ليتك تعرفُ عِشقي لك بداخلي
أيها العزيز ليس له حدود !
ألستَ من فصّلت فيه سَلِمت يداك خير البنود !
كيف لا أذوب في حبّك و قد تعلمتُ منك كيف تُسقى
الورود !
ألبستني طوق الحمامة فسِرت مع السّرب محظوظ !
زُرتك أبحث عن آثار أقدامك فلم أجد سوى
أنها محفورة في قلبي تنير لي كل الدّروب!...
لا أعرف حقيقة لِما بدأت هذه المقالة بلُغةٍ
أدبيةٍ لا أتقنها و لست أهلا لها ، لربّما
هي الوحيدة التي بإمكانها أن تُعبر عن
عشقي للرجل الذي أحببته ،أليست لغة الأدب هي من ترسم لك ما في أعماق قلب و وجدان الإنسان و تعجز أن تقارب لك ما يصول في عقله و فكره؟... ومع كون هذا الطرح يصدُق على كثيرمن النماذج الأدبية فلاريب وجود كثير من الإستثناءات ، لا
أدلّ على ذلك من واقع الأدب عندنا،ممن أبدعوا بشعرهم في ملامسة قضايا مهمة ، من قبيل "محمد إقبال" المبدع بشعره في مقاربة القضايا الفكرية و الحضارية ، و لا من واقع الأدب عند غيرنا مثل الفرنسي "فولتير"
في مقاربة القضايا الاجتماعية و السياسية ، و الألماني " فريدريك نيتشه"
بشذراته في ملامسة القضايا الأخلاقية والوجودية....
بهذه اللغة بدأتُ ، لِشديد إعجابي بذلك الإنسان
الذي كُنت باحثا في أيام مضت في رسائله عن مواقفه و آرائه فيما يتعلق بعلوم
الأوائل ، تلك العلوم اليونانية العتيقة من فلسفة و منطق وطب و فلك و كيمياء و
خمياء... ؛ إنّ لغة العلوم التي قرأت بها
ابن حزم في كتاباته العلمية لم تكن جافة مُنفرة
ولم تكن مُكلِّفة و لا مُثقلة ، إنما كانت لغة حيَّة يحي من داخلها إنسان اسمه
ابن حزم قبل أن يكون فيلسوفا عملاقا و مُلمّا
بعلوم الأوائل . أما عن رسائله خارج
مناقبه العلمية كطوق الحمامة ومداواة النفوس
والمحلى و غيرها ، فأقل ما يقال عنه ، ما قاله "صاعد" في طبقات الأمم : أجمعُ أهل
الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعُهم مع توسعه في علم اللسان والبلاغة والشعر
والسير والأخبار.
ذلكم الفقيه الظاهري
القرطبي الأندلسي صاحب الحكمة و المعرفة و الدراية ،مَن وقف دائما كالأسد بين
اتهامات المشككين وخذلان الشامتين ، من تتعارك حوله اليوم الإثنيات لينتسب إليها
انتسابا ، لِسانُه
سليط مثل سيف الحجاج ،وذوقه رفيعٌ عذبٌ ليس فيه أُجاج ، ألم يخبرنا عن الأشقرلون شَعر
من عشقه ثم فقده و رحل ؟ ألم يكن خصما للفقهاء المتشددين من أحرقوا دفاتره و ألبسوه
كل التّهم؟ ألم يكن ندّا للفلاسفة المجانين من سبّوا الدّين و غّرهم حسن الكلام؟
ألم يزهد في الرئاسة و هو أهل لها و انكبّ على الدراسة فصار رائدها؟أرني كيف إذن
تذهب عني الهمّ و وتريحني من الغمّ؟ يا طارد الغمّ !
ستعشق ابن حزم لأنه الرجل الذي أفنى عمره و أتعب نفسه و أطال فكره ليُهديك عُصارة حياته كهديّة لا تقارن بكنوز المال و لا عروش
السلطان، فليس طموحه الصّيت و السّمعة و إنما كان
كل همّه وراء ذلك مداواة نفوسنا
المريضة التي تلهث وراء كل لذّة و متعة و تعشق كل لحظة ، وما يعقُب ذلك حزن عميق و
ألم شديد ، إمّا بذهاب ما نُريد أو ذهابنا عنه .
طردُ الهمّ من النّفس رسالةٌ حمَلها على
عاتقه بعد ما رأى أن الناس جميعا استووا في طلبهم ذلك ، فهم لا يتحرّكون حركة و لا
ينطقون بكلمة إلا لإزاحة الهمّ على نفوسهم ، فليس في العالم منذ كان إلى أن يَتَناهى أحدٌ يستحسن الهمَّ و
لا يُريد طرده عن نفسه . ومن منا لا تشغله كثرة الهموم التي تثقل أركانه و تسلب راحته
و تضعف أمله ، مَن ذا الذي لا يُحسّ بالغمّ في زمن عجَّ فيه الجشع والخوف و
الخيانة ؛ زمن لا ترى فيه ابتسامة بريئة إلاّ لماما ، وحتى تلك البريئة قد تواري في الأعماق سيل من المعاناة و الانكسارات يسري دواخلنا دون انقطاع؛ و قد تكون تلك الإبتسامة نفسها ، سببا
في تعاسة الاخر و إيذائه ، لأنهم صدَّقونا
و غدرنا بهم، وثقوا فينا و خُننا ثقتهم .
