قلتُ سآخذُ عطلة من
الكتابة، ومن هَمِّ هذا الوطن...هكذا قررت، بكامل إرادتي ودون إخبار أي أحد أو طلب
إذن من رئيس ما، أن أتوقف خلال عطلة الآخرين (فأنا لا عطلة
لي لأنني ببساطة موقوفة
عن العمل منذ مدة والحمد لله)... أتوقف لأكثر من أربعين يوماً عن الاطلاع على
أحوال هذا البلد وعن التعليق المكتوب والشفوي، إن استطعت، عن أي حدث يتعلق به. لكن
كما نقول بالدارجة "شكون خلاك؟!".
هكذا مر الصيف وتوالت الأحداث هنا، لكنها
إجمالا عادية بالنسبة لنا نحن المتعودين على المؤقت الدائم وعلى كثرة الشفوي وقلة
الكتابي وغياب الفعل، إلا إن كان فعلا من قبيل تزفيت الطرق مرة ومرة أخرى،
واستنبات النباتات بين عشية وضحاها، وإطلاق المشاريع "التنموية" على
عواهنها، خصوصا تلك الموجهة للفئات "المعوزة" (والعوز الأساسي كما نعرف
هو عوز في الانتماء إلى الوطن وفي الضمير لدى البعض وعوز في الكرامة الإنسانية لدى
البعض الآخر)... كل هذا يحدث عادة كلما حلت مناسبة "وطنية" أو عَنَّ
لملك البلاد المرور من هناك.
هنيئا لنا! بمثل هذه الخطابات والأفعال
سندخل عصر الأنوار قريباً...والظرفية الدولية "مساعدة" على ذلك. ونكون
إن شاء القدير استثناءً. فمن كثرة ما سمعت عبارة "الاستثناء المغربي"
صرت أومن بأننا فعلاً استثناء، ولا نحتاج إلى العمل لنصبح كذلك، فنحن نعيش
"حالة الاستثناء" منذ عقود دون أن نعرف.
"يا أصحاب الحل والعقد، ناموا مرتاحين
فقد حققتم المراد منذ زمان". هكذا فكرت خلال راحتي البيولوجية من الكتابة ومن
أشياء "غبية" أخرى، وخلدت إلى النوم بدوري.
رأيت فيما يرى النائم شخصا عاريا تماما يحمل
سيفا، محاطا برجاله، اختطفني أنا وسيارتي من الشارع العام ولم يتدخل أحد، بل كان
الناس يهربون أمامه كالجرذان. حجزني في منزل متهالك به عدة غرف مظلمة تملأها رائحة
العفن والرطوبة وعشرات النساء كالأشباح، اقتنصت فرصة لأهرب. لجأت إلى مسجد، طردوني
لأنهم كانوا يرتعدون خوفا منه، ثم لجأت إلى مخفر الشرطة ولم يعيروني أي اهتمام لأن
الدنيا كانت "مقلوبة" عندهم، وفي الأخير قررت أن أسرق سيارة بها أطفال وأهرب
معهم خارج تلك البلدة الملعونة.
تبا! كما يقولون في الأفلام المدبلجة...صحوت
مرعوبة. قلت: الحمد لله أنه مجرد حلم. لكنه لم يكن حلماً، وحتى إن كان مجرد كابوس
فهو يأبى أن ينتهي. شربت أكثر من فنجان قهوة، لكنه استمر: جسد قاصر موشوم بطريقة
بشعة، جسد تناوب على هتكه زمرة من المرضى النفسيين ومن ضعاف النفوس...حدث ذلك في
نواحي بني ملال. فكرت: قد تكون تلك المنطقة بعيدة عن "المخزن"
المركزي، وبالتالي فقد يكون كل ذلك بسبب "السيبة". لكن كابوسا آخر
"حنثني". هذه المرة، في "حاضرة" سلا، المنتمية جغرافيا للمخزن
المركزي: شاب في مقتبل العمر يقطع أطرافا في واضحة النهار، وأمام عائلته وسكان حي
بأكمله، قبل أن يذبح من الوريد إلى الوريد. الفظيع هو أن التقطيع بدأ بينما هو حي
والأفظع هو أنه تلقى قبل تلك النهاية المأساوية تهديدا بالقتل من طرف الجاني ومن
معه ولم يستطع أحد أن يمنع حدوث تلك الجريمة النكراء، بما في ذلك من يتلقون أجورهم
من أموال الشعب لحمايته.
ها قد أفقت، لكن الكابوس مستمر، وها قد عدت
للكتابة حتى لا أختنق بغضبي مما يحدث، فقلبي ودماغي يهددان بسكتة، ومن يعيشون
بقربي يعرفون أنني لا أطاق حين أقف أمام أحوال أو الأحرى أهوال هذه البلاد عاجزة عن
القيام بأي شيء أو عن التعبير...وعلى ذكر التعبير، أقولها صراحة: لقد تجاوزنا
"حالة الاستثناء" ودخلنا في "حالة الاغتصاب"... (التفاصيل في
الحلقة القادمة)