1
حين يستوعب الإنسان فكرة رائعة وجديدة، تستولي عليه لحظة تُسمّى ـ ” لحظة الاكتشاف “. (فايمن، 2005، ص 16). هذه اللّحظة تؤكّد أنّ هناك جديدا في هذا العالم،
وأنّ الإنسان حاضر ليشهد هذا الحدث الفريد والجديد، وهو شعور لا يقلّ عن شعور الإنسان الّذي عاش عمره في كهف، ثمّ خرج فجأة ليرى الشّمس السّاطعة؛ كما في الحكاية الّتي رواها أفلاطون.
قد تكون لحظة الاكتشاف لحظة رائعة، وقد تكون لحظة مريعة. وكوني أصفها بالرّائع والمريع فلأنّني أريد أن أبيّن كيف يدخل مستوى الرّوعة في مستوى التّرويع، ويفضي إليه. وتلافيا لسوء الفهم فالرّائع والمريع واشتقاقاتهما في هذا التّحليل مجرّد مستويين لا يحملان أيّ بعد مفهومي، تحدّثت عنه الباحثة التّونسيّة أم الزّين بنشيخة المسكيني في كتابها المهمّ عن مفهوم الرّائع في الجماليات المعاصرة بقدر مّا يحملان بعدا تصويريا؛ مع الأخذ في الاعتبار بعدم وجود أي انفصال بينها.
المنطق الّذي يستند إليه الرّائع والمريع معا هو: المنطق المتدرّج. ينطلق هذا المنطق من مبدأ عام هو ” كلّ شيء قابل للتّدريج (مفتاح، 1996، ص 17) وهذا التّدريج قابل لأن يجمع بين الشّيء ونقيضه. فالرّائع يبْهر، ويُحدِث شعورا بالعظمة، ويولّد من الدّهشة، لكنّ المريع أيضا مدهش إذ تعطّل النّفسُ كلَّ حركاتها. إنّ المريع هو رائع بشكل لا يصدق، وهو خروج الرّائع عن طوره.
من أجل لحظة الرّائع والمريع هذه سأحلّل فيما يلي خمس تجارب متشابهة تجمع بين الرّوعة والتّرويع. أعرف أنّ الإقناع لا يحدث بتكرار الأمثلة ولا بكثرتها إنّما يحدث بدقّة التّحليل. وحين كرّرت التّجارب رغم تشابهها فإنّما أريد من ذلك أنّ أظهر أن تحليل تجربة واحدة لم يستهلك قدرتي على أن أفهم وأحلّل تجارب أخرى مماثلة بطرق جديدة تفتح زوايا أخرى.
2
يروي باحث الأديان فراس السّواح (2004، ص 7) إحدى تجاربه قائلا: مشيت حافيا فوق البلاط الحجري للأرضيّة الدّافئة الّتي امتصّت شمس النّهار، ثمّ افترشت حصيرا من تلك الّتي تفرش عادة في الأروقة الخارجيّة للمساجد، استلقيت متحسّسا خوص الحصيرة المجدل. كإن دافئا وتنبعث منه تلك الرّائحة الأليفة لنبات الأسل تحمل معها على الدّوام عبق اجتماع النّاس وأحاديث السّمار. وعندما اتّصل بصري بالقبّة السّماويّة اجتاحني تدريجيا شعور لا يمكن إعطاؤه حقّه من الكلمات .. كانت سيالة زرقاء تملأ الكون فتشدّني إلى الأعالي. أو تهبط بالأعالي إلى حصيرتي .. المآذن من فوقي تتقارب وتتلاقى، ثمّ تغيب في الأعماق، والأعمدة والجدران تتباعد ثمّ تتلاشى وراء آفاق غير منظورة .. تحسّست الزّرقة تحت لساني وفي الأوعيّة الشعريّة تحت الجلد، ثمّ تفتّت قطعا زرقاء تتطاير كندف قطن لا وزن لها .. لم أعد موجودا .. أو لعلّ من الأنسب أن أقول لم أشعر بمثل هذا الوجود الحقّ من قبل، ولن أشعر به إلّا مّرات قليلة بعد ذلك. لا أدري كم مضى عليّ في تلك الحالة، وعندما أخذت الأشياء تستعيد صورتها من جديد مستجمعة شتاتها من هيولي نشأتها، تجمعت إلى أجزائي، وعدت سيرتي الأولى “.