كيف لا تحسّ بالهمّ و أنت عاجز على أن تفصح بكلمة عمّا تريد ، فتحترق الكلمات بداخلك و يختنق القلب برماد حُروفها ، أليس هذا همّ و ألم ؟
لن أقول عنك يا عزيزي أنك المتشائم "شوبنهاور" من حَكم علينا بالشقاوة و التعاسة مدى حياتنا
مادامت طبيعتنا و ميولاتنا متعلقة بإشباع لذّات لا تنتهي و رغبات لا تتوقف ، حتى
وإن مَلكتنا لحظة سعادة سُرعان ما تنطفئ على وقع الألم والحسرة. ولستَ أنتَ من
حكمتَ على "سيزيف" بالعذاب الأبديّ ليَحمل على كتفه تلك الصخرة من سفح الجبل ويصعد بها إلى القمة و ما يكاد يصل حتى تسقط مرة أخرى ثم يضطرإلى دفعها ثانية إلى
الأعلى ، وهكذا حتى قُدِرعليه الشقاء إلى
الأبد ؛ أنت لستَ أحدا من هؤلاء و لن تكون مثل "سينكا" ...،لأن كل هؤلاء
المتشائمين لم يمنحوننا عُصارة حياتهم ، و
إن أهدونا عُصارة أفكارهم ، فكم هو حريّ بنا أن ننتفع من تجارب الحياة بدلا من توقّعات
الأفكاروالتصورات ، هي وحدها من تُؤمّن لنا المخرج و تمدّنا بسواعد النجاة ؛ فإن
كان "سينكا" ينصحنا أن نبتلع ضفدعا كل صباح لكي نضمن أن لن نواجه ما هو
أ كثر قرفا في ما سيقدم عليه من يوم، فلا
أظن أنه ابتلعَ واحدة في حياته، أمّا أنت فقد ابتلعتَ من الحياة مُرّها و حُلوها ،
ابتلعتَ الرفاهة داخل القصر، والمعاناة في المنفى و من داخل السجن ،و الجنديّة في
ساحة المعركة ،والمعرفة في حلقات العلم ، و الإيمان في مجالس الذكر ...فكيف لا تقدر
على مداواة نفوسنا و ذهاب همّنا؟
كشفتَ في "مداواة
النفوس" عن أحوال الناس فألفَيت أن همومهم تختلف وتتلون ، فتبحث كل نفسٍ عن دفع ما يضرّها،
فأما من كان همّه الفقر طلب المال ، و من كان هّمه المتعة طلب اللذة ، ومن كان همّه
الجهل طلب العلم ، و من كان همّه الوحدة طلب محادثة الناس ،ومن كان همّه الاستعلاء
طلب الصّيت...لكن هيهات، هل ستهدئ النفوس و تطمئن و ستحس بالسعادة وتستقر؟ حتما أنت تُنكر ذلك،
لأن هموما حادثة لابدَ أن تظهر، و عوارض لابدّ أن تحضر، و نتائج سوء لابد أن تحصل
.كم أنت قريب إذن من فيلسوف الحداثة
" كانط" يا عزيزي، من بحث في معنى السعادة فوَجد من الصّعب تحديدها مادام كل منّا يراها في ما
يُعوّض ما يَعوزُه و يَفتقدُه ، فمن يراها في المال أو الصحة أو الغريزة... هكذا
أحوال الناس متغيّرة كذلك تَمثّلاتهم لها مختلفة، فليست إذن مفهوما عقليا حتى
تُحدد بل تبقى مجرّد مَثل أعلى للخيال .
لستَ بِبعيد عن طرح "كانط " المهووس بالتّعريف و التجريد ، لكنّك كُلّفت
تنويرنا سبل تحصيلها لا تحديد معناها ، لأنّك ذقت طعمها و ارتشفت رحيقها ،فعبّدت
لنا الطريق كي نهتدي إليها . طريقٌ واحد لا أكثر يوصلنا الى طرد الهمّ و إمتاعنا
بالسعادة، إنه " العمل من أجل الآخرة "، هكذا كتبت في" مداواة
النفوس" ، فكلّ فعلٍ وثقت أجره بالآخرة يَهون تعبُه و يحلو طعمَه، و كل فعل
من أجل الله تُسَرُّ به النّفسُ وإن تمحّنت ، فلا تنتظر إعجابا من أحد إن نجحت ، و
لا تعزية من غيرها ان تعثّرت، فهي لا تُعطي من أجل أن تأخذ ،و إنّما تنتظر فقط هبة
المُعطي و أجر المنّان .لاتتعب نفسك مع من سيستخف بهذا الكلام و يستهتر ! لست مرغما
أن تَشرح لِفاقد حاسّة الذوق طُعم تفاحة، إنه لن يفهمك أبدا ! فلست الوحيد يا ابن
حزم من ذاق طُعمها هذا ،كذلك استغرب "ابن تيمية" حمقات قومه وتعجب "ماذا
يفعل أعدائي بي ، إن جنّتي و بستاني في صدري ،إن قتلي شهادة و سجني خلوة و نفيي
سياحة "، فسلامي عليك و رحمة الله!