ظهرت، قبل أيام، على شاشة فضائية جزائرية، واحدة من أشهر مغنيات الراي، شعبيتها لا يختلف فيها اثنان، فقد حافظت على مكانة متقدمة طيلة مشوارها، لم يتراجع أداؤها،
ولم تُحسب عليها فضائح ولا تقلبات، وظهورها في التلفزيون، وهي التي عُرف عليها معاداة الكاميرا، لم يتأت إلا بعد محاولات ماراثونية قصد إقناعها، وحظي بأرقام مشاهدات عالية، فقد تحدثت المغنية ذاتها عن عملها وعن حياتها الشخصية، عن زوجها وبناتها ومقتنياتها، عن بيتها وصديقاتها واستجابت إلى «ما يطلبه المشاهدون»، وأشبعت فضولهم، لكن الفضائية التي استضافتها دفعتها ـ مكرهة ـ إلى المُجاهرة بعلاقتها بالدين، وأن تصرح بنيتها الاعتزال مستقبلاً، وتكفر بما تفعل الآن.
وجدت تلك المغنية نفسها محاصرة ومرغمة على أن تتبرأ من حياة الليل، ومن سهرات الملاهي، أن تتوب عن الرقص وحمل الميكروفون، وتتقدم بالاعتذار عن أغانيها، انساقت في الرد على الأسئلة بما يرضي رغبة السائلين، وجارت الإلحاح الذي تعرضت له، وتحول المشهد من حوار في الفن وشؤونه إلى حوار في الدين وفرائضه، فقد ظننا أن سنوات تكفير المغنين، وإرغامهم على هجر الفن قد انقضت، لكن يبدو أنها توارت فقط، وقد عادت في الفترة الأخيرة بثوب أكثر نصاعة، تكاد الفضائيات الجزائرية أن تتحول في مجملها إلى دور الإفتاء، تعلي من الغيبيات وتزيح العقل إلى الوراء، لقد استفاق المحافظون الجدد من قيلولتهم، واتخذوا من الدين واجهة لهم في برامجهم، يستميلون المشاهدين أو يفزعونهم بما أوحي إليهم من خطابات ديماغوجية.
قطعت الجزائر سنوات من المحن، قصد الخروج إلى الانفتاح، التحرر، لكن التزمت هو الذي انتصر، إلى حد الآن، وتصدر المحافظون الجدد الواجهة، وإذا أردنا تقديم تعريف لهم فهم أشخاص يميلون إلى التفريق بين الأفراد، بين من هم «مثلهم» ومن «يختلفون عنهم»، ينظرون إلى مواطنيهم طبقات، حسب ولاء كل طبقة لهم، وكلما زاد ولاء طبقة زاد احترام المحافظين لها، والولاء في هذه الحالة دائماً يتصل بالعلاقة بالدين، وإثبات حسن النوايا في الطاعة، وفي ملازمة العادات والتقاليد، وعدم الانزياح عنها. إن المحافظين الجدد يرسمون حدوداً داخل المجتمع ذاته، ويزرعون فيه الغيتوهات، إذا كنت غنياً يعني بالضرورة أنك فاسد، الفقير هو أصدق الناس، الأجنبي عدو، هكذا يعتقدون ويصرحون بأنهم يقبلون الموت من أجل الوطن، لكن لا يحتملون النظر إلى مواطن يختلف عنهم. وما ورد على تلك الفضائية التي استضافت مغنية الراي، ليس موقفا منعزلاً، ولا فلتة سقطت سهواً، إن إكراه الآخر على المجاهرة بعلاقته بالدين خطاب تعاظم في الجزائر، نصادفه في المدرسة والشارع والجامعة والأمكنة العامة، وبات الدين هو الموضوع الأثير بين الناس، لا يختلفون فيه.
ولم تُحسب عليها فضائح ولا تقلبات، وظهورها في التلفزيون، وهي التي عُرف عليها معاداة الكاميرا، لم يتأت إلا بعد محاولات ماراثونية قصد إقناعها، وحظي بأرقام مشاهدات عالية، فقد تحدثت المغنية ذاتها عن عملها وعن حياتها الشخصية، عن زوجها وبناتها ومقتنياتها، عن بيتها وصديقاتها واستجابت إلى «ما يطلبه المشاهدون»، وأشبعت فضولهم، لكن الفضائية التي استضافتها دفعتها ـ مكرهة ـ إلى المُجاهرة بعلاقتها بالدين، وأن تصرح بنيتها الاعتزال مستقبلاً، وتكفر بما تفعل الآن.