حدث له مرّة ثانية ما يشبه هذه التّجربة (نفسه، ص 10) لكن ليس في مسجد ولا في مدينته حمص؛ إنّما في كاتدرائيّة مونماتر في مدينة باريس. يقول: ” ارتفعت قبّة الكنيسة، توسّعت حتّى تلاشت في الظّلام الكونيّ، وتباعدت الجدران والأعمدة .. تحوّلت الأشياء إلى كلمات لا تنضوي كلّ كلمة على معنى بعينه، بل تحتوي كلُّ كلمة كلَّ كلمة أخرى، معنى واحدا يتبدى بألف لون ولون … ثمّ رأيتني على صليب تتطاول أذرعه نحو اللانهائيات الأربع وأنا في نقطة التّقاطع”.
غير هاتين التّجربتين جرّب السّواح تجربة ثالثة، لكنّ هذه المرّة في البيت وبتأثير لحن صوفي يقول: ” لا أدري هل درت أم دار الكون من حولي؛ كلّ الكون .. اختلطت الأشياء وتمازجت ألوانها ثمّ ذابت خطوطا في حلقات تتّسع، حتّى ضاع الشّكل واللّون. الإنسان في المركز، وكلّ المجرّات حتّى أبعدها عند حواف الكون تدور وتدور. صار الكون إنسانا، والإنسان صار كونا “.
كيف نحلل هذه التّجارب من وجهة النّظر التّي تعنينا؟ أول ما يلفت النّظر هو إنّ هذه التّجارب تتعلقان بطبيعة الإنسان القابل أن تحدث له تجارب كهذه. فلو أن الإنسان غير قابل لتجربة كهذه لما حدثت؛ أي أنّ هناك استعدادا قبليا عند الإنسان لتجارب كهذه.
لكن حتّى لو كان الإنسان مستعدا قبليا لمثل هذه التّجارب، إلاّ أنّ من الواضح أنّه لا يستطيع أن يتفهّمها في ضوء العقلانية؛ ذلك أنّ العقلانية تعجز عن تبرير عبارتين كهاتين ” تحسّست الزّرقة تحت لساني، وفي الأوعيّة الشعريّة تحت جلدي ” أو عبارات أخرى كهذه ” كانت (القبّة السّماويّة) سيالة زرقاء تملأ الكون فتشدني إلى الأعلى .. أو تهبط بالأعالي إلى حصيرتي “.
يمكننا أن نذهب إلى أنّ غير العقلاني طغى على التّجارب الثلاث؛ لذلك عجزت اللّغة عن نقل لا عقلانية التّجربة. ما حدث هو ” شعور لا يمكن إعطاؤه حقّه من الكلمات “؛ لذلك نُقلت إلينا التّجربة بلغة تقريبيّة تمتاح من الخيال، وتتمثّل في الصّور البصريّة كالهبوط والسّيولة والشدّ إلى أعلى والتّقارب والتّلاقي والتّطاير. وكما يبدو فإنّ هناك حالة فراغ يسقط فيها الإنسان، حيث لا يدري ” كم مضى عليّ في تلك الحالة “؛ وهي حالة لا تعود فيها الأشياء كما هي؛ فحين يخرج الإنسان من ذلك الفراغ تستعيد الأشياء ” صورتها مستجمعة شتاتها من هيولي نشأتها “.
ستلفت نظرنا كلمة ” هيولي “؛ ذلك أنّنا حين نفرّق بين هيولي الأشياء وبين تركيبها (صورتها) فسيبدو لنا الهيولي جوهرا أساسيا لا طابع (صورة) له، لكن إمكان تلقي الصّورة متوفر؛ فالصّورة محايثة، وصور الأشياء لا توجد إلّا من حيث هي صورة لهذا الّشيء أو ذاك. هناك هيولي اتّخذ صورته في قبّة السّماء كما نعرفها؛ وهي صورة غير سيالة، لا تشد الإنسان ولا تهبط به، ولا تتفتّت. لكن في التّجربة اتخذ الهيولي صورة غير مألوفة لنا في حياتنا اليوميّة.
