” فرات ” متشابهة أيامه تمر رتيبة، وئيدة لا تكاد تختلف في كل تفاصيل
ل استعداده للذهاب إلى العمل مثلا فهو بعد أن ينهي طقوسه الصباحية تلك، يقف ذلك”
الفرات “لدقيقتين أمام المرآة يحدّق مليّا في تُفَيْصلات قسمات وجهه فيتوسّم في نفسه الوسامة عنوان الطيبة والإنسانية، يمنحه هذا الشعور الحبور والغبطة والفرح فيبتسم لذاته في ذات المرآة ابتسامة مطمئنة. يغادر.
الفرات “لدقيقتين أمام المرآة يحدّق مليّا في تُفَيْصلات قسمات وجهه فيتوسّم في نفسه الوسامة عنوان الطيبة والإنسانية، يمنحه هذا الشعور الحبور والغبطة والفرح فيبتسم لذاته في ذات المرآة ابتسامة مطمئنة. يغادر.
قبل رجوعه مساء يمرّ بمقهى الحي ينفق من الزّمن ساعة للمرح كسرا لتلك الرتابة رفقة أصدقائه، ينسى معها تعب النهار. يعتقد “فرات “كما أصدقائه أنه من الرائع وجود أجواء للمرح في وقت تسود فيه عيوب كثيرة وأسباب شتّى للنكد. من الخطأ أن يظن المرء أن السعادة أو المتعة، لا يمكن اكتسابها. هو يحب بعض المزح والفذلكة لفلاحته أقاصي ذاته، مقاومة للحزن المقيم في شِغافِ قلبه، يخزه مع كل نبضة مهدّدا إيّاه في كل لحظة بالانهيار.
كان” فرات” أكثر أصدقائه إيجابية حين تشتدّ بهم الملمّـات والشدائد، وما أكثرها عند أكثر تلك المواقف حَرجا وشدّا للأعصاب. يحدّث ” فرات ” كل وجه من تلك الوجوه الصديقة التي يقابلها بما يجيش في نفسه ونفسها. يتنفّس. يعود إلى بيته وصوت” فيروز “يجوب في خاطره “يبكي ويضحك… لا حزنا ولا فرحا ” ويترحّم على روح الشاعر بشارة الخوري لأنه اجترح من كلمات ما تفصح عما في جوارحه هو … أرواح المجاريح تتنادي وإن تشظّت المسافاتُ والأزمنة.
الظلام يسيل كبقعة نفط ويتمدد كظل عند الظهيرة… هناك في الركن الأيمن من غرفته بين جدارين متجهّمين أمسى المكان غواية دمع لا تشفى الحكايا، موسيقي يترنّم على إيقاعاتها ترنّم شقاء، تجيد البدء والانتهاء … إيقاعات تنبعث كالنار من كثافة الألم الصامت والصارخ… إيقاع جارحٌ وغمْغَمَة دمٍ… يا للقصص! إنك لا تتقن غير قصيدة .. أو بعض موت.
إنها تُـمطر حين نَصمت. الدموع دليل على ماضٍ مائي . الدموع شقيقة المطر…. الصمت ليس سكوتا ولا هو ” حفظ للّسان ” وما تحمله الكلمة من مدلولات الحكمة والتريث، الصمت هو القبول بالأمر على علاّته، هو التسمية الأخرى حين تـمطر في شعاب صحاري ذواتنا البعيدة… البشر أصلا، هم تسمية فريدة وسريّة للمطر.
يقرّر الرجل أن يصرّف حزنه من أبواب عِدّة، كل مرّة تهبّ فيها رياح الأسئلة حول كل قديم. للأسئلة مكرها كما ” للتاريخ مكره ” ومكارهه، فهي حرّة متى تأتي ومتى تغيب. أحببنا أم كرهنا… وحدها التجربة كفيلة بقلب يجيد القبض على ماضيه . يحدث للتاريخ، تاريخنا الشخصي الذي لا يمكن الفكاك منه ولا مجال للوقوف أمام حيله أن يصحينا ليكسرنا … كم هو بحاجة لدمعة على هيئة أنثى وذاكرة لا تتذكّر!
كل مساء يوقد” فرات “شمعة تبدّد ذلك الظلام، ويقف أمام المرآة ينظر إليها بغير هدى. يتراءى له مشهد طفل خُيّل له في اللّحظة أنه يجلس القرفصاء يبكي مرتعشا… مشهد يتعذر محوه من المشاهد الأخرى.
