“العلم لايملك الفلسفة التي يستحقها” . هذه العبارة القصيرة تختزل مقمدمة مقالي هذا حول “باشلار في الفلسفة الفرنسية”. إن الإهتمام بفلسفة باشلار وبخصوصيات تأويلاتها يدل على مدى تأثيرها على الفلسفة الفرنسية المعاصرة. ولتحديد خصاص وأسس فلسفته لا أتوانى في إدراج موقفه الفلسفي ضمن تاريخ الإبستملوجية الفرنسية بدءا من أغست كونت (Auguste Comte, 1798-1857) و إميل ميرسون (Émile Meyrson, 1853-1933) مرورا بـبيير دهيم (1916Pierre Duhem, 1861-) و ليون برنشفيك Léon Brunchvicg,1869-1944)).
غالبا ما تمركزت إشكالية المعرفة في تاريخ الفلسفة إما حول الذات (الإسميةNominalisme والعقلانيةRationalisme ) وإما حول (الحسية Sensualisme والوضعيةPositivisme )، لكن العلاقة بين هذه الثنائية الفلسفية – التي لم تأخذ بعين الإعتبار- أولى لها باشلار اهتماما كبيرا. إن التفكير في النقدية والوضعية يساعدنا على تحديد موقع فلسفة باشلار في الفلسفة الفرنسية من جهة وفي تحديد خصوصية إبستملوجيته من جهة ثانية. لا يمكن للمرء تجاهل تأثير هاذين التيارين الفلسفيين على فكر باشلار ولكن ثأثيرهما ليس حاسما.
في عصر إمنويل كانط (Emmanuel Kant, 1724-1804) كان العلم الطبيعي يعتبر امتدادا للحس المشترك وكانت الإبستمولوجية تتحرك ذهابا وإيابا في تأويلها للعلم بين الواقعية والوضعية ولدى الفلاسفة بين العقلانية والتجريبية. موقف باشلار الفلسفي يمكن تحديده في التطورات التاريخية للفلسفة و للعلم في مطلع القرن العشرين، حيث تبلور موقف باشلار كسجال(Polémique) ضد كل الإتجاهات الفلسفية التي عاصرها من جهة وكموقف إبستملوجي من جهة أخرى.
باشلار لم يحاول فقط إنشاء موقف فلسفي، بل سعى إلى تجديد المواقف الفلسفية التقليدية. أسس موقفه مستوحاة من نتائج الثورة العلمية المعاصرة التي بدأت منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر وامتدت إلى القرن العشرين. لقد عايش باشلار (1884-1962) أحداث هذه الثورة وفي نفس الوقت رصد تأثيرها على الفاهيم العلمية والفلسفية. في ذلك يكمن مقصد فلسفته في إبراز القيم الإبستملوجية التي رافقت الثورة العلمية. لقد ذهب باشلار إلى حد اعتبار هذا النشاط مهام الإبستملوجية بالدرجة الأولى. هذا المهام أفصح عنه في كتابه الأول[2] الذي حاول فيه وصف الأشكال الجديدة للمعرفة الإنسانية كمعرفة تقريبية (approximative)كما هو الشأن في علم الفزياء.[3]
قبل الإجابة عن السؤال حول تمكن باشلار من إنجاز مهام إبيستملوجيته، يجب قبل كل شيئ التأكيد على ضرورة إلقاء نظرة حول التطور التاريخي للفكر العلمي والفلسفي في القرن العشرين الذي نشأ وتطور فيه فكر باشلار. هذه النظرة تتطلب عرضا شاملا ولكن نظرا لضيق المكان هنا سأكتفي بنظرة مختصرة.
باشلار يولي إهتماما كبيرا لهذه المرحلة من تاريخ العلوم التي ظهرت فيها الثورة العلمية. إن تحليل الوضع الراهن للعلم وتاريخه قاد باشلار إلى الإقتناع بالتطور العلمي الهائل والمدهش مع بداية القرن العشرين.[4] ففي نظري قد إتخذت فلسفة باشلار موقعا خاصا في الفلسفة الفرنسية المعاصرة نتيجة علاقة باشلار بالتطور الكيفي للعلوم وبالكيفية التي تفاعل معها.[5] هذا التفاعل لا يمكن اعتباره تأويلا للعلوم بل تنمية للقيم الإبستملوجية المستخلصة من الثورة العلمية. موقف باشلار الفلسفي لا يتميز فقط بعلاقته بالعلوم، بل بعلاقته مع فلسفة العلوم المعاصرة. هذا الموقف يتجلى في المواجهات السجالية ضد الفلسفات المعاصرة.
لقد لاحظ باشلار أن النظريات العلمية الجديدة لا مثيل لها في تاريخ العلوم، لذلك قسمه إلى مرحلتين: مرحلة ماقبل هذه النظريات ومرحلة ما بعدها. لقد سعى إلى تأسيس موقف فلسفي هدفه يتمثل في عكس تطور العلوم وتأثير النظريات العلمية على المعرفة وعلى المفاهيم العلمية والفلسفية. هذا المهام لم تأخذه الفلسفات المعاصرة بعين الإعتبار حسب باشلار، لأنها لم تستطع على كل حال إنجاز هذا المهام.