أكثر من ذلك لا بدّ من إأن تثير انتباهنا هذه العبارة ” تجمّعت أجزائي، وعدت سيرتي الأولى “؛ فهناك سيرة أولى هو الإنسان كما نعرفه في الحياة اليوميّة، لكن في تجربة كهذه هناك سيرة ثانية تفسّرها حالة السّواح في التّجربة الثانية حيث ” رأيتني على صليب تتطاول أذرعه نحو اللانهائيات الأربع وإنّا في نقطة التّقاطع “. فبعد هذه الحالة الغريبة عن حياته الّتي يعرفها عاد إلى حياته الّتي يعرفها. إنّ العودة إلى السّيرة الأولى ضروريّة لحكي التّجربة، وتعبّر عن الانتقال بين وجهة نظر داخليّة إلى وجهة نظر خارجيّة؛ أعني من حياة التّجربة غير اليوميّة إلى حياة التّجربة اليوميّة، ووجود نهاية كهذه يعني الانتقال من منظومة إدراك إلى منظومة إدراك أخرى.
3
هناك تجربة اُستحْضرت بوسيلة صوفيّة وهي تجربة أشدّ تعقيدا ممّا جرّبه فراس السّواح. يعبّر عبّاس عبد النّور (2004 ص 20) عن تجربته الصوفيّة قائلا ” النّور السّاطع الّذي يفجّر كلّ شيء .. اللّجين الّذي يتلألأ كأنّه كوكب دري. بحيرات من البلور الصّافي تملأ الأفق المفتوح. ناعمة تكاد من ذراها تترقرق نهرا مشعشعا بالنّور. مرايا لا يرى المرء فيها وجهه فقط، بل يرى الأكوان والأزمان، ومواكب العصور والدّهور .. إنّ ذلك كان يستغرق منّي لحظات قليلة، لا ألبث بعدها أن تعود حواسي. فأصحو من حالي تلك الّتي تكون فيها العادة شبيهة بالغشيّ. وهكذا تزل قدمي عن ذلك المقام، ويلوح لي العالم المحسوس كأنّه مرآة صدئة قد ران عليها الخبث “.
إنّ أوّل ما نلاحظ هو تحوّل اللّغة الدّنيويّة البصريّة التّصويريّة الّتي عبّر بها فراس السّواح كالتّمازج والاختلاط والذوبان والاتّساع إلى لغة دينيّة عند عبّاس عبد النّور كاللّجين المتلألئ، الكوكب الدّري، والبلور الصّافي، والنّهر المترقرق. وحين أقول لغة دينيّة فإنّي أعني مرجعيتها في القرآن، ولو أردت لعبرت عن هذه التّجربة بهذه الآيّة الكريمة ” الله نور السّموات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزّجاجة كأنّها كوكب درّي (سورة النّور، آيّة35).
إذا ما أردنا أن نفهم أكثر تجربة عبّاس عبد النّور فلا بدّ من نأخذ بعين الاعتبار أنّ مجمل تجربته ليس مجموع ما وصفه. هناك لجين متلألئ، وكوكب درّي، ونهر مترقرق، وبحيرات من البلور، لكن ليست هذه كلّ التّجربة. فبعد كلّ هذه الأشياء وغيرها ممّا ورد في الوصف؛ هناك فرق بينها وبين التّجربة ككلّ، وإذا ما كان لي أن أشبّه هذه التّجربة ووصفها فسأقول إنّ تجربة عبد النّور تشبه اللّوحة الفنيّة أو القصيدة؛ ذلك أنّه لا يمكن أنّ نحيل اللّوحة إلى كميّة الألوان المستخدمة، ولا القصيدة إلى كميّة الكلمات؛ ذلك أنّ ألوان اللّوحة وكلمات القصيدة ليست كلّ اللّوحة أو القصيدة. وهكذا فإنّ مكوّنات تجربة عبد النّور ليست هي التّجربة كلّها.
هناك فائض في تجربة عبّاس عبد النّور يعاش ولا يوصف، وعبد النّور لم يجد وسيلة يعبّر عنه؛ لذلك فهو يتحسّر ويندب حظّه على أنّه لا يستطيع أنّ يعبّر عن هذه التّجربة خير تعبير. يقول: ” في هذه السّاحة اللألاءة أقفل مندهشا مبهوتا يملؤني شعور طاغ بالحسرة والأسى؛ لأنّني لست رسّاما ولا شاعرا فأسجّل ما أنا فيه من بهجة وحبور. من يدري؟ لو كنت شاعرا ملهما لتمرّدت علي حروف اللّغة الّتي أتقنتها دهرا فتهرب منّي لحظة واحدة … كان من شأن ذلك الجمال الرّوحي الخالص، ذلك المشهد الملكوتي السّرمدي أن يورثني عقلة في اللسان … “. ثمّ يضيف مباشرة ” هناك ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. إنّ كثيرا من الأمور الّتي قد تخطر على قلب البشر يتعذّر وصفها، فكيف بأمر لا سبيل إلى خطوره على القلب، ولا هو من عالمه ولا من طوره. زبدة القول: إنّ تلك الحالات الّتي كانت تتجلّى لي في لحظات الإشراق هي ممّا لم يقم ببال أحد، فمن رام التّعبير عنها فقد رام مستحيلا! ” .
هذا الفائض الّذي لا يوصف في تجربة عبد النّور هو الأصيل، وعليه يبدو مجديا أن يلوح العالم المحسوس كما لو أنّه مرآه صدئة قد ران عليها الخبث. لقد اجتهد لكي يجسد هذا الفائض النّكرة عند القارئ ليجعله يشعر به، لكن هيهات؛ فالتّعبير مستحيل، ولا أفضل من أن يعبّر عن التّجربة بنفي التّجربة عن الإنسان حيث ” هناك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر”.
ما الّذي حدث بعد ذلك؟ ألّف عبّاس عبد النّور كتابه ” محنتي مع القرآن ومحنتي مع الله في القرآن ” يحكي فيه مرحلة الإيمان الّتي جسّدتها تجربته هذه، ثمّ مرحلة الامتحان حيث تعرّض إلى مشكلات لم يخرجه الله منها، ثمّ مرحلة الإعصار الّتي تلتها مرحلة البحث وأخيرا القطيعة مع الله. والكتاب في مجمله يمثّل تفريغا انفعاليا تخلص في الكتاب وبواسطته من عواطفه المرتبطة بتجربته هذه، وهو بمعنى مّا استجابة ملائمة تتضمّن الأثر التّفريجي لتجربة رائعة ومروّعة.
4
يورد المفكر اللّيبي نجيب الحصادي (2013، ص 30) هذه الحكاية ” أمّا الشّاعر عاشور الطويبي فيروي أنّه كان يستمع ذات مرّة إلى تسجيل لعزف على آلة السيتار للموسيقار الهندي رافي شنكار، فاعترته حالة من النّشوة، انتفض بسببها جسده، فأخافه الأمر حدا اضطره إلى وقف شريط التّسجيل. بعد ذلك عرف أنّ هناك من أنواع الصّرع ما يعرف بصرع الموسيقى.
يسأل الحصادي عن سرّ هذه التّجربة، وعن مصدرها، وعن البهجة الّتي تعتري أوصالنا. ويقترح أنّ ذلك بسبب الإيقاع لكنّه يعود وينفيه، ويقترح خلق الكون وفق تناغم موسيقى (فيثاغورث) ثمّ ينفيه. ثمّ يتوقّف عن اقتراح الإجابة ليقول ” غير أنّنا بطرح هذه الأسئلة قد نضمر رغبتنا في فهم الفنّ على طريقة فهمنا لأيّ ظاهرة أخرى؛ أي بسبل علميّة إمبريقيّة صرفه، في حين المهمّ على حدّ قول إنسي الحاج: ليس أن نفهم الفنّ، بل أن تستريح لسماعه أعصابنا المتربصة “.
هناك سرّ في تجربة الشّاعر العربيّ وهو يستمع إلى آلة موسيقيّة هنديّة. لا يعرف الحصادي السّر، ولا الشّاعر ولا نعرفه نحن. ثمّة إحساس بأنّ تجربة كهذه لا تُفسّر، لكن ما إن تستمرّ في القراءة حتّى تشعر بأنّ التّفسير الّذي يقدّمه الحصادي هو أنّ الموسيقى خاليّة من ” لوثة الإيديولوجيا “؛ فالذّهن في حالة الاستماع إلى الموسيقى معطّل أو يكاد، والحواس وحدها هي الّتي تُسْتنْفر، والوجدان وحده هو الّذي يستجيب. إنّها لغة تناسب فطرة البشر بعد أن تنصّلت من الواقع.