كيف السبيل إليه؟ كيف السبيل إلى والديه؟ قد يكونا والداه دخلا عالم الصّمت الأبديّ. كل ما يتمنّاه أن يكونا على قيد الحياة، أن يكونا على أي بقعة من هذا العالم حتى يتسنّى له رؤيتهما، ولا يأمل في الحصول على شيء غير ذلك.
ينتظر أجوبة لأسئلته المتدفّقة… لكن فكره المشتت يعجز أن يوافيه بها. لا أجوبة. يدق الصمت مسماره. مزيد من الصمت. مزيد من الذهول. مزيد من الذبول والحيرة. ينقبض قلبه ولا يقبض على شيء . الذات المشتّتة تطرق أبواب العدمية والتيه . لا سبيل إلا الصّمت. الأحاجي، المزح، الأغنيات، الموسيقى… كلها إبداعات لقتل الوقت واستباحة الظنون.
” فرات “طفل من دون أم ولا أب، يتيم كامل اليتم. كبر وهو لا يراهما ولا يسمعهما، استيقظ وجد نفسه في شارع مخيف منكمشا مرتعدا، كاد أن يجمّده البرد. التقطته عائلة تكفّلت برعايته ومكّنته من إدراك أسمى الدرجات. أتاحت له فرصا يحسد عليها، ورغم ذلك لم يشعر يوما بانتمائه إليها بل كان جرحه كل يوم يتّسع ويزيد مما جعله يعيش في ركن فاخر من الظلمة.
جرحه جعل عقله مشطورا إلى نصفين. نصف مذعور في حلكة الظلام، ونصف يشرد إلى البعيد في عزّ النهار.
غصّة في القلب المشتت بين وجوه الهُنا والهناك.
الليل تاريخ الحنين …. الليل الذي يغمره خفقان أجنحة الصامت.. في الليل يكون” فرات “أكثر حيرة في تشتته بين الوجوه والعطور. وجوه العائلة الغائبة وعطرها ووجوه العائلة الحاضنة وفضلها.
من غير الليل يكتم أسرار المحرومين وخفايا البائسين؟ ومن غير الليل يفكّ أختام القبور ويـمطّط دهر المواجع؟
في كل مرة يقف أمام المرآة يغربل نفسه ويغيب فيها. بعد دقائق صمت يخاطب نفسه كما لو أنه سواه:
الحال لاتزال كما هي… لا شيء يتغيّر وكأني على جزيرة منسيّة… خطوات قدماي متراوحة بين خطوة إلى الأمام وخطوة بالذاكرة إلى الوراء… لا شيء يتغيّر طالما هناك حنين يتلصص من الثقوب.. طالما هناك قطعة يمتلكها منا هذا الحنين ولا نملكها، لا شيء غيري وما أفكر… لا شيء غيري وهواجسي. أنا لا غيري… لا شيء … أبكي، أنتحب، ألعن، أتعرّى، أتمتم … أغني بصوت مسموع من دون أن يسمعني أحد” :يبكي ويضحك لا حزناً ولا فرحاً كعاشق خطّ سطراً في الهوى ومحا … فالروض مهما زهت قفر إذا حرمت من جانح رّفّ أو من صادح صدحَ”.
هذا أنا، من دون أن يعلم بي أحد … لوحدي غارق في اللحظة، لا شيء يرحل ولا شيء يعود وكل شيء يرجعني والزمن يضرب بسيفه بلا رحمة … هذا هو “فرات “… هذا كل شيء. ولا شيء أقلّ من هذا … هذا هو أنا.
إنه لا يتذكّر متى بدأ يتحدث إلى نفسه بصوت مسموع، من المحتمل أنه بدأ يفعل ذلك منذ أن استعبدته تساؤلاته الثّقال، إجاباتها الغارقة في عمق سحيق.
على ذكر الحنين … لقد تذكّر اليوم حديث صديقته البارزة الصدر والجميلة الوجه، يتدفق من عينيها سيلا من حنان وطفح من حزن مستغربا من قولها بأنها لا تعاني من شيء اسمه حنين..
قائلة:
إصلاح الموجود خير من البحث عن المفقود… لا شوق يدمعني… كل ما ينتمي للماضي ذاب كما تذوب الأحجار في الأحماض أو تحول رمادا… من يدري … نثر وغرق في البحر أو رحل إلى مكان لا أعرف موقعه على وجه الدقة، مكان ليس فيه من هادٍ أو دليل، ما يربطني به صور متقطعة، صور ميتة، صور فقدت حيويتها… كأني انبعثت من جديد من الرماد فعدت نحو أعماقي الأولى.
