قال
عميد القصة أحمد بوزفور : إنّ القصة طفلة في الأدب.
لن يختلف اثنان حول جدوى
الأدب في الحياة ، بل لن يختلف اثنان حول المغزى ، الذي يحفره الأدب في وجدان
الإنسان عبر التاريخ . فما الإنسان إلا ذاك الكائن الحكَّاء ، الذي يتوسل بالظواهر
الأدبيّة ، بُغية أن يصل إلى أهداف و مرام محددة سلفا .
بالإضافة إلى أن الإنسان
لن يستطيع أن يتخلى قيد أُنملة عن جوهر الأدب ؛ بمعنى أنه يسعى إلى توظيف ، في
تواصلاته اليومية ، مختلف المكونات الأساسية للأدب . فتارة يصف و تارة أخرى يسرد
وتارة أخرى يحاور ؛ لذلك قال إفور ريتشاردز في كتابه " معنى
المعنى " : " إن الإنسان كائنٌ أدبيٌّ بامتياز" .
إننا بهذا الشرط نلج عالم
الحكي عن طريق جنس القصة القصيرة ، مادام الحكي شرطا وجوديا ، ومادامت القصة بؤرة
تنطوي على مختلف أجناس الأدب. فضلا عن أن القصة حوار و تشكيل دلالة و إبداع معان .
فلا غلو إذ قال بوزفور : إن القصة طفلة في الأدب ؛ لأن سوسيولوجية الطفولة
ترتبط ، في الأذهان ، باللعب و البراءة و مَيْعة الصبا . ومنه فنظارة الطفولة وجهٌ
آخرُ للجمال ، الذي لا يستقيم عوده من دون
هذه المرحلة العمريَّة ، التي يمر منها الإنسان . فالجمال في الحكي تختزنه القصة
القصيرة عن طريق الحلم المنيف ، الذي يراود شخوصها وأفضيتها و الطموحات الكبيرة ؛ التي تسكن
روادها .
ففي سبيل هذا المعطى ، نفهم أن
للإبداع تركيبا كيميائيا ؛ فهو مزيج من
التفاعلات و تبادل التأثير و التأثر واقتناص اللحظات الهاربة ، وكل هذا يجب أن
يصطبغ برؤية فنية مبهمة المصدر. بما هي اللحمة التي تخيط نسيج الإبداع . في هذا
السياق فالرؤية للعالم ، حسب لوسيان كولدمان ، هي رؤية فنية ـ جمالية
بالأساس . لذا ظلت القصة من بين الأجناس الأدبيّة الأكثر تجسيدا لهذا المعطى
الأدبي . علاوة على ذلك ، فالمسعى الرئيس هو الذي يسمح لنا أن نطل من خلاله على
مكونات الأدب برمته ، وتجعل من النص نصا أدبيا . فالرؤية الفنية ـ الجماليّة تبغي
بلاغة الإمتاع كشرط أساس في تحسين التلقي الإبداعي. بيد أن الإمتاع يجب أن
يكون حاضرا في القصة و الرواية و الشعر والمسرح والتشكيل والسينما ... فلا
يستقيم عود الجماليّة من دون بلاغة الإمتاع ، بما هي فصيل بلاغي بامتياز.
بالموازاة ، فالبنية و المكونات ، تخول لنا تأطير القصة القصيرة من حيث هي جنس أدبي . يضع هذا التأطير اليد على
أهم الأسس ، التي لا يستقيم فن القص من دونها . فكما يقول أحمد بوزفور : إن
القصة طفلة الشخصيات . فهذا يؤشر على أن هذه الأخيرة ، كمكون أساس في الحكي القصصي
، تقذف الجمال في سدى النص . بمعنى عندما تتناول القصة شخوصا منبوذة و مهمشة فهي
تصيّر القبيحَ جميلا . و يصبح لهذه الفئة المنسيَّة والمتجاوزة في النسيج المجتمعي
صوتٌ ومكان في التلقي القصصي . أو عندما تلهج القصة ، حسب بوزفور دائما ،
بماسحي الأحذية أو بائعي الضطاي أو الفراشين أو الشواش أو النـُدَّل ، فهي تسحب
بهم البساط نحو بقعة الضوء ، و تمسح على وجوههم غبش العتـْمة . غير أن الشخصيات
ذات تركيب مختلف و متباين ، يتمظهر وجودها في السرد عن طريق هذا الاختلاف ، الذي
يرمي بظلاله على المذاهب و الأيديولوجيات و الثقافات والحضارات الإنسانيَّة على مر التاريخ .
فلامناص إذن ، من البَوح بالدور الخطير الذي تلعبه الشخصية في نسيج السرد. علاوة
على ذلك ، فدينامو الحكي مصدره الرؤية التي تتمتع بها الشخصية للزمن و الفضاء و
الحدث السردي كمكونات أساسية في إبداع دلالة المحكي . فإبداع شخصية في القصة يكون
ارتباطها بالتاريخ ارتباطا قويّا ، حيث تصبح ، من هذه الزاوية ، وثيقة تاريخية
شاهدة على العصر . فضلا عن القص الذي يفيد من التاريخ بشكل مباشر .
إلى جوار ذلك ، يكتسي الفضاء القصصي وجها
آخر للمتعة الجماليّة ، التي يبتغيها المتلقي. إن الفضاء في القصة ينسجم والأحداث
، بل يتماهى معها إلى حد التلاحم و التواشج . فأفضية القصة تتراوح ما بين الحقول و
النجوم و المدينة و القرية و البادية و الشوارع والدروب و الأزقة ... تعكس ، بذلك ، وجوه شخصيات
القصة . وفي هذا المضمار يصبح الفضاءُ القصصي خاضعا للرُّؤية الفنيَّة على غرار
رؤية العالم . علاوة على ذلك يتحول الفضاء القصصي من مكان ضيق إلى مكان مفتوح وغير متناه أو العكس ، بما هو الفضاء الفني حيث
يرسم فيه القاصُّ الوجوهَ و الأمكنة والظلالَ . إلا أن الحيز في القصة يكتسي
خصوصيّة نفعية من جهة و إمتاعيَّة من جهة أخرى ، عندما يتحول إلى كائن يتنفس ويعيش
ويشرب ويتناسل أيضا ... فهو ينمو بنمو الأحداث ويخبو ضوؤه ـ أي الحيز ـ بتقلصها. لكن يمكن للفضاء ، حسب الدكتور عبد المالك مرتاض ، أن يُعذَبَ
كما يُعذَّبُ الكائنُ الحيُّ ، خصوصا عندما يجنحُ القاصُّ نحو الغابات
الكثيفة و الجبال الشاهقة ، والفلاة
الموحشة والفجاج السَّحيقة والكهوف المظلمة .
فهذه المكونات تدفعنا إلى الإقرار بأن الإنسان بحاجة ماسَّة و دائمة إلى الأدب بعامة وإلى الحكي بخاصة . ومن أجل ذلك فهو يتنفس عَبق
النشاط الأدبيّ الجماليّ ، سيما وأنه مُجبلٌ على العيش و التواصل الجيد داخل
مجتمعه و منظومته . فلدوحة الأدب ، إذن ، عريشٌ
وفيـْئ ممتد يسعُ لكل الحساسيات الإنسانيَّة ، مادام الإنسانُ مبدعا ؛ و
مادام الإنسانُ متفاعلا.