"شهريار يصعدُ الزّقورة" عنوان مراوغ قد يحسبه القارىء عتبة تفضي به إلى فضاء رواية، لكنه في حقيقته كبساط ريح يجول بقارئه في عوالم روائيين رجال، فالكاتبة السورية نجاح إبراهيم ترفده بعنوان فرعي يفسره "قراءة في السّرد الرّوائي الشهرياري"، ولم تكن المخاتلة في العنوان فحسب بل فيما يحيل إليه، فشهريار يستدعي شهرزاد وحكاياتها، لكنه هنا لا يسمع لها بل نراه مشغولا بارتقاء الزقورة، وهي درج صاعد إلى السماء طلباً للوصول إلى الأعالي، يعود تاريخيا إلى عصور السومريين والبابليين والآشوريين.
فكأن شهرزاد التي جربت مشقة الحكي لألف ليلة وليلة، تتبادل الأدوار مع شهريار، فتمتطي في مقصورتها بينما تتابع سعيه لارتقاء درجات الزقورة/ صهوة السرد، وهو يحاول أن يطير فوق الدّرجات بجناحين من حلم وأمل.
كذلك تتمثل المخاتلة في الإيحاء بأن الروايات ذكورية حيث إن الراوي شهريار، لكن المقاربات حاولت تلمس الجمالي والفكري.
يمثل الكتاب واحدا من مؤلفات الكاتبة التي توزعت إسهاماتها بين السرد والشعر والنقد، وحظيت قصصها بجوائز وترجمات، وهي في كتابها الجديد تحاول "تسليط الضوء على سرد شهريار، من وجهة نظر شهرزاد التي مارست السّرد ذات زمن، ولا تزال، فهذه التي ستقول رأياً فيما سرد، ليست التي تخلصت توّاً من عنف السّيف، وليست التي جلست أمام الملك تروي حكاياتها بينما عيناها حفظتا عن ظهر قلب شكله ولون عينيه وعدد أهدابهما، هي ولا شك شهرزاد الكاتبة، تتعاطى الأدب كالتنفس، كما تتعاطى أبداً العزلة الموحية والوحدة المتألمة والحزن المتوارث".
لكن لماذا اختارتُ السرد الروائي لشهريار؟ تجيب في تقديمها للكتاب "إنه يعود لإيماني بأنّ السّرد الروائي فنٌّ يستطيع شهريار أن يروح فيه، إنه يشبه الفضاء الذي يلبي الدّرجات السبع للزقورة، فضاء جميل، رحب، يستوعب كلّ فنون الإبداع الإنساني، ففيه القصّ والحكي، والمسرح، وفيه الموسيقى والشعر والتشكيل، فيه كلّ المحطات التي تأخذ بيد شهريار ليمضي صاعداً زقورته"؛ فتصبح كتابة الرواية بالنسبة له نوعا من أنواع الاكتشاف وتحقيق الذات، والتجديد، والدوافع هي إعادة النظر في الأمور، إعادة صياغة العالم من جديد كما يريد.
كما أنّ هناك "دافعاً قوياً هو فعالية الفناء، وسباق مع الموت الوشيك ومصارعة هواجس المرض والعجز والسقوط". ولكن أليس ثمّة دافع قوي لديه، هو أن يذوق العذاب والألم الذي غرسه في نفس شهرزاد القابعة تدفع السيف عن عنقها ليلة إثر ليلة، هذا العذاب المعاش ولد لديها طاقة لا تقدّر للسّرد والصبر"، فهل يستطيع شهريار البحث عن فكرة مغايرة، أو سرد مختلف؟ وأين يمكن أن يجدها؟ تبحث هي عن شهريار السارد وتقدم رحلتها.
• صانع سيرة الصحراء
آثرت الكاتبة أن تقدم رحلة بحثها عن شهريار السارد بحسب الترتيب الأبجدي لأسماء الروائيين أصحاب الأفكار المغايرة، فكان أولهم إبراهيم الكوني بروايته "من أنت أيها الملاك؟" التي يمتزج فيها الواقعي بالأسطوري، والواقعي بالميتافيزيقي، وهي تصف الكوني بأنه صانع سيرة الصحراء، فكل أعماله عنها، مشيدة بمفرداتها، ناهلا من أساطيرها.
تبدأ رواية "من أنت أيها الملاك؟" باستماتة بطله "مسّي" الذي يعني اسمه (مولاي) في لغة الأمازيغ، بتسجيل ابنه الذي اختار له اسم "يوجرتن" ويعني "البطل الأكبر" في لغة الأسلاف وعُرفهم، أراد أن يسجله في الدوائر الحكومية في المدينة، بيد أنّها لم تعترف بهذا الاسم، لأنه ليس من الأسماء المنزلة لديها.
ولأنّ "أسماء الأسلاف وصايا في عنق الأخلاف" فلا يمكنه أن يستبدل الاسم بآخر إذ يصبح بمثابة الردة التي يحاسب عليها المرتد، فسلك مسّي كلّ الطرق دون فائدة لدرجة أنه سلب منه اسمه أيضاً، فصار عليه أن يستعيد الاسمين معاً، في محاولة حثيثة للإعلان عن وجودهما، قادته المحاولة إلى "الباي" ليعقد معه صفقة، أن يكون دليلاً له في شركة استكشاف النفط في الصحراء، مقابل أن يحرّر له ابنه يوجرتن من المعتقل، كما وعده باسترداد اسميهما معاً.
وفي الصحراء وبعد الوصول إلى النفط يكتشف الأب أن الباي خدع يوجرتن فدله على الحجر المقدس، لذا يعم البلاء وتحل اللعنة حين يهرب يوجرتن من مسّي، وينتسب إلى عصابة مسلحة تقرّر نسف مكتب السجل المدني انتقاماً من مسؤوليه لعدم اعترافهم بالمهاجرين من الصحراء، والذين يمتلكون أسماء أسلافهم، وحينما تظهر للأب شجرة الرتم يدرك أنها تعني رسالة مفادها أنه مطالب بتقديم الإبن قربانا لأرواح الأسلاف الذين خانهم بكشفه عن سر الحجر المقدس، فيقوم بذبح الإبن.
• الهروب إلى الماضي
يقارب الكتاب تسع روايات لمبدعين من سوريا، في تسع دراسات منفصلة لكن تبين عن قواسم مشتركة تركتها شهرزاد الناقدة لفطنة القارىء، فرواية "حارس الماعز" لإبراهيم الخليل، تبين عن كاتب يحاصره الماضي، فأغلب كتاباته تتناول ذلك الماضي، وتحيله إلى عالم له رائحة حريفة، تشبه رائحة بئر مهجورة، مختلطة بعبق الخرافة، فهل هذه لعنة تتلبس الكاتب، أم حنين مفتقد لزمن جميل مضى؟ أم تنصل مما هو آت؟
وفي "الماءُ والدّم" لمفيد عيسى تعود الرواية للحظة انفصال سوريا عن مصر، فتفتح بوابة الذاكرة على أحداث عاصفة.
وفي رواية أيمن الحسن "أبعد من نهار" يعود الكاتب إلى الماضي ليرصد تحوّلاً كبيراً، أو بالأحرى تحولين كبيرين في حياة مجموعة من البشر، أو مجتمع ما. والتحولان هما: احتلال القنيطرة من قبل العدو، ونزوح أهلها عنها، إلى حارة فقيرة التصقت بالعاصمة دمشق تدعى الزفتية. والتحول الثاني هو العودة إلى القنيطرة بعد تحريرها. فكأنه يهرب من حاضر قاس مفعم بالخوف، صورته روايات "أحلام منكسرة" لعيسى درويش، و"قلاع ضامرة" لعبدالرحمن حلاق.
وقد نجد في الرواية رصدا لهزائم الرّوح كما فعل عدنان فرزات في "جمرُ النكايات"، وأيوب الحجلي في "أبوابُ الرّوح السبعة" كذلك "شمسُ الدّين" لمحمد جاسم الحميدي، الذي يقول نصه "لا شيء يعود إلى الوراء، والزّمن عظمٌ نخر لم يكتس لحماً، ولن ينهض من رقدة" لكنه يعود بنا إلى ماضي هؤلاء الذين اختارهم وانتقاهم، ليصنع منهم أسطورته بعد أن نهضوا من أجداثهم. اختار لهم أرضاً أطلق عليها، اسم شمس الدين، وسيّر إليهم شيخاً يدعى إبراهيم، ما ترك فيها ستراً إلا كشفه، ولا أكمة إلا علم ما وراءها.
ترى الكاتبة أن واسيني الأعرج يصنع نصوصه من تغاصن الشخصيات والأجناس الأدبية، فهو يتكئ على شخصيات واقعية ينتشلها من التاريخ الجزائري، شخصيات مهمة لها وقع بين فئات الشعب، ثم يخلق شخصيات أخرى توازيها في الثقافة، وربما المكانة، وقادرة على الحوار معها. فالحامل الأساسي في نصوصه كلها هو المثقف، الشخصية التي يعتمدها محوراً لروايته. وشخصية المثقف هذه التي ينتقيها، كثيراً ما تكون الكاتب ذاته، يعطيها الكثير من آرائه وأفكاره؛ حتى سيرته الذاتية.
• أصابع لوليتا
وفي رواية "أصابع لوليتا" ثمّة كاتب يدعى يونس مارينا وهو يساري، يكتب مقالات تكشف فضائح جرت بعد الاستقلال، ويتخذ موقفاً رافضاً للحركة الانقلابية التي أطاحت بحكم الرئيس أحمد بن بلة. فهي شخصية مثقلة بالوعي، متسربلة بالتحرّر، بيد أنّ قدرها كان الهروب إثر ملاحقة الفئة الطاغية، استطاع يونس مارينا أن يهرب إلى أوروبا، وتحوّل في المنفى إلى روائي كبير، فروايته "عرش الشيطان" جعلته على رأس قائمة المطلوبين من قبل المتشددين.
ولم تكن الشخصيات التي تناولتها الرواية بأقل شأن من بطلها يونس مارينا، لقد زرع حولها شخصيات مثقفة تحمل مع البطل الكثير هموم الوطن لتمضي الأحداث إلى النهاية محققة هدفاً معيناً.
أما عن تغاصن الأجناس فرواية "أصابع لوليتا" تقدّم نصّاً إبداعياً مفتوحاً يجعله كاتبه خليطاً من كلّ الفنون والأجناس الأدبية، فهو يضعك بنصوصه أمام الأدب ورأيه فيه.
"تذكر مارينا يومها من أنّ في أعماق كلّ فنان شيئاً من حرفة الأدب". ويقول: "الأدب الجميل مثل الحب الخاسر لا يسعد فقط ولكنه يجنن صاحبه ومتلقيه أحياناً".
ومن ثمّ فحين كان كاتباً متمرساً فإنه لم يبخل في أن يبدي آراء أخرى حول الكتابة فيقول على لسان يونس مارينا لإيفا مترجمة أعماله: "جميل أن تكون الكتابة هي الحاسة التي توقظ أشياءنا الدفينة الرائعة، أو ربما تذكرنا أيضاً بوحشيتنا المقيتة وبأدفأ نقطة فينا أيضاً". (خدمة وكالة الصحافة العربية).