مضيفة:
الكل ينتظر إلاّ أنا … لست أنا من تنتظر صدفة طائشة ترسم لقاء على كرسي يتّسع لشخصين، الانتظار أشواك تسدّ طريق الصباح وتدمي الهواجس… لست بحاجة إلى روح متعاطفة تنحرف عند أول منعطف… تجتاحني الرغبة لأُبقي الوحدة لي معطفا اجتنابا للمنعطفات واقتصادا في الانحناءات التي تكسر الظهر حتى لا أشعر بعدها بانقباض عاطفي… الزمن لا يتعاطف ولا ينحاد عن مساره. الانتظار ورطة.
ما أجمل أن أنتظر اللا أحدا!
يتنهد ” فرات “ثم يستأنف مخاطبا نفسه كما لو أنه ليس هو إيّاه:
كما لم أكن أكثر إيجابيّة في أكثر المواقف حرجا، وما أنا إلا ذلك الذي وجد نفسه فريسة لقوى غريبة تثير فزعه… كأني أنا لست أنا ذلك المفلس دائما، إخلاصي الذي ينير وجهي كما يقال عني دائما وما أنا إلا رقم وضعته أيادٍ خفية في حساب لا يعنيني، وما ينير وجهي إلا لهيب هادئ لحرائق تَشُبُّ فيّ كل ليلة لا خلاص منها، كأني لست أنا الذي ينظر كل يوم في صورة وجهه يرى فيها الأشياء في ضوء مختلف وما أراه ليس إلاّ شريط الحنين الذي يلفّ ذاكرتي. الحنين لمن له ماضٍ ولمن يتوق لاسترجاعه حتى ولو بالذاكرة، منهم من يرى فيه متعة رغم ألمه، وأنا أرى فيه إنجازا، وصديقتي تقول إنّها لا تحنّ لشيء… ما أعْقدَه من تناقض!
يتساءل بصوت منخفض:
كيف لنا تقبل ما بقي عوضا عما رحل والزمن لا يحيد عن مساره؟
أيعقل ألاّ يكون لها تاريخا رغم تفاصيلها المثيرة؟ هذا ما يبدو لي غريبا حقا! أليست الذاكرة هبة وصديقة الحقيقة والنسيان عدوها؟ من ينسى تاريخه ومن لا يعمل على إحيائه فهو صاحب ذاكرة ناكرة ويحمل عقلا دون قلب.
الكل ينتظر إلاّ هي. هي لا تشعر بحنين تجاه أي شيء. يا إلهي! لم أتوقّع أن أسمع منها شيئا كهذا!
المفاجأة دائما في القول غير المنتظر. يبقى لكل واحد ركن خاص لأسراره وما من أحد يمكن أن يتصور إلى أي مدى يمكن أن يكذب المرء حول مشاعره. الحنين … ذلك الوحش جعل حياتي على رأس منزلق.
يسير” فرات “إلى النافدة يظل واقفا برهة يطل من خلالها… كانت المباني القائمة على جانبي الطريق المقفرة تجاورها مجموعة من أشجار” الفيكس “الرشيقة المحتفظة بخضرتها الدائمة، تكوِّن سقفا طبيعيا على طول الطريق، خضرتها تسبح في سيل من أشعة القمر في سكينة تشمل جوف الليل… في صخب النهار، كل الأشجار تسقط ظلالها تحتها … على الأرض.
كل شيء أخلد إلى الراحة. هو الآخر عليه أن يأخذ نصيبه من الراحة.
يأوي إلى مضجعه. يغرق في بحر النوم بعد تساؤلاته وجسّه تُفَيصلات تقاسيم وجهه التي تجعله كل ليلة مقعدا. أسبابها ليست مجهولة والمفقود لا تعويض له. ينبلج الصبح، يصحو بعدما ابتلع النوم بؤسه ورجعت روحه وكر الضلوع.
السقف اللئيم يغتصب نظراته الباحثة عن الانطلاق كقطار يهمّ بمغادرة أوّل محطة للملل.
ينهض يرتدي همومه ليبدأ رتابته القديمة المملة في إعادة كرّة الدوران حول نفسه في يوم جديد… الرحى تدور وللطواحين حكاية.
ككل يوم يقف” فرات “أمام المرآة … يلقي نظرة عجلى يخشى كواسر الليل: الوحشة والغربة.
يحمل جسده ويغادر مدندنا أغنية من فيروزيات الصّباح.
” طير يا طاير على أطراف الدني لو فيك تحكي للحبايب شو بني يا طير..”
ياسمين خدومة