صدر عن المركز الثقافي العربي (بيروت – الدار البيضاء) كتاب جديد : "الفن العربي الحديث : ظهور اللوحة"، للأديب اللبناني شربل داغر في 366 صفحة من القطع
الكبير، مشتملًا على صور أعمال فنية ملونة، بعضها غير معروف. ولقد اقتطعتُ من مقدمة الكتاب هذه النبذة للتعريف به :
الكبير، مشتملًا على صور أعمال فنية ملونة، بعضها غير معروف. ولقد اقتطعتُ من مقدمة الكتاب هذه النبذة للتعريف به :
جعل الكتاب من "ظهور" اللوحة الزيتية موضوعه في حراك عثماني-عربي-أوروبي، إذ إنها انتقلت، أو استُوردت، إلى هذه البيئات من خارجها (من المدن الإيطالية، بداية)، فتتبعَ الكتاب وفحصَ دخول هذا العمل الفني الجديد إليها، من المغرب الأقصى إلى إمارات الخليج.
تحقق الكتاب من أن دخول هذه القطعة لم يكن بالسهل أو بالهين، إذ "استقبلتْها" (أو اعترضت استقبالها) مواقفٌ وقيم واعتيادات وسلوكات متأتية من أن الصورة، ولا سيما التمثيلية، تحولت إلى "مسألة" إسلامية، على مرِّ العصور، في أحكام الفقهاء قبل سياسات الخلفاء أو الولاة. لهذا فإن "ظهور" اللوحة عربيًا لم يكن فقط بالظهور الفني، بل كان أيضًا ظهورًا سياسيًا واجتماعيًا؛ وما رافق هذا الظهور من أحوال قبول واعتراض يعود إلى أسباب دينية واجتماعية، قبل أن تكون تقنية أو مهنية أو جمالية (...).
لهذه الأسباب وغيرها اتجه الدرس لتفقد انبثاق اللوحة في القصر والبيت قبل صالات العرض والمتاحف، وفي كتابات الرحالة والمؤلفين (من أوروبيين وعرب) قبل المؤرخين الفنيين. كما سعى إلى التعرف إلى قبول اللوحة وانتشارها، ليس بين الفنانين العثمانيين والعرب الناشئين وحدهم، وإنما قبل ذلك في مجتمعات، وبين أفراد كانوا، في عهود سابقة، "كارهين" (حسب العبارة المأثورة) لوجودها، وللمعاني والقيم التي تتمثل فيها، أو تحضر معها. كيف لا، و"ظهور" اللوحة تعدى ظهور "قطعة" مربعة أو مستطيلة أو طولية، ملونة، فوق جدار، أو تُطوى وتَخفى عن الناظرين، إذ بدتْ لبعضهم مثل "غزوٍ"، أو "خرقٍ"، لمجتمعات بقيت "حصينة" (بمعنى من المعاني) طوال قرون، وذات مرجعية قيمية وجمالية تحتكم إليها من دون غيرها. هكذا أتى "الدخول" بطيئًا، محفوفًا بالاختلافات والارتدادات؛ وما بدا مطلوبًا أو ميسَّرًا في نطاق، مثل القصر أو القنصليات أو الكنائس أو بيوت الأمراء والأعيان، كان مكروهًا في نطاق آخر، ولا سيما بين الفقهاء، أو في "علانية" المجتمع (...).
لهذا يمكن القول بأن هذه القماشة المشدودة أو المثبتة فوق إطار خشبي كانت أشبه بمرآة عريضة مبسوطة بين أطراف المجتمع، وتعرض بالتالي أحواله : لجهة ما يريده (أو لا يريده)، وما يطلبه (أو لا يطلبه)، من صُور، لنفسه، وعن نفسه. هذا مدعاة لأكثر من سؤال : أتكفي المسلم، والعربي، اللغة العربية بتعبيراتها المختلفة، من دينية إلى أدبية، ولا يريد منافستها بغيرها أم أن محاربة الديانة الإسلامية للعقيدة الوثنية في الجاهلية، المتمثلة في نصب وتماثيل وصور فنية، بقيت فاعلة، وأساسًا فقهيًا وقيميًا، بعد قرون وقرون على انتهاء العهد الوثني ؟ أليست هناك فوارق بين الصورة الوثنية والصورة الفنية ؟ ماذا عن "ظهور" اللوحة عربيًا : أَظَهرتْ وفق أحكام الفقهاء أم وفق متطلبات أخرى ؟ أَظَهرتْ في دورة واحدة، وفق الوتائر عينها، في مجتمعات عربية متباينة السياقات والأحوال ؟ أعانت هذه كلها من المصاعب عينها ؟ ماذا عن حضور الصورة الفنية القديم بين الجماعات المسيحية العربية، من أيقونة وغيرها ؟ أَبَقيتْ على حالها القديمة أم "تكيفت" بدورها مع متوجبات اللوحة الزيتية ؟
هذا ما طمح الكتاب، في خطته، إلى معالجته، فاستعرض، في أبوابه الثلاثة وفصوله العشرة، هذه المسائل وغيرها، وفق منظور تاريخي، شملَ المجال العثماني، والولايات العربية فيه، فضلًا عن المغرب الذي كان خارج السيطرة العثمانية، فتعقبَ الأعمال الفنية في بداياتها، وتعرف إلى فنانيها الأوائل والمؤسسين. وهو تتبعٌ وفحصٌ تاريخيان لهما أوجه اجتماعية كذلك، إذ يرصدان الأحوال والسلوكات والتمثلات، ولا يغيِّبان الجدالات التي رافقت أو اعترضت هذا "الظهور" الطارىء. (...).
