لستُ تلك الألمانية ولستُ مختلّة على ما أعتقد. كل ما في الأمر هو أن العنف فقد بالنسبة لي، بالنسبة لنا نحن أبناء الحروب بشكل عام، كل سطوة، كل هيبة، كل هالة، وبات سخيفا، عاديا، يخالط التفاصيلَ اليومية للحياة. في ذاكرتي عددٌ لا يُحصى من الذكريات عن أناس قتلوا لأتفه الأسباب أو حتى من دون أسباب. هؤلاء لم يقعوا ضحايا الخطف والتعذيب والقتل قنصاً والقصف والتفجير. هؤلاء كانوا ضحايا توترٍ عصبي وأمزجة مكدّرة وواشمئزازٍ من العيش وتعنّتٍ وكبرياء وأمراض نفسية وتشوّهات أخلاقية.. و...
لا أدري ماذا فعلتُ بالعنف الذي عايشتُه في بيروت خلال عشر سنوات. لا أعرف كيف لم أختنق به كما يغصّ مريضٌ بقيئه فينقطع نفَسُه ويموت. حين هربتُ إلى باريس، خلتُ أني خلفتُه ورائي. لكني أخطأتُ الظنّ. إلى أن خرج من بطني ذات يوم، كثعبان عاش فيّ مختبئا زمنا، كثفلٍ ركد دهرا في القاع. أدركتُ ذلك حين كتبتُ روايتي "يا سلام". اشتعلت الحرب عام 1975 و"يا سلام" وضعتُها عام 1998. إنها أقبح وأقسى ما كتبتُه على الإطلاق. خرج الثعبانُ مني أخيرا وبقيتُ ساعات بحالها أرتعد وأبكي وأتمخّط، لا خوفا، بل ذعراً ممّا كان قابعا فيّ من غير درايتي...
أفكّر بما عساني أفعل الآن والساعة قاربت الرابعة فجرا. فأنا لا جلد لي على مشاهدة التلفزيون، ولا طاقة لي على القراءة، والكومبيوتر لم يزل معطلا، أعني أن يونس المسؤول عن التقنيات في "بيت الأدب" ما زال في بطن الحوت يتصارع وإياه علّه يُنطقه بلغتي أخيرا فيجبره على أن يكتب بالعربية جملا مفيدة، وليس أحرف منفصلة متجاورة لا رأس لها ولا كعب. لا بأس، أعالجُ القلقَ بالكتابة، وأستبدلُ التكنولوجيا بقلم رصاص...
السوبرماركت
أمام زاوية المياه المعدنية، وقفتُ نصف ساعة أحاول إيجاد كلمتين: الأولى "غاز" و الثانية "بلا" أو "بدون". وحين لم أوفق، قلتُ لا بأس أشتري المياه الفرنسية "فولفيك" أو "إفيان". ولكن، لمَ أشتري مياها فرنسية غالية الثمن وفي ألمانيا مياه بسعر أدنى على ما أرى ؟ استنجدتُ برجلٍ واقف بقربي فراح هو أيضا، مع أنه ألماني، يتفحّص القناني على اختلافها. قاطعتُه بعد أن نفد صبري وسألتُ: ما معنى "ويذاوت" فأجاب "أوين". قلت شكرا، واخترتُ من القناني ما وجدتُ مكتوبا عليه "أوين". "أوين" ماذا، لا أدري. ولكن، منطقيا، مما سيخلو الماء إن لم يكن من الغاز؟
لا أدري ما هي هذه العادة في عدم استخدام لغة ثانية، في ما عدا الألمانية، على الشروحات الملصقة على السلع استهلاكية (وغير الاستهلاكية). في النهاية، لمَ لا ؟ ألا أغضب أنا لاضطراري دوما إلى مكالمة الآخرين بلغتهم ؟ ألا أقول في دخيلتي مستاءة: ولمَ لا يتكلّمون هم لغتي ؟ ألا يكون من فرض لغتَه على الآخرين قد فرض احترامَه وثقافته وهيمنته على العالم أيضا ؟ ها أنذا مثلا قد تعلمتُ اليوم ثلاث كلمات: "فاسر" وتعني الماء، "كوهلينساور" وتعني الغاز، و"أوين" وتعني "من دون". لكن، بقي عليّ أن أتعلّم كيف أدخل إلى عقل البائعة الجالسة إلى الصندوق كي أفهمها بأن سعر القنينة ازداد فجأة 25 سنتيما. المهم، بعد قيل وقال وأخذ وردّ شارك فيه جميعُ الحضور، فهمتُ أخيرا أنه نوع من الرهن نستعيده حين نعيد الفراغ.
برافو للاعتناء بالبيئة والاقتصاد. لكن، لا بأس من تعلّم لغاتٍ أخرى، فهو مما يقال إنه ينير العقول ويشحذ الأذهان !
الأصيل
في مثل هذه الساعة تصعد أمي في منزلنا الصيفي القائم في قريتنا البعيدة المنبسطة على كتف الجبل، إلى السطح. تنظر إلى الوادي عن يمينها أو إلى سفح جبل الأرز، فيما هي تدخّن سيجارة أو تتلو مسبحة تحت العريشة التي زرعتها بيدها الخضراء في متر مكعّب، فنمت وعربشت وامتدّت لتغطي السطح. في مثل هذه الساعة، تكون قد أنهت أعمالها اليومية ورأت أنها، مكافأةً، تستحقّ لحظات هدأة ووحدة وسكوت. دائما تخترع أمي لنفسها أعمالا. ويوم تتوقف أعمالها، أعتقد أنها ستموت... يا الله، يجب أن أتصّل بأمي. فها أنا الآن على حافة البكاء !