لقد دخل باشلار -كما سبق الذكر- في سجال ضد كل الفلسفات المعاصرة، لذلك كانت أغلبية كتبه إما تحليلا لنظرية علمية أو اعتراض على رأي أو تفسير كشوفات علمية جديدة والتأكيد على المعنى الذي يجب أن تفهم فيه هذه الاكتشافات بعيدا عن أي تأويل. لقد تعارك مع هينري بيرجسون Henri Bergson,1859-1941)) حول “نظرية الحدس” ((Intuition فرفضها وتعارك مع إميل ميرسون (Émile Merson, 1859-1933) حول “مفهوم الاستمرارية” (Continuité) في تاريخ العلوم فرفضها كذلك.[6] كما تعارك مع هينري بوانكاري (Henri Poincaré, 1854-1912) حول طبيعة الرياضيات واتهمه بكون نظريته لم تستطع فهم دلالة نشأة الهندسة اللاأقليدية[7] وأخيرا انتقد كل الإتجاهات العقلانية التي كانت سائدة في عصره. على عكس نتائجها يتحدث باشلار حول “الإبستملوجيا الاَّديكارتية” (Épistémologie non cartesienne).[8] ففي سجاله لم يكن باشلار يوجه انتقاداته لأشخاص (فلاسفة)، بل لأفكار، لذلك يناقش غالبا فكرة أو رأي فلسفي في إطار تسمية عامة مثل الشكلية (Formalisme) و التوافقية (Conventionnalisme) و المثالية (Idéalisme) والوضعية (Positivisme) والتجريبية (Empirisme) و الواقعية (Réalisme).[9]
لقد ساجل باشلار كل هذه التيارات الفلسفية باستمرار. وبفضل هذا السجال تمكنت فلسفته من تشكيل موقف فلسفي لافت للنظر ومتميز وسط ستة تيارات فلسفية، حيث ينعت فلسفته بنعوت مختلفة مثل: “فلسفة الرفض”Philosophie du non) ) و “عقلانية تطبيقية ( Rationalisme appliqué) و “مادية عقلانية”
(Matérialisme rationnel) و”مادية تقنية ” (Matérialisme téchnique) و”فلسفة مفتوحة” (Philosophie ouverte) و “فلسفة مجادلة “(Philosophie dialoguée).[10]
وبنعته لفلسفته كعقلانية مطبقة يحدد باشلار موقفه في تاريخ الفلسفة كما يلي:
„C’est précisément dans cette position centrale que la dialectique de la raison et de la technique trouve son efficacité. Nous essaierons de nous installer dans cette position centrale ou se manifestent aussi bien un rationalisme appliqué qu’un matérialisme instruit.“[11]
القليل مما أوردته حتى الآن حول موقف باشلار الفلسفي يشير إلى أن باشلار لم يكن يساجل فلسفات عصره عن طريق الصدفة بل كان يختار سجاله عن قصد. لقد تناول دومنيك لكور ((Dominique Lecourt,1944 وحمله محمل الجد.[12]
لقد حاولت في عجالة أن أقدم نظرة مقتضبة حول إبستيملوجية باشلار، لكن هذا المهام
يتطلب دراسة مسهبة لا يتسع لها المجال هنا، لأن جدال وسجال باشلار لم يقتصر على الفلسفة الفرنسية فط، بل شمل اتجاهات فلسفية أخرى خارج فرنسا. لقد جادل- على سبيل المثال لا الحصر- الثنائية التقليدية لإشكالية المعرفة “العقلانية” و”التجريبية”، ولكنه لم يساجل المادية الجدلية في صياغته لمفهومه للجدل واكتفى فقط بنقد الجدل الهيجلي.يقول باشلار بهذا الصدد في صفحة 153 من كتابه فلسفة الرفض: “لاعلاقة لفلسفة الرفض بأية جدلية قبلية، مسبقة. وهي بوجه خاص لا يمكنها التجمد أبدا حول الجدليات الهيجلية.”[13]
فبدون هذه النظرة حول العلاقة السجالية بين باشلار و الفلسفة ومع فلاسفة عصره لانتمكن من إدراك مضمون فلسفته (إبستيمولوجيا). فلسفته تبلورت كبحث – مطول و شاق- عن الفلسفة الي يستحقها العلم، عن “فلسفة الرفض”. هذه الفلسفة مطالبة بتقليص الهوة بين الفلسفة والعلم من جهة وبتجاوز الفلسفات التقليدية من جهة أخرى. باشار كان بين اختيارين: إما أن يدرك التجاوز بطريقة مطلقة بحيث يجب اقصاء كل تعارض بين المواقف الفلسفية والنتائج العلمية، وإما يجب عليه فهم هذا التجاوز على أنه فقط مجرد احتفاظ على طبيعة هذه المواقف الفلسفية ومحاولة تبرير أو استبعاد تعارضها مع العلم.
ففي أي اتجاه سارت فلسفة باشلار؟ فلسفته سارت في اتجاه الفلسفات العقلانية التي بدأت مع برونشفيك (Brunschvicg) و أندري لالاند ( André Lalande, 1867-1963) والتي استمرت بعد باشلار مع رُبيرت بلانشي (Robert Blanché, 1898-1975). هذه الفلسفات حاولت تجديد مواقفها لتتلاءم مع طبيعة العلوم المعاصرة.[14]