هذا السعي ما كان ليقوم من دون تنمية المدونة التاريخية والفنية المناسبة للفن العربي الحديث، ما اجتمعَ في القاعدة الذهبية، وهي أن كتابة التاريخ تُقاس بوفرة مصادره، قبل الكلام عن المنهج المناسب في درس الحراك والتجليات. هذا ما عملتُ عليه، على مدى سنوات وسنوات، بالعودة إلى متاحف، ومجموعات فنية خاصة، ومكتبات، بين عربية وعثمانية وأوروبية، فضلًا عن لقاءات واسعة مع فنانين مشمولين بالدرس. هذا ما أعانني على تفقد أعمال فنية "مجهولة" أو "مغمورة"، أو على استخراج أسماء فنانين كثر (أكثر من مئة فنان) من كتابات خرجت من التداول، ما لا يجده الباحث في كتب التاريخ الفني، أو تاريخ الفنانين المعروف والمتداول في أكثر من لغة وخطاب. وهي مدونة مكَّنني من الوصول إليها عاملون في أكثر من مكتبة ومتحف، فضلًا عمن تكرم بإرسال نسخة من كتاب قديم، أو نادر، أو صورة لوحة مجهولة : ليجدْ هؤلاء، كلهم، أينما كانوا، شكرًا علنيًا وثابتًا، على ما أعانوني عليه، إذ إنهم شركاء بدورهم في هذا الجهد.
يحتاج الفن العربي الحديث إلى تاريخه (وهو، في جانب منه، أوروبي وعثماني)، وإلى اندراجه في الثقافة المحلية، وفي تطلعات اجتماعية وخيارات ذوقية لدى نخب محلية، خصوصًا وأن هذا الفن عرفَ نقلة قوية في العقود الأخيرة، تمثلتْ في حضور متزايد لأعمال الفنانين العرب في منتديات سوق الفن العالمي وفي متاحفه الكبرى. كما تمثَّلتْ، قبل ذلك، في قيام متاحف لحفظه وعرضه في العالم العربي، فضلًا عن صالات العرض، وفي نشوء مجموعات متعاظمة لمقتنيه، ولا سيما في بلدان الخليج. وهي مؤشرات متراكمة عن قبول ثقافة الصورة، بما فيها الفنية، لكنها قد تشير كذلك إلى قبول "مشروط" بمجموعة من المسبقات والإكراهات، ومن الممنوعات والمرغوبات.
تحقق الكتاب من أن دخول هذه القطعة لم يكن بالسهل أو بالهين، إذ "استقبلتْها" (أو اعترضت استقبالها) مواقفٌ وقيم واعتيادات وسلوكات متأتية من أن الصورة، ولا سيما التمثيلية، تحولت إلى "مسألة" إسلامية، على مرِّ العصور، في أحكام الفقهاء قبل سياسات الخلفاء أو الولاة. لهذا فإن "ظهور" اللوحة عربيًا لم يكن فقط بالظهور الفني، بل كان أيضًا ظهورًا سياسيًا واجتماعيًا؛ وما رافق هذا الظهور من أحوال قبول واعتراض يعود إلى أسباب دينية واجتماعية، قبل أن تكون تقنية أو مهنية أو جمالية (...).
لهذه الأسباب وغيرها اتجه الدرس لتفقد انبثاق اللوحة في القصر والبيت قبل صالات العرض والمتاحف، وفي كتابات الرحالة والمؤلفين (من أوروبيين وعرب) قبل المؤرخين الفنيين. كما سعى إلى التعرف إلى قبول اللوحة وانتشارها، ليس بين الفنانين العثمانيين والعرب الناشئين وحدهم، وإنما قبل ذلك في مجتمعات، وبين أفراد كانوا، في عهود سابقة، "كارهين" (حسب العبارة المأثورة) لوجودها، وللمعاني والقيم التي تتمثل فيها، أو تحضر معها. كيف لا، و"ظهور" اللوحة تعدى ظهور "قطعة" مربعة أو مستطيلة أو طولية، ملونة، فوق جدار، أو تُطوى وتَخفى عن الناظرين، إذ بدتْ لبعضهم مثل "غزوٍ"، أو "خرقٍ"، لمجتمعات بقيت "حصينة" (بمعنى من المعاني) طوال قرون، وذات مرجعية قيمية وجمالية تحتكم إليها من دون غيرها. هكذا أتى "الدخول" بطيئًا، محفوفًا بالاختلافات والارتدادات؛ وما بدا مطلوبًا أو ميسَّرًا في نطاق، مثل القصر أو القنصليات أو الكنائس أو بيوت الأمراء والأعيان، كان مكروهًا في نطاق آخر، ولا سيما بين الفقهاء، أو في "علانية" المجتمع (...).