وجدت تلك المغنية نفسها محاصرة ومرغمة على أن تتبرأ من حياة الليل، ومن سهرات الملاهي، أن تتوب عن الرقص وحمل الميكروفون، وتتقدم بالاعتذار عن أغانيها، انساقت في الرد على الأسئلة بما يرضي رغبة السائلين، وجارت الإلحاح الذي تعرضت له، وتحول المشهد من حوار في الفن وشؤونه إلى حوار في الدين وفرائضه، فقد ظننا أن سنوات تكفير المغنين، وإرغامهم على هجر الفن قد انقضت، لكن يبدو أنها توارت فقط، وقد عادت في الفترة الأخيرة بثوب أكثر نصاعة، تكاد الفضائيات الجزائرية أن تتحول في مجملها إلى دور الإفتاء، تعلي من الغيبيات وتزيح العقل إلى الوراء، لقد استفاق المحافظون الجدد من قيلولتهم، واتخذوا من الدين واجهة لهم في برامجهم، يستميلون المشاهدين أو يفزعونهم بما أوحي إليهم من خطابات ديماغوجية.
قطعت الجزائر سنوات من المحن، قصد الخروج إلى الانفتاح، التحرر، لكن التزمت هو الذي انتصر، إلى حد الآن، وتصدر المحافظون الجدد الواجهة، وإذا أردنا تقديم تعريف لهم فهم أشخاص يميلون إلى التفريق بين الأفراد، بين من هم «مثلهم» ومن «يختلفون عنهم»، ينظرون إلى مواطنيهم طبقات، حسب ولاء كل طبقة لهم، وكلما زاد ولاء طبقة زاد احترام المحافظين لها، والولاء في هذه الحالة دائماً يتصل بالعلاقة بالدين، وإثبات حسن النوايا في الطاعة، وفي ملازمة العادات والتقاليد، وعدم الانزياح عنها. إن المحافظين الجدد يرسمون حدوداً داخل المجتمع ذاته، ويزرعون فيه الغيتوهات، إذا كنت غنياً يعني بالضرورة أنك فاسد، الفقير هو أصدق الناس، الأجنبي عدو، هكذا يعتقدون ويصرحون بأنهم يقبلون الموت من أجل الوطن، لكن لا يحتملون النظر إلى مواطن يختلف عنهم. وما ورد على تلك الفضائية التي استضافت مغنية الراي، ليس موقفا منعزلاً، ولا فلتة سقطت سهواً، إن إكراه الآخر على المجاهرة بعلاقته بالدين خطاب تعاظم في الجزائر، نصادفه في المدرسة والشارع والجامعة والأمكنة العامة، وبات الدين هو الموضوع الأثير بين الناس، لا يختلفون فيه.
لأن الجميع مطالب بإثبات انتمائه للعقيدة، تجنباً لما قد يتعرض له من سوء فهم، أو عنف لفظي أو جسدي أحياناً، وهذا الميل المفرط في تقسيم الناس على هوى المحافظين الجدد، أفرز جماعات اجتماعية غير مرغوب فيها، على رأسهم المغنون، فالجميع يستمع إليهم، في السر، والجميع يتمنى لو أن المغني يهجر فعله، و«يتوب»، ويتذكر الكثيرون حادثة واحد من المغنين تحول، قبل سنوات، من الراي إلى الأناشيد الدينية، فصار محبوباً في الظاهر، لكن المفارقة أن الذين يستمعون إلى أغانيه «الرايوية» القديمة أكثر بكثير من الذين يستمعون إلى أناشيده الدينية. انتصر الدين على الراي في الظاهر وانهزم في الباطن.
لا يؤمن المحافظون الجدد بالفرد، وأن المجتمع كتلة من الأفراد، كل واحد منهم يختلف عن الآخر، بل ينظرون إلى المجتمع كأمة تاريخية واحدة، كتلة متشابهة، عقيدة وسلوكاً وثقافة، لا يقبلون النشاز، ولا النقد، يهمهم جعل الجميع متشابهين كي يسرعوا من عملية الهيمنة عليهم. ويمكن أن نعزي عودتهم وتوسع حضورهم إلى فشلنا في التأسيس لدولة مدنية، تلك الدولة التي كلما جاء رئيس وعد بها، لكنها لم تتحقق إلى الآن. فشلنا في التأسيس لمجتمع معاصر وديمقراطي، وانشغلنا بالتنظير، وضيعنا وقتاً طويلاً في انعدام الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، ما أفسح الفجوة للمحافظين الجدد ـ للغرابة غالبيتهم من جيل الشباب ـ كي يستفيدوا من ميل الناس للدين ويحولوهم إلى أتباع لهم، لا مواطنين مكتملي الحقوق مثلهم. إن الشعور بالهزيمة يسهل اعتناق الجزائري هذا الخطاب المحافظ الجديد، وشعوره بالعجز إنه لم يحقق شيئاً في حياته، ففي نظر الجزائريين عموماً أن الأبطال الوحيدين هم أولئك الذين سقطوا في ثورة التحرير، ولا يقرون بأي بطل بعدهم، رغم مرور قرابة ستة عقود من الاستقلال.
هذا التفكك الاجتماعي وسطوة جماعة ضئيلة، تمكنت من تمرير خطابها، يعلن فشل المدرسة في تحقيق المساواة التي أنشئت من أجلها، فقد راحت المدرسة الجزائرية ضحية صراعات ضيقة، وبدل عزلها عن الخصوم السياسيين، فقد أسند لهم الخوض في شؤونها، وقد ظهرت نزعة، تتوسع كل سنة، يعمل من خلالها أولياء على توجيه أبنائهم نحو تعليم ديني، انصياعاً للخطاب المحافظ، الذي يؤمن بالتاريخ لا بالحاضر، ينظر للبلد نظر ماضوية على أنه عاش في السابق مسلماً، ولا بد أن يظل كذلك، مع تعمد محو التعدد الديني في البلد وإلغاء المختلفين عنهم، مثلما سعوا إلى محو تعدده الثقافي، وقد سمحت لهم التكنولوجيا الجديدة والميديا مدّ نشاطهم، والوصول إلى أتباع إليهم في بيوتهم، إنهم يعترضون على أي تغيير اجتماعي أو سياسي، يفضلون العيش في شرنقة العادات والتقاليد المتوارثة، ويعادون من يعارضهم الرأي، لذلك عندما نُعيد مشاهدة الحوار الذي أجري مع مغنية الراي تلك، نلاحظ اندهاشها كيف تحول حديث من الفن إلى الدين، وأحرجت أيضاً في الإجابة بما يخالف رأي المحافظين الجدد، الذين يودون رؤية شعب بأكمله يشبههم، وحماستهم في هذا الاتجاه توحي بأنهم يقبضون بين أيديهم على ضمانات من أعلى، فمتى تخرج الجزائر من التزمت إلى التعدد؟
لا يؤمن المحافظون الجدد بالفرد، وأن المجتمع كتلة من الأفراد، كل واحد منهم يختلف عن الآخر، بل ينظرون إلى المجتمع كأمة تاريخية واحدة، كتلة متشابهة، عقيدة وسلوكاً وثقافة، لا يقبلون النشاز، ولا النقد، يهمهم جعل الجميع متشابهين كي يسرعوا من عملية الهيمنة عليهم. ويمكن أن نعزي عودتهم وتوسع حضورهم إلى فشلنا في التأسيس لدولة مدنية، تلك الدولة التي كلما جاء رئيس وعد بها، لكنها لم تتحقق إلى الآن. فشلنا في التأسيس لمجتمع معاصر وديمقراطي، وانشغلنا بالتنظير، وضيعنا وقتاً طويلاً في انعدام الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، ما أفسح الفجوة للمحافظين الجدد ـ للغرابة غالبيتهم من جيل الشباب ـ كي يستفيدوا من ميل الناس للدين ويحولوهم إلى أتباع لهم، لا مواطنين مكتملي الحقوق مثلهم. إن الشعور بالهزيمة يسهل اعتناق الجزائري هذا الخطاب المحافظ الجديد، وشعوره بالعجز إنه لم يحقق شيئاً في حياته، ففي نظر الجزائريين عموماً أن الأبطال الوحيدين هم أولئك الذين سقطوا في ثورة التحرير، ولا يقرون بأي بطل بعدهم، رغم مرور قرابة ستة عقود من الاستقلال.
هذا التفكك الاجتماعي وسطوة جماعة ضئيلة، تمكنت من تمرير خطابها، يعلن فشل المدرسة في تحقيق المساواة التي أنشئت من أجلها، فقد راحت المدرسة الجزائرية ضحية صراعات ضيقة، وبدل عزلها عن الخصوم السياسيين، فقد أسند لهم الخوض في شؤونها، وقد ظهرت نزعة، تتوسع كل سنة، يعمل من خلالها أولياء على توجيه أبنائهم نحو تعليم ديني، انصياعاً للخطاب المحافظ، الذي يؤمن بالتاريخ لا بالحاضر، ينظر للبلد نظر ماضوية على أنه عاش في السابق مسلماً، ولا بد أن يظل كذلك، مع تعمد محو التعدد الديني في البلد وإلغاء المختلفين عنهم، مثلما سعوا إلى محو تعدده الثقافي، وقد سمحت لهم التكنولوجيا الجديدة والميديا مدّ نشاطهم، والوصول إلى أتباع إليهم في بيوتهم، إنهم يعترضون على أي تغيير اجتماعي أو سياسي، يفضلون العيش في شرنقة العادات والتقاليد المتوارثة، ويعادون من يعارضهم الرأي، لذلك عندما نُعيد مشاهدة الحوار الذي أجري مع مغنية الراي تلك، نلاحظ اندهاشها كيف تحول حديث من الفن إلى الدين، وأحرجت أيضاً في الإجابة بما يخالف رأي المحافظين الجدد، الذين يودون رؤية شعب بأكمله يشبههم، وحماستهم في هذا الاتجاه توحي بأنهم يقبضون بين أيديهم على ضمانات من أعلى، فمتى تخرج الجزائر من التزمت إلى التعدد؟
٭ كاتب من الجزائر