بعد أن أخذ الوسيط الالكتروني بتلابيب الحياة فصارت أغلب فعالياتها الاقتصادية والسياسية والتعليمية وسواها تتم بتقانة وكمال عبره، لم يكن بدًّا من أن يمتشق
الأديب يراعًا يضمن له الحضور ومن قبله البقاء في عصر الإنفو ميديا وأفقه الالكتروني، فبرز جنس شعري جديد ـ الشعر التفاعلي الرقمي ـ لرائده الدكتور مشتاق عباس معن.
وقد أثّرت الصدمة المعرفية التي أحدثها هذا الجنس الشعري الجديد في كثير ممّن اطلعوا على هذا الطرح الجديد على بيئتنا التي لم تنتقل من الشفاهية إلى الكتابية إلّا منذ زمن قريب؛ فكان الانبهار الذي تُرجم إلى مقالات وبحوث ودراسات أكاديمية وغير أكاديمية يفضح مدى التفاعل الذي أنتجه هذا الجنس الشعري المُبتدع، ويؤشر الرغبة العارمة في كسر قيود الوسيط الذي جثم على متفردًا على صدر مشاعر الشعراء وخلجات أنفسهم ما تجاوز الألفية الكاملة.
وصار الشعر التفاعلي الرقمي مادة البحث والتنقير والنقد والدراسة لغير دارس وأديب، وقد رُفدت المكتبة العربية ـ بحمد الله ـ اليوم بنتاج الباحثة الجزائرية فطيمة ميحي الذي وسم بـ “القصيدة التفاعلية الرقمية، مقاربات في البنية والدلالة ـ تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق أنموذجًا ـ” الصادر عن دار تموز ديموزي للطباعة والنشر والتوزيع في دمشق 2018م.
الكتاب في أصله رسالة جامعية قدمتها الباحثة إلى جامعة باتنة لنيل درجة الماجستير، وقد نوقشت في فبراير 2014م، من قبل لجنة من الأساتذة الأكفاء، والكتاب يرمي إلى لفت الانتباه إلى شكل شعري جديد أفرزه عصر المعلومات والثقافة الرقمية، ويحاول أن يجيب على جملة أسئلة تتمثل في:
ـ ما حقيقة الشعر التفاعلي الرقمي؟
وقد أجابت الباحثة بأن القصيدة التفاعلية حزمة من الفنون البصرية والسمعية، وهذا لا يعني أنّها نص لساني أُضيفت له لوحات فنية وأُرفق بمقاطع موسيقية، إنما هي نص معقد من تلك المكونات بوصفها متونًا متجاورة تحظى بالأهمية نفسها، مما يقلّص هيمنة المتن اللساني عليها.
ـ ماذا أضافت له التكنولوجيا الرقمية؟
وقد أجابت الباحثة أن خروج الأدب من أزمة التراجع والعزلة التي يعرفها مرهون بعقده مصالحة مع التكنولوجيا، واستفادته منها بالقدر الذي يحفظ له أدبيته، ويرتقي به ليواكب التطورات المتسارعة، ويضمن انجذاب المتلقي له.
ـ ما هي شروط إنتاجه وتلقيه؟
وقد أجابت الباحثة عليه بأن وظيفة المبدع لم تعد مقتصرة على التأليف فقط، إنما أصبح مطالبًا بالتأليف والتوليف معًا، ثم إن المتلقي لم يعد مطالبًا بقراءة النص المدوّن أو الإصغاء للشاعر وهو يلقي قصيدته، بل يتعين عليه أن يشاهد القصيدة التفاعلية الرقمية ويتفاعل مع فنون بصرية وسمعية مستثمرًا الإمكانات التقنية التي يتيحها الوسيط الجديد؛ لذا بات من الضروري قيام نقد يمكِّن من التعامل مع مكونات هذه القصيدة بأدوات تتلاءم مع طبيعتها الفنية والتقنية معًا.
ـ إلى أين يسير هذا الوافد الجديد؟ وهل يمكن أن ينسخ ما سبقه وتربع على عرش الكتابة الإبداعية؟ هل يمكن للكتابة الالكترونية أن تلغي أصالة الخط على الورق؟
وقد أجابت الباحثة عن هذه التساؤلات بأن الوسيط الالكتروني لن يلغي الوسيط الورقي، بل سيستمران جنبًا إلى جنب ما دام هناك تفاوت في القابليات والأذواق، ثم إن الشكل الجديد للقصيدة العربية ليس تجاوزًا للأشكال الأخر، بل هو إضافة تاريخية لها.
وقد كانت الباحثة بحق ناقدة فذة وعت النتاج الذي بين يديها فقدمت قراءة واعية تثري القارئ وتصلح لأن تكون مرجعًا للباحثين والمهتمين بهذا اللون الأدبي المتميز.