لهذا يمكن القول بأن هذه القماشة المشدودة أو المثبتة فوق إطار خشبي كانت أشبه بمرآة عريضة مبسوطة بين أطراف المجتمع، وتعرض بالتالي أحواله : لجهة ما يريده (أو لا يريده)، وما يطلبه (أو لا يطلبه)، من صُور، لنفسه، وعن نفسه. هذا مدعاة لأكثر من سؤال : أتكفي المسلم، والعربي، اللغة العربية بتعبيراتها المختلفة، من دينية إلى أدبية، ولا يريد منافستها بغيرها أم أن محاربة الديانة الإسلامية للعقيدة الوثنية في الجاهلية، المتمثلة في نصب وتماثيل وصور فنية، بقيت فاعلة، وأساسًا فقهيًا وقيميًا، بعد قرون وقرون على انتهاء العهد الوثني ؟ أليست هناك فوارق بين الصورة الوثنية والصورة الفنية ؟ ماذا عن "ظهور" اللوحة عربيًا : أَظَهرتْ وفق أحكام الفقهاء أم وفق متطلبات أخرى ؟ أَظَهرتْ في دورة واحدة، وفق الوتائر عينها، في مجتمعات عربية متباينة السياقات والأحوال ؟ أعانت هذه كلها من المصاعب عينها ؟ ماذا عن حضور الصورة الفنية القديم بين الجماعات المسيحية العربية، من أيقونة وغيرها ؟ أَبَقيتْ على حالها القديمة أم "تكيفت" بدورها مع متوجبات اللوحة الزيتية ؟
هذا ما طمح الكتاب، في خطته، إلى معالجته، فاستعرض، في أبوابه الثلاثة وفصوله العشرة، هذه المسائل وغيرها، وفق منظور تاريخي، شملَ المجال العثماني، والولايات العربية فيه، فضلًا عن المغرب الذي كان خارج السيطرة العثمانية، فتعقبَ الأعمال الفنية في بداياتها، وتعرف إلى فنانيها الأوائل والمؤسسين. وهو تتبعٌ وفحصٌ تاريخيان لهما أوجه اجتماعية كذلك، إذ يرصدان الأحوال والسلوكات والتمثلات، ولا يغيِّبان الجدالات التي رافقت أو اعترضت هذا "الظهور" الطارىء. (...).
هذا السعي ما كان ليقوم من دون تنمية المدونة التاريخية والفنية المناسبة للفن العربي الحديث، ما اجتمعَ في القاعدة الذهبية، وهي أن كتابة التاريخ تُقاس بوفرة مصادره، قبل الكلام عن المنهج المناسب في درس الحراك والتجليات. هذا ما عملتُ عليه، على مدى سنوات وسنوات، بالعودة إلى متاحف، ومجموعات فنية خاصة، ومكتبات، بين عربية وعثمانية وأوروبية، فضلًا عن لقاءات واسعة مع فنانين مشمولين بالدرس. هذا ما أعانني على تفقد أعمال فنية "مجهولة" أو "مغمورة"، أو على استخراج أسماء فنانين كثر (أكثر من مئة فنان) من كتابات خرجت من التداول، ما لا يجده الباحث في كتب التاريخ الفني، أو تاريخ الفنانين المعروف والمتداول في أكثر من لغة وخطاب. وهي مدونة مكَّنني من الوصول إليها عاملون في أكثر من مكتبة ومتحف، فضلًا عمن تكرم بإرسال نسخة من كتاب قديم، أو نادر، أو صورة لوحة مجهولة : ليجدْ هؤلاء، كلهم، أينما كانوا، شكرًا علنيًا وثابتًا، على ما أعانوني عليه، إذ إنهم شركاء بدورهم في هذا الجهد.
يحتاج الفن العربي الحديث إلى تاريخه (وهو، في جانب منه، أوروبي وعثماني)، وإلى اندراجه في الثقافة المحلية، وفي تطلعات اجتماعية وخيارات ذوقية لدى نخب محلية، خصوصًا وأن هذا الفن عرفَ نقلة قوية في العقود الأخيرة، تمثلتْ في حضور متزايد لأعمال الفنانين العرب في منتديات سوق الفن العالمي وفي متاحفه الكبرى. كما تمثَّلتْ، قبل ذلك، في قيام متاحف لحفظه وعرضه في العالم العربي، فضلًا عن صالات العرض، وفي نشوء مجموعات متعاظمة لمقتنيه، ولا سيما في بلدان الخليج. وهي مؤشرات متراكمة عن قبول ثقافة الصورة، بما فيها الفنية، لكنها قد تشير كذلك إلى قبول "مشروط" بمجموعة من المسبقات والإكراهات، ومن الممنوعات والمرغوبات.
لوحة الغلاف للفنان اللبناني حبيب سرور (1860-1927).