الصراخ الذي وصل بقوة إلى مسامعي ذلك المساء، وأنا ممددة على السرير الوحيد في قاعة الاستقبال بمستشفى الرازي ببرشيد، كان أقوى بكثير من اصطدام سيارة من الحجم
الكبير بسيارتي التي أوقفتها عند نقطة الأداء ببسكورة من أجل تأدية تسعيرة المرور في الطريق السيار بين برشيد والدار البيضاء، نتج عنها إصابة في عنقي تلزمني الفراش وتعليمات صارمة من الطبيب المختص أشك في الانضباط إليها.
لم يسعفني جسدي، الممتد بالفعل والقوة على ذلك السرير اليتيم بالقاعة الوحيدة في مستشفى بحجم التردي الملتصق به، على النهوض، وهو التردي الذي سيمتد حكيه في لغتي حد إيصاله إلى كل هؤلاء الذين جعلوا الوضع الصحي في بلادنا وصمة عار في جبيننا، بل نقطة سوداء غطت معالمها ذلك البياض الذي نحلمه، هو الوضع الذي أسال دموع الرجال، ومنها تلك التي تحولت إلى عويل وصراخ لرجل فقد زوجته وطفله، في لحظة ولادة كان ينتظرها، لهفة وتشوقا لبداية جديدة مصحوبة بزغرودة نساء الشاوية واحتفالهن بامرأة تزوجت شاويا، لتلد طفلا أو طفلة غدا سترقص أو سيرقص على إيقاع العيطة ورائحة الحناء والبارود.
قلت للسيدة، التي رافقتني بتطوع إلى القاعة الوحيدة في انتظار الطبيب والتي تطوعت كذلك بإخباري عن مصدر الصراخ الذي حرك إحساسي عندما استعصى الجسد، وأبى إلا أن يقول لي كم أنت عاجزة وضعيفة لتنهضي كعادتك للذهاب إلى حيث الخبر من مصدره المباشر، ما سبب الوفاة ؟ استغربت السيدة تساؤلي، وهي تطرح علي السؤال:» ألا تعرفين أن برشيد بلا مستشفى في حجم ساكنته، وأن غياب الإمكانيات يكرر مثل هذه الحالات مرارا، فكم من النساء غادرن في صمت تاركات فلذات أكبادهن لقسوة الحياة؟!».
وعلى إيقاع القهر الذي استحوذ على الفكر والجسد، تداخل الإحساس بالعجز بالإحساس بالضيم والغم، في «أنايا» التي جاءت صدفة أو قدرا أو سموها كما شئتم إلى هذا المكان الذي حملت إليه على وجه السرعة لتلقي الإسعافات الأولية، ضد أي تطور فطن المعنيون بضرورته بعد الحادث المؤسف الذي كاد فيه متهور أن ينهي وجودنا لولا الألطاف الإلهية التي خففت من الواقعة، أو خفف منها تزامن الاصطدام مع توقفنا في المكان الذي كان بردا وسلاما علينا.
صور تداخلت حتى كدت أرى أني مكبلة اليدين والرجلين، ولم يبق فيَّ سوى عينين جاحظتين تريدان أن تمددا نظرهما خلف القاعة الوحيدة، لمتابعة تطورات الصراخ الذي أوصل القهر و»الحكرة» إلى مسامعي، وكدت أجن، وعنقي يشد رأسي إلى مقدمة السرير الوحيد الذي سأحكيه لغة ممتدة في واقعنا الصحي، الذي تدنى حد التمظهر اليومي في مشاهد لم تعد تحتمل حكيها أوعرض صورها بواقع يحمل ألما، ويذهب أي أمل في معالجته بعدما تراكمت ويلاته داخل أسوار لم تعد قادرة على إخفائه كما الزمن الذي كان.
قلت مع نفسي، وأنا أعي عجزي وحجم إصابتي «: يا الله أيها الزمن الرديء، فلتقهرنا كما شئت، وإن شئت فاحمل هذا الجسد بهذا الإحساس الرهيب إلى خلف هذا السور حيث يوجد مستشفى المجانين، فلعل الجنون قادر على معالجة ما استعصى على العقل المستنجد بيد صدعت الكتابة مقدمة أناملها».
استيقظت على صوت الطبيب، الذي حل محل الطبيبة، والتي غادرت، بعدما قُهرت المسكينة من حجم الاستقبالات لحالات يصعب توفير علاجها، أمام غياب الشروط الكفيلة بذلك، وهي الشروط الذي استفاض الطبيب المداوم في شرحها لي بعد معرفته بمهنة المتاعب التي أشغلها، وهو يحاول ترتيب استقبال حالات أخرى، احتار الرجل في تدبير أولوياتها حتى كاد أن يجعل من ظهره مطية لبعضها، مستعملا مرة لغته التي بدا لي أنها تعي أسلوبها المتداول في المنطقة في إقناع البعض من أجل خدمة البعض الآخر، حتى كدت أنا بدوري أن أساهم في الحلول الممكنة، طالبة من مساعدة الطبيب، ان أترك السرير الوحيد وأفترش الأرض من أجل تلك العجوز التي يبدو أن حالتها كانت جد صعبة.
لم يسعفني مرة أخرى الجسد الذي أثقلته الإصابة «الأرنبية» في العنق، أن أمارس بداوتي وشهامتي كالمعتاد، وهي الإصابة التي زاد من حدتها تحرك الكرسي صوب المقود، الذي ضغط على صدري، كما زاد إحساسي ب»الحكرة» وأنا أرفع عيني صوب وجه أطل علي من نافذة سيارتي ليساومني من أجل التنازل عن حادث، متناسيا أنه كان المسبب الرئيسي فيه بسيارة فاخرة ومن النوع الجيد، حيث سأعلم بعد ذلك أن الرجل اكتراها للانتشاء، حد الدوس على «ذباب» الطريق، وأنا واحدة منه، لم أجب الرجل لأن الدركي خاطبه بصرامة أن الأمر أصبح خارج سلطة التفاوض الثنائي.
غادرت تلك الليلة مستشفى الرازي ببرشيد، حاملة الألمين، ألم الوضع الكارثي للمستشفى العمومي، الذي نعلق الآمال في جعله وجها لصون كرامة المغاربة كما صون حقوقهم في الصحة والعلاج، وألم الجسد الذي يرغمني على ضرورة التوجه إلى مستشفى خاص،على الأقل، من أجل تهدئته ريثما أستكمل باقي الفحوصات التي قالت طبيبة مستشفى الرازي إنه لابد من استكمالها.
لا أدري لماذا رفضت تلك الليلة المبيت في مستشفى خاص، أقنعت نفسي أن لا ضرورة لذلك، وأن الألم لن يذهب عني، أو أني كنت محتاجة أن يصاحبني كما هؤلاء الذين تركتهم في مستشفى الرازي ببرشيد، لاسرير يحمل أجسادهم التي تئن ولا إسعافات في حجم أنينهم، وحده الطبيب والمساعدة، يحاولان، يتألمان، ويتحملان…
لم أنم تلك الليلة، الألم لا يغادر، فقدت الإحساس بمعرفة مصدره، نهضت من السرير لأجد نفسي وسط فراش غيَّر دمي لونه وشدد احمراره، هو دمي إذن الذي اعتصره هذا الجسد بالألمين معا، كما الأمس إذن يوم ضاع ابني وأنا ألده في مستشفى عمومي حرصت تلك الليلة أن أختاره، رغم كل العروض، لأكون إلى جانب باقي نساء القوات الشعبية.