الْتَفَتُّ إليه حانقا، فلاحت لي يده تزحف كأفعى راقصة قرب
جهاز المذياع المتهالك وهي تعبث بأزراره. وبعد تجوال قصير في محطات إذاعية محدودة
استقرت أصابعه على
إذاعة تبث أغنية “يا حريمة” للمطرب حسين نعمة. بصراحة
أقولها وأنا في هذه الحال ما عادت تلك الأغنية الشجية هي المفضلة لديّ كما كنت
أستعذبها في ما مضى من عمري نتيجة لما يقوم به هذا المجنون الجالس بجواري فقد راح يتمايل
برأسه المدور مع أنغام الأغنية التي باتت نشازا يلد نشازا آخر، مما دعاني إلى نهره
بعصبية.– ركِّز على الطريق رجاءً.. ويا حبذا لو زدت في سرعتك والتزمت الصمت ,, فأنا على موعد مهم
– ما هذا التناقض. التركيز على الطريق وسرعة القيادة لا يتناسبان مطلقا. دعك من كل ذلك واسمعني جيدا ….
وضع للسانه جناحين وانطلق يسرد لي مبتسما تفاصيل حياة المطرب وأثر الأغنية على حياته ذاهبا باتجاه مغامراته الشخصية وعلاقاته الحميمية مع النساء .. وبهزة من رأسي أبديت تأسفي لتورطي بكراء غريب الأطوار هذا والذي لم يأبه لهزة رأسي وما فيه من غليان وواصل هذيانه على أنغام الأغنية .. ودون سابق إنذار هطلت الأمطار بشدة واضحة بدا أثرها جليا وهي تنقر صفيح السيارة وزجاج النوافذ كفريق دجاج ينقر كومة حنطة بِشَرَه الجائعين .. لحظتها انعدمت الرؤيا فعالجها السائق بتشغيل الماسحات.. ونتيجة لِقِدَمِها وتيبسها راحت تعزف لحنا غوغائيا همجيا زاد من مستوى القهر الذي لازمني في ظل هذا السائق المتخلق بأخلاق بعوضة تافهة.
– يا صبر أيوب
فكرتُّ جدياً بإيقافه، والنزول لكراء سيارة أخرى. لكن ما جعلني أتراجع عن ذلك هو أنّ النتيجة ستؤول إلى عدم وصولي قاعة المعرض التشكيلي في الوقت المناسب والتشرف بمشاهدة لوحات رسام البورتريه نادر النادر القريبة لقلبي وبالتالي سأفقد هذه الفرصة الجمالية التي انتظرتها طيلة أعوام مضت بقدوم الفنان نادر النادر بعد طول غياب في بلاد المهجر بغية أن يقدم أعماله هنا في بلده بعد تحقيقها نجاحا هناك.
لا خيار لدي سوى تحمل هذا اللجوج ومتابعة حركاته المقززة فاقتنعت صاغرا مثلما يقتنع الفقراء بطبخ طعامهم سلقا إن شح الزيت، عملت الشيء الوحيد الذي أقدر عليه إزاء هذا العذاب بأن أدميت سبابتي عضّا حتى كدت ألتهمها.
اجتمع المطر بمعية حسين نعمة والماسحات بتحد كبير في مواجهتي لتتسرب أصوات الجميع من خلال طبلة أذني حتى أعماق روحي لإقامة حفلة تقريع وتعذيب لذاتي بسادية كان قائدها رعونة هذا السائق الذي واصل عدم اكتراثه لما أنا فيه فمد يده اليمنى لرفع حدة صوت الأغنية، علا الصوت فالتفت إليّ .. فعلت مناسيب قهري ثم عاد من جديد فغير الموجة فكانت أغنية أخرى كرهت مطربها حد اللعن، ثم أخرج يده اليسرى من نافذة التاكسي واستقبل دموع السماء براحة يده المكتنزة اللحم وراح يصهل مشاركا صهيل المطرب.
– الدنيا حلوة، الناس حلوة، والوطن باسم سعيد
– أي سعادة هذه أيها المعتوه؟ ستقتلنا. قف هنا
واصل قيادته وصهيله دون توقف مما دعاني للمغامرة بإمساك مقود السيارة بقوة وإقفال جهاز المذياع والصراخ بوجهه.
– قف .. قلت لك قف! قف! أيها التافه
قابل صراخي وجنوني بابتسامة مستفزة وأوقف السيارة وركنها على جانب الطريق مبتعدا بعشرين متر عن قاعة المعرض التشكيلي، فوصلنا متأخرين عن الموعد المحدد لافتتاحه. ترجلت من السيارة. غمرتني موجة برد قارص بمعية مطر كثيف لم يحدهما عديد ملابسي الشتوية في أن يجدا لهما موطأ قدم عند عتبات جلدي. لكنني لم أعبأ بشدتهما أو بالأحرى لم أشعر بهما لهول ما عانيته من سخافة السائق ولجاجته بل استجمعت شجاعتي ووجهت سهام نظري إلى عينيه مليا ففقأتها بشدة. ورغم برودة أعصابه المستفِزّة حاولت كبح جماح نفسي لكنني فشلت. أمرته بفتح نافذة السيارة فمرّرت يدي منها وأمسكت بيده اليمنى هذه اليد اللعينة التي ما كانت تبحث عن المحطات الإذاعية المناسبة بل كانت تلسع عقلي وقلبي بوخزات خبيثة، ووضعت النقود فيها وأطبقتها بقسوة وقلت له متعمدا مشاركة رذاذ بصاقي لكلماتي الثائرة.
– في المرة القادمة لا تسهب في التمايل كثيرا مع أنغام الأغاني العراقية وأنت تقلُّ في سيارتك بشرا، خوفا من أن تتسبب بحادث مروري يخسف بك الأرض وبمن معك.. نصيحة أخيرة: كُنْ حذرا يا صديقي من عشيقتك كي لا تزدريك لأنها ستكون في أحضان رجل آخر أكثر وسامة منك وأقل بصاقا متطايرا أثناء الحديث
استمر بفتح شدقيه مبتسما ببلاهة تخفي مكرا، ثم شغلَّ المذياع من جديد. وإذا بصوت حسين نعمة مشاركا فاضل عواد بأغنية “هي يا أهل العمارة” أِنْتَظَرَ ردة فعلي. واجهته بتقبل ما يقوم به باستسلام بعد يأسي من معالجة ما أحدثه في نفسي.. تطلع في النقود وكأنه يعدها غيبيا ثم دسها في جيب سترته المتهرئة، ولطمني بموجة ضحك ساخرة عكست ضحالته، وأدار محرك سيارته منطلقا وهو يوغل في تعذيبي برذاذ بصاقه المتطاير وهو يقول (ستنسى ولكن بعد أن تَكْبُر).
استقبلت موجة البرد وتساقط الأمطار بصدري فاتحا ذراعيّ برغبة الشفاء من كل هذا الوجع تبللت روحي فغُسِلَتْ من أدران هذا السائق المثير للجدل حتى بان ما فيها من رؤى وأحلام. نظرت إلى ساعتي بقلق لقد افتتح المعرض قبل وصولي بخمس دقائق “الحمد لله لم يضع من الوقت الشيء الكثير” بعدها ولجت باب القاعة المفتوح قليلا فشفطني وكأنّه دوامة محيط عانت الأمرين حتى عثرت بي.
غُصْتُ في أعماق القاعة فوجدتها تكتظ بالناس من مختلف الأعمار والأجناس، الجميع يتحرك كخلية نحل تتنقل بصخب ودوي بين اللوحات كحبل الحقائب في المطارات وهي تجوب دائرة بحلقة مستديرة بانسيابية حول المسافرين. تطلعت فيهم كعدسة كاميرا بلقطة بانورامية فلفت انتباهي أحدهم وهو يقف أمام لوحة تصور وحشا يستل عظام امرأة، شاهدته أي الرجل وهو يمسك بيد امرأة تجاوزت عقدها الخامس لم تدع صبغا تجميليا لم تلون به وجهها المتغضن، سمعته يتحدث عن جمالها بإسهاب ونفاق عجيب ترد عليه بابتسامة حذرة كي لا تكشف عن أسنانها المتهالكة.
– البرد يقتلني، والدفء الذي أطالعه في عينيك يدعوني لتذكر صوبة علاء الدين وهي تتوهج في ليالي الشتاء الموحشة في بيتنا القديم.
انتبها لي ولاحظا استغراقي بالتطلع اليهم، فجلدتهم بابتسامة غبية أشد غباءً من ابتسامة سائق التكسي، صَمَتَا، شعرت بالإحراج فأدرت وجهي ناحية أخرى ومشيت متنقلا بين اللوحات وأنا أحك رأسي بسبابتي ممررا إياها فوق انفي كأني عازف كمان ماهر وكل ذلك خجلا من ابتسامتي التي صعقت نفاق هذا المتيم بتلك المرأة القبيحة. دفعت بأقدامي مسرعا باتجاه بقية اللوحات علني أجد ضالتي فلفت انتباهي انتصاب لوحة متفردة عند زاوية لا تجاورها فيها أي لوحة أخرى مستقلة بشكلها الفنطازي ومعناها العميق كانت اللوحة لصياد سومري بقامة طويلة، طويلة جدا يرتدي البدلة الخاكية وينتعل البسطال العسكري والبيرية ذات النسر الذهبي وهو يقف أي الصياد على زورقه القيري المسمى “البلم” ورأسه عند حدود الشمس. تطلعت فيه بإعجاب فوجدته يسحب شباكه من النهر فتعلق فيها حوريات يرتدين السواد نائحات لاطمات وهن يمزقن الشباك. وقفتُ أمام اللوحة باستغراق فكري، تأملتها طويلا، بنيت صورا عديدة تتحدث عن تاريخ نعيشه كل حين، تاريخ من الأنين بصوت مبحوح. وقف بقربي شخصان تعرفت على أحدهما كان الممثل والمخرج المسرحي “ساري العبقري” كشفا عن عبقرتهما بتحليل وتفكيك اللوحة سيميائيا.
– لوحة عظيمة.. هذا الصياد متدين!! متصالح مع الحياة!! أعطاه الله أجره حوريات في الدنيا قبل الآخرة يتزوج منها ما يشاء
– هذا الرسام متدين بالفطرة
– انظر إلى الصياد ألا يشبه سعدون أبو طويلة
ضحكا ضحكة مجلجلة اهتزت لها القاعة وانتبه لها حتى الأطفال القادمون مع ذويهم. شاركتهما بابتسامة ذات معنى. التفتا ناحيتي فتفاجئا بي مبتسما.
– وأنت يا أستاذ ما رأيك؟
أبديت امتعاضي وانسحبت منهما بهدوء دون أن أشفي غليلهما بإجابتي. السماء ترعد بشدة والمطر يتراقص على زجاج النوافذ كشروخ رسمتها يد الأقدار على جدران الحياة الباهتة.. واصلت تجوالي بين اللوحات معجبا بها حتى تذكرت صديق طفولتي الفنان نادر النادر الذي كنت أضربه ضربا مبرحا لأنه كان كثير الغش في لعبة “التصاوير” ابتسمت في سري واستعذبت ذكرى تلك الأيام الجميلة ورحت ابحث عنه في أروقة القاعة لأقدم له التهاني، فأخبرني أحد الضيوف بأنه غير موجود هنا بل هو الآن في فرنسا يتسكع في مقاهي الشانزلييه وأرسل لوحاته هذه بيد أحد معارفه لإقامة هذا المعرض التجاري حيث لاحظت تواجد هذه العبارة فوق كل لوحة “اللوحة للبيع” .. تضايقت قليلا لكن القيمة الفنية العالية للوحات عوضَت الكثير عن وجود نادر بنفسه.. وماذا كان سيضيف وجوده؟ لا شيء بالتأكيد.. تركت البحث عنه وواصلتُ تنقلي بين اللوحات بروح لطيفة عاشقة للفن التشكيلي.
ثمة شاب بملابس رثة لاحظته يتنقل بارتباك في القاعة مرتطما بهذا دافعا ذاك يمر بعديد اللوحات مرور الكرام ذاهل عن كل شيء، أراه يبحث عن شيء ما يبدو أنه شاب غير سوي دخل المكان الخطأ، اكتفيت بالنظر إليه ازدراءً وما جعلني أذهل عنه فتاة في العشرين من عمرها تمسك كتبا بيدها يبدو أنها طالبة جامعية بقميص ابيض وتنورة رصاصية تقف منتفضة بصدر متقدم إلى الأمام كجندي فاتح يأكل كل شيء أمامه، ووجه يشتعل كرمان اقتطف من بساتين ديالى فرطته يد من حرير، وشعر كليل بهيم يتراقص فوق العينين لاطما خديها بقبل هيجت مكامن مشاعري ورغبة مستعرة في التكلم معها ولو بحرف يتيم.. لكن ما الذي سأقوله لها .. أخاف أن تردني بقسوة عرفتها في كل نساء المدينة اللواتي واجهتهن بإعