ريتشارد رورتي Richard Rorty، أحد أكثر الفلاسفة تأثيرًا في عصرنا، مات يوم الجمعة ــ أي يوم الجمعة 8 جوان 2007 بمدينة بالو ألتو Palo Alto بـ كاليفورنياـ بعد صراع مؤلم مع السرطان. ما سيتبع هو عمل افتتاحي لحوار طويل وواسع بيننا، لكن وللأسف تم التخلّي عنه في منتصف الطريق.
برؤيته الفكرية العريضة وأسلوبه النثري الرشيق، الفريد بين الفلاسفة الأكاديميين، رجّ رورتي الأشياء مثل قليل من معاصريه.
كان رورتي من بين الأوائل الذين عبروا الجسر (الآن صار يعج بالعابرين) بين مدارس ” الفلسفة ” ” التحليلية ” و” القارية “. لقد تنفس حياة جديدة في تقاليد الفكر البراغماتي، مدافعًا عن أفكار شخصياته المؤسِسة، وليام جيمسWilliam James ، وخاصة جون ديويJohn Dewey . كان ديوي في الوقت ذاته بطله الفلسفي وكذلك نموذجه للمثقف الديمقراطي الذي شارك بنشاط في المحادثة الثقافية في ذلك العصر.
تبع رورتي خطى بطله. على الرغم من أن تقاطعه مع الناشط ديوي لم يكن أبداً، إلا أنه كان صريحاً في المناقشات العامة حول مجموعة واسعة من القضايا. كان يراجع باستمرار الكتب ويعلق على المقالات والمجلات والصحف من أجل الوصول إلى عموم القراء، وليس فقط بقية الباحثين الآخرين.
” في المقالات المتعلقة بالتعليم العام، النزعة الأصولية للسوق، وحرب العراق”، لاحظ المؤرخ كيسي بليك Casey Blake مؤخرا، “برز رورتي كواحد من أكثر المثقفين العموميين بلاغة وحماسة… نموذجاً لما سماه مايكل والزر Michael Walzerمفكر يدعو مواطنيه إلى الظهور في مستوى القيم الأخلاقية التي يزعمون أنها عزيزة عليهم”.
تضمنت العديد من كتب رورتي الفلسفة ومرآة الطبيعة Philosophy and the Mirror of Nature (1979)، نتائج البراغماتية Consequences of Pragmatism (1982)، العارضية، والساخرية، والتضامن Contingency, Irony, and Solidarity (1989)، إتمام بلدنا: الفكر اليساري في أمريكا القرن العشرين Achieving our Country: Leftist Thought in Twentieth-Century America (1998)، الفلسفة والطموح الاجتماعيPhilosophy and Social Hope (1999)، ومع جياني فاتيمو Gianni Vattimo مستقبل الدين The Future of Religion (2005).
في العام الماضي قام الفيلسوف إدواردو مندييتا Eduardo Mendieta بتجميع مجموعة لطيفة للغاية من المقابلات مع رورتي بعنوان ” اعتنوا بالحرية والحقيقة ستعتني بنفسها ” Take Care of Freedom and Truth Will Take Care of Itself (حيث كنت سعيدا بإجرائي مقابلة معه تعود إلى عام 1989). وشهد الشهر الماضي نشر الفلسفة كسياسة ثقافية، وهو المجلد الرابع والأخير من أوراق رورتي الفلسفية.
بمنحها رورتي وسام توماس جيفرسون Thomas Jefferson في أبريل من هذا العام، أكدت الجمعية الفلسفية الأمريكية على “إسهامه المؤثر والمميز في الفلسفة الأمريكية، وعلى نطاق أوسع، في الدراسات الإنسانية.” واستمر عمله، كما جاء في الاستشهاد، في إعادة تعريف الفلسفة باعتبارها “من دون نهاية، نشاط متخصص، بشكل ديمقراطي، اجتماعي وثقافي للبحث والتفكير والتبادل …”
في تأبين الفيلسوف الألماني هانز جورج غدامير Hans-Georg Gadamerفي عام 2002، كتب رورتي أنه “يجسد بشكل حيوي كل ما هو أكثر قيمة في التقاليد الإنسانية الأوروبية.” ورورتي فعل الشيء نفسه بالنسبة للتقاليد الإنسانية الأمريكية.
لطالما أحببت ذكر وصفه عن النزعة الإنسانية بأنها الفكرة التي “إذا كان بوسعنا العمل معًا، فبإمكاننا تحويل أنفسنا فيما نحن أذكياء وشجعان بما فيه الكفاية كي نتخيل مصير ذواتننا”.
سنفتقده كثيرا بكل تأكيد.
داني بوستيل:
ما هو شعورك حيال الانخراط الحماسي لأعمالك في إيران اليوم؟ لقد دعيت لإلقاء محاضرات في طهران عام 2004 ووجدت اهتمامًا بالغا بما كنت ستقوله. وفي الآونة الأخيرة، التقيتم المنشق الإيراني أكبر غانجي Akbar Ganjiفي كاليفورنيا، وكان بينكما نقاش طويل. كنت في مكتبة بطهران في شهر مارس وشاهدت العديد من كتبك، بالإضافة إلى مجموعة من المقالات والمحاولات حولك، باللغتين الإنغليزية والفارسية. أتساءل ما ترى في كل هذا.
ريتشارد رورتي:
عندما زرت طهران، فوجئت حين سمعت أن بعضا من كتاباتي قد ترجمت إلى الفارسية، وكان لها عدد معتبر من القراء. شعرت بالحيرة من أن المناقشات الصعبة من النوع الذي يحدث بين الفلاسفة الأوروبيين والأمريكيين، والتي أنخرطت فيها، يجب أن تكون ذات أهمية للطلاب الإيرانيين. لكن استقبال العرض الذي قدمته حول “الديمقراطية والفلسفة” أوضح بالفعل أن هناك اعتناء شديد بالقضايا التي ناقشتها.
عندما قيل لي أن شخصية أخرى تناقش كثيرًا في طهران هي شخصية هابرماس، انتهيت إلى أن أفضل تفسير للاهتمام بعملي هو أنني أتقاسم رؤية هابرماس في يوتوبيا ديمقراطية اجتماعية. في هذه اليوتوبيا، فإن العديد من الوظائف التي يخدمها حاليًا الانتماء إلى جماعة دينية ستستبدل بما أسماه هابرماس “الوطنية الدستورية”. إن أحد أشكال الوطنية – التضامن مع المواطنين، والآمال المشتركة لمستقبل البلاد – ضروري إذا ما أردنا أخذ السياسة على محمل الجد. ففي بلد ثيوقراطي، يجب أن تكون المعارضة السياسية اليسارية مستعدة لمناهضة ادعاء رجال الدين بأن هوّية الأمة محددة من خلال تقاليدها الدينية. لذا فإن اليسار بحاجة إلى شكل علماني محدد من الحماسة الأخلاقية، متمركز حول احترام المواطنين لبعضهم البعض بدلاً من علاقة الأمة بالإله.
إن آرائي الخاصة حول هذه المسائل مستمدة من هابرماسHabermas وجون ديويJohn Dewey . في العقود الأولى من القرن العشرين، ساهم ديوي في خلق ثقافة أصبح فيها من الممكن للأميركيين أن يستعيضوا عن التدين المسيحي بالتعلق الشديد بالمؤسسات الديمقراطية (والأمل المتواصل على نحو مماثل لتحسين تلك المؤسسات). في العقود الأخيرة، كان هابرماس يثني على تلك الثقافة وأوصى بها للأوروبيين. في معارضة الزعماء الدينيين مثل بندكتوس السادس عشر وآيات الله، يؤيد هابرماس بأن البديل عن العقيدة الدينية ليس “النسبية” أو “اللاتجذير”، إنما الأشكال الجديدة من التضامن التي أصبحت ممكنة بفضل التنوير.
صرح البابا مؤخراً: “لقد تطورت في أوروبا ثقافة، وهي التناقض الأكثر جذرية ليس فقط للمسيحية، بل أيضاً لكل التقاليد الدينية والأخلاقية للإنسانية”. سوف يرد ديوي وهابرماس بأن الثقافة التي نشأت عن عصر التنوير قد أبقت كل شيء في المسيحية يستحق الحفاظ عليه. لقد جمع الغرب معا، خلال القرنين الماضيين، تقليدًا أخلاقيًا علمانيًا محددًا – تقاليد تعتبر الإجماع الحر للمواطنين في مجتمع ديمقراطي، وليس الإرادة الإلهية، مصدرًا للضرورات الأخلاقية. أعتقد أن هذا التحول في التوقعات هو أهم تقدم حققه الغرب حتى الآن. أود أن أعتقد أن الطلاب الذين تحدثت معهم في طهران، والذين أعجبوا بكتابات هابرماس واستلهموا من شجاعة المفكرين مثل غانجي Ganji ورامين جاهانبيغلو Ramin Jahanbegloo، قد يجعلون إيران في يوم من الأيام نواة للتنوير الإسلامي.
داني بوستيل:
لقد أشرتم إلى التعلق الشديد بالمؤسسات الديمقراطية الذي ساعد ديوي في ترقيته، وكذلك “الأمل المتحمس لتحسين تلك المؤسسات”. برأيكم ما مدى التحسن الذي تحتاجه مؤسساتنا الديمقراطية اليوم ؟ قبل ثلاث سنوات، تساءلتم عما إذا كنا نتجه صوب شيء أسميتموه “ما بعد الديمقراطية”.
ريتشارد رورتي:
قبل 11 سبتمبر، كنت سأقول بأن المجال الرئيسي الذي يجب أن تتحسن فيه المؤسسات الديمقراطية هو المألوف القديم: ينبغي أن نستعمل هذه المؤسسات من أجل المساواة في فرص الحياة بين أطفال فقراء وأطفال أغنياء. ويبدو أنه، يمكننا، مع نهاية الحرب الباردة، العودة إلى هذا البرنامج الاجتماعي ـ الديمقراطي التقليدي.
لكن بعد الحادي عشر من سبتمبر، أصبح من الواضح أن اليمين السياسي سيسعى إلى استبدال مناهضة الشيوعية بـ “الحرب على الإرهاب العالمي” كذريعة ليس فقط للحفاظ على الأمن القومي للدولة، بل لتقويض المؤسسات السياسية للديمقراطيات القديمة. فالمقال الذي نشره محرروا مجلة لندن للكتب تحت عنوان “ما بعد الديمقراطية” كان في الأصل بعنوان “مكافحة الإرهاب ودولة الأمن القومي”.
في الوقت الذي نشرت فيه هذه المقالة (أبريل 2004)، شعرت بالرعب من أن إدارة بوش ستحمل الرأي العام الأمريكي معها، وسوف تنجح في تنحية حريات المواطن جانبا. خشيت أن يجعل 11 سبتمبر من الممكن ما أطلق عليه الرئيس أيزنهاور Eisenhower “المركب الصناعي ـ العسكري” لتوسيع سلطته على الحكومة الأمريكية بكيفية غير مسبوقة. توقعت أنه إذا ما قام الإرهابيون بتفجير سلاح نووي واحد بحجم حقيبة في مدينة غربية، فإن المؤسسات الديمقراطية قد لا تنجو. وستمنح وكالات الأمن (المخابرات) في الديمقراطيات الغربية أو ببساطة تستولي على صلاحيات مماثلة لتلك التي كانت للغاستابو (Gestapo) و الـ ك. ج. ب. (KGB)
لقد تم الآن استنكار إدارة بوش من قبل الرأي العام الأمريكي، وستجعل كارثة العراق الحكومات الأوروبية المستقبلية مترددة بشأن اتباع القيادة الأمريكية. لكني ما زلت أعتقد أن نهاية الديمقراطية هي نتيجة محتملة للإرهاب النووي، ولا أعرف كيف أحذر من هذا الخطر. إن عاجلاً أو آجلاً، ستكرر أحداث 11 سبتمبر من قبل مجموعة إرهابية بشكل أوسع بكثير. أشك في أن المؤسسات الديمقراطية سوف تكون مقاومة بما يكفي لتحمل الضغط.
داني بوستيل:
هل من السليم القول بأنك تحولت قليلاً نحو اليسار خلال السنوات القليلة الماضية؟
ريتشارد رورتي:
لم أكن أدري بأنني انتقلت إلى اليسار، وأنا أشعر بالفضول لمعرفة كيف كانت لي القدرة على الظهور بما قمت به. عندما سمعت الأخبار حول البرجين التوأمين كان فكرتي الأولى “يا الله. سوف يستخدم بوش هذه الطريقة التي استخدم فيها هتلر حريق الرايخستاغ.” لم أفكر مطلقا في الجمهوريين في أي وقت منذ انتخاب ريغان كأغراب جشعين عديمي الضمير. فيما يتعلق “بالحرب على الإرهاب”، وصفت نفس المسار مثل الكثير من اليساريين الآخرين: لصالح الحرب ضد طالبان في أفغانستان وضد غزو العراق. فيما يتعلق بالسياسة الداخلية، ما زلت أؤيد غنى الأغنياء وإعادة توزيع المال على العمال (على الرغم من عدم تأميم وسائل الإنتاج). في المسائل “الثقافية”، مر زمن عندما كان لدي شكوك قديمة لم تعد الآن قائمة حول زواج المثليّين والمثليات. لكن هذا لا يبدو عليه الكثير من التحول.
داني بوستيل:
بعد وقت قصير من إرسالي له سؤال متابعة، تلقيت رسالة من زوجته مفادها أن صحته قد ساءت. ثم توفي بعد أسبوعين.
داني بوستيل كبير المحرّرين في Open Democracy الديمقراطية المفتوحة (www.opendemocracy.net) ومؤلف كتاب “أزمة المشروعية” في طهران: إيران ومستقبل الليبرالية. أجرى حوارا مع آرييل دورفمان Ariel Dorfman في العدد الصادر في ديسمبر 1998 من The Progressive التقدمي.