نحن نعرف أنّ شنكار يعزف ولا يصاحب عزفه الغناء؛ أي أنّه يعزف عزفا منفردا على آلة السيتار؛ ومن هذه الزاوية فإنّ نفي الإيديولوجيا عن الموسيقى يعني أن لا لفظ يصاحب العزف؛ أي لا نصّ يُغنّى ليعبّر عن أحاسيس ثقافيّة إن صحّ التّعبير كالحنين والحزن والحبّ إلخ.
حين ألخّص فكرة الحصادي عمّا يجعلنا نطرب ونبتهج مع الموسيقى فلكي أنبّه القارئ إلى أنّ أهمّ ما شغل الحصادي هو أن يثبت لنا أنّ الموسيقى ” فعل مجرّد “؛ وصياغة السّبب على هذا النّحو يساعد على تفهّم التّنصّل من عادات الواقع وأعرافه وتقاليده وهو ما يعني بقاء الإنسان المحض. العزف المنفرد مستقل وقائم في ذاته، ومن هذا المنظور يمكن أن نتفهّم كون الموسيقى تعلّق الحكم، لا تقر شيئا ولا تروّج لشيء، لا لغو فيها ولا يوجد وراءها مقاصد مريبة. لا تشتغل بالتّواصل، ولا تعنى بتبليغ الأفكار. وأكثر من هذا لا يوجد من ورائها أي غاية من الغايات.
يشبّه ما اعترى الشّاعر الطويبي من أعراض أعْراض نوبة الصّرع، والحالة المثاليّة لروعة النّوبة الصرعيّة وترويعها هي حالة الأمير موشكين في رواية الأبله (دوستويفسكي، 1985، ص 473 وما بعدها) حيث القلق العميق، والتّوتر الأليم، والشّعور بالحالة القصوى إلى الوحدة. الضّياء السّاطع الّذي ينير لحظة الظّلمات. إضطراب الذّهن، واستعار جميع القوى الحيويّة، ومضاعفة الإحساس بالحياة. اشتداد الوعي، ووميض البرق، وإشراقة القلب والفكر معا. يتلو الاضطراب والشّكوك والقلق طمأنينة وعاطفة واعتدال واندماج مع الفرح كما لو كان في صلاة.
5
هناك ملمح مشترك بين التّجارب الّتي ذكرناها؛ وهو أنّ الجانب اللاعقلاني يطغى على الجانب العقلاني، لكنّ المجرّبين صاغوا اللاعقلاني بلغة العقلاني، وهذه الصّياغة نقلت اللّغة من كونها (من المفترض) أداة لجعل العالم الغريب موجودا إلى كونها أداة لتوصيل أفكار عن هذا العالم. وبذلك فالبشر عاجزون لغويا عن رؤية عالم القوى الّذي رآه بوضوح هؤلاء المجرّبون. وهو بطبيعة الحال عالم تختلف قوانينه عن قوانين عالمنا، وأقرب لقوانين الأساطير والأحلام.
في هذه التّجارب هناك شيء مّا رائع ومريع أبعد من قدرة الإنسان على أنّ تصوّره أو أن يعبّر عنه ينتظر الإنسان حين يدخل في تجارب كهذه؛ يظهر لنا هذا الرّائع والمريع غير المتصوّر في لغة عقلانية مفاهيميّة فالسّواح سمّى تجاربه بـ ” الوجود الحقّ (نفسه، ص 9) وهي تسميّة تفترض ضمنا وجودا مزيّفا. هذا الوجود الحقّ تجربة يمكن أن تُسْتحضر بوسيلة كما هو شأن اللّحن الصوفيّ الّذي استمع إليه السّواح والعزف المنفرد الّذي استمع إليه الطويبي، وكما هو شأّن عبد النّور في تجربته الصوفيّة فالصّرع مرض دُعي في مرحلة تاريخيّة بـ ” المرض المقدّس”، ونظر إليه على أنّه استعارة عقليّة للعذاب تلو العذاب في الوقت الّذي هو فيه استعارة للمتعة المروّعة المقبولة الّتي تمتلك عمقا وروعة عظيمة كما هي لحظة الاكتشاف.
من جهة أخرى ما حدث في هذه التّجارب كلّها يتطابق مع تحليل اللاّهوتي الألماني رودولف أوتو للتجربة الدّينيّة. درس أوتو التّجربة الدّينيّة من وجهة نظر ظاهراتيّة، وقد انتهى إلى أنّ التّجربة الدّينيّة انبهار وعظمة في الوقت الّذي تكون فيه خوف ورهبة. وهناك جانب لا عقلاني في التّجربة الدّينيّة. هذا الجانب اللاعقلاني غير قابل للنّقل باللّغة، وأكثر من هذا غير قابل للتّأويل الفكريّ أو العقليّ، وقد تقصى في كتابه المهمّ ” فكرة القدسي (1985) هذا الجانب غير العقلاني في التّجربة الدّينيّة وعلاقته بالعقلاني، وبيّن أنّ اللاّهوتيين عجزوا عن تبرير هذا الجانب غير العقلاني في التّجارب الدّينيّة للأشخاص العاديين والأنبياء والرّسل؛ وبدلا من أن يقبلوا العنصر اللاعقلاني في تجارب هؤلاء الدّينيّة أغرقوها في التّأويل الفكري والعقلاني.
يقترح أوتو أن تُسمّى ردّة الفعل الذهنيّة تجاه المقدّس في التّجربة الدّينيّة بـ ” حسّ الخليقة” أو “وعي الخليقة” (أوتو، 1985، ص 77) وهي لحظة يرافقها أحاسيس بالانسحاق وتلاشي الذّات. غير أنّ هذا الانسحاق وتلاشي الذّات يختلف عمّا يجرّبه الإنسان في الحياة اليوميّة ويعبّر عن ذلك بالضّعف. ما عسى أن يكون تلاشي الذّات في التّجربة الدّينيّة؟ ليس في وسع الإنسان الطبيعيّ أن يعرفه أو يتخيله. وحده الّذي يجرّب يخبر ويعرف تلاشي الذّات.
ما يهمّ موضوعنا هو أنّ اللّغة غير قادرة على أن تعبّر عن تلاشي الذّات في التّجربة الدّينيّة، وينبغي ألّا نشرح أو نؤوّل هذا الجانب غير العقلاني باللّغة الّتي تمثل الجانب العقلاني، وأن نتقبّله بوصفه جانبا من جوانب التّجربة الدّينيّة. إنّ كلمة (أخاف) في عبارة الطّفل (أخاف من أبي) تشبه لفظيا كلمة (أخاف) في عبارة مؤمن (أخاف من الله) لكن في حالة المؤمن هناك فائض ليس موجودا في عبارة الطّفل، وهو فائض لا يشعر به إلاّ المؤمن من دون أن يستطيع التّعبير عنه باللّغة.
6
من منظور آخر يتمّم كون التّجارب الّتي أوردناها تجارب دينيّة أنّها تتضمّن في تكوينها العامّ وتشير في مجملها إلى ما هو أكبر وما هو أصغر. قد يكون ما هو أكبر إلها. لنقل كائنا فوق طبيعي يقابله ما هو أصغر وهو الّذي تعرّض للتّجربة. يسمّي علماء بيولوجيا السّلوك الدّيني الموقف العام لهذه التّجارب (سلوك الأدنى، الأصغر الأكثر حساسيّة وتأثيرا (فيرمان، 2015، ص 161) ويعتبرونه النّمط الأوّل من أنماط السّلوك الدّيني، وهو موجود في كلّ أديان العالم الكبرى.
إسبال اليدين في الصّلاة أو ضمهما بوضع اليمني فوق اليسرى هو سلوك الأدنى، الأصغر. حالة الجسم في الصّلاة كالرّكوع والسّجود هو سلوك الأدنى، الأصغر. في مثل هذا السّياق فإنّ وظيفة سلوك الأدنى، الأصغر هو الخضوع. سلوك الأدنى، الأصغر موجود في الكائنات الحيّة وفيما بينها يهدئ من العدوانية حين يرى العدواني الآخر خاضعا مستسلما، وفي الوقت ذاته يهدئ الخائف.
هنا قد يكون مناسبا ونحن نتعرّض لسلوك الأدنى، الأصغر أن نضع في اعتبارنا أنّ هذا لا يقتصر على الكائن فوق الطّبيعي الأكبر والكائن الأصغر الطّبيعي في العالم إنّما يمكن سحبه على الأب والابن في الأسرة، وسوف يصبح هذا التّماثل بينهما واضحا إذا سمحنا لأنفسنا بأن يكون الكائن فوق الطّبيعي الأب، والكائن الطّبيعي الابن؛ عندئذ يمكن أن نقول: بالنّسبة للطّفل في الأسرة وبالنّسبة للمؤمن في العالم سيتحقّق لهما الأمان والاطمئنان بسلوك الأدنى والأصغر؛ فحينما يخضع المؤمن فهو يكرّر في تجربته الدينيّة عمليّة داخليّة فرضت عليه وهو طفل. أي أنّ السّلوك الدّيني انعكاس لعقاب بدني أثناء الطّفولة (آبيلو، 2015، ص 183 وما بعدها).
من الممتع بحث العلاقة بين خضوع الطّفل لأبيه لأنّ الأب الأكبر والطّفل الأدنى والأصغر وبين سلوكه الدّيني في مستقبل حياته، لكن بحث هذه العلاقة يتجاوز هدفنا، لذلك سنكتفي فقط بالإشارة إلى بعض الدّراسات الّتي انتهت إلى أنّ تعاليم العهد الجديد (الكتاب المقدّس) صنعت معنى لحياة المؤمنين الّذين قاسوا ويلات العقاب البدني من آبائهم حين كانوا أطفالا، وأنّ أفكار العهد الجديد تعكس أنماطا من العقاب في مرحلة الطّفولة؛ فالخوف يظهر في العهد الجديد بسبب وجود الأب المقدّس الّذي يهدد أبناءه بالجحيم؛ أي أنّ ” البنيّة اللاّهوتيّة العقابيّة المتخيّلة تماثل ذلك الألم أو تلك المعاناة الشّديدة الّتي تكون موجودة خلال مرحلة الطّفولة العاديّة (نفسه، ص 199). وهي دراسة يمكن تعميم ما انتهت إليه على الكتب المقدّسة للأديان التّوحيديّة.
ما الّذي يمكن أن ننتهي إليه؟ إنّ الدّين ربّما نشأ بتجربة أوّليّة تماثل التّجارب الّتي حلّلناها؛ وهي تجارب تجمع بين الرّوع والارتعاب والتّوجّس والجزَع والخوف والذّعر والرّهبة والرّعب والفزع والمهابة والهلع والهيبة والوجل وبين التّرويع والإخافة والتّخويف والإرهاب والإفزاع والتّرعيب والتّفزيع والتّهويل. هناك قوّة مدمّرة لكنّها في الوقت ذاته عذبة، شيء محبوب لكنّه يسحقّ ويدمّر، وهذه الحالة الّتي تجمع بين الرّائع والمريع يرافقها أحاسيس الانسحاق والتّلاشي.
في وضع رائع ومريع كهذا ربّما سأل الإنسان المجهولَ: ما الّذي تريده منّي؟ كيف أعرف ما تودّ؟ كيف أصبح ما تودّ أن أكون عليه؟ ولأنّ المجهول لم يجب فقد شعر الإنسان بلا وجوده وبعدمه. ولإنّ هذا وضع مقلق فقد تديّن ليشعر الإنسان ذاك المجهولَ بأنّه في حاجة إليه.
**********
المراجع:
- آبيلو، بنجامين: السّلوك الدّيني كانعكاس للعقاب البدني خلال مرحلة الطفولة، في بيولوجيا السّلوك الدّيني، جي.ر.فيرمان (تحرير)، ترجمة: شاكر عبد الحميد (القاهرة، المركز القومي للترجمة)، (2015).
- الحصادي، نجيب: نوستالوجيا، مقالات ودراسات ومراجعات (القاهرة، سلسلة الهلال العربي). الجزء 2، (2013).
- السّواح، فراس: دين الإنسان، بحث في ماهيّة الدّين ومنشأ الدّافع الدّيني (دمشق، منشورات دار علاء الدّين)، (2004).
- عبد النّور، عباس: محنتي مع القرآن، ومع الله في القرآن (دمنهور، طبعة تجريبيّة)، (2004).
- فايمن، ريتشارد: متعة اكتشاف الأشياء، ترجمة: إحسان الخضراء (الرّياض، مكتبة العبيكان)، (2005).
- فيرمان، راي: التّاريخ التّطوري للسّلوك الدّيني، في بيولوجيا السّلوك الدّيني، جي.ر.فيرمان (تحرير)، ترجمة: شاكر عبد الحميد (القاهرة، المركز القومي للترجمة)، (2015).
- مفتاح، محمد: التّشابه والاختلاف، نحو منهاجيّة شموليّة (الدّار البيضاء، المركز الثقافي العربي)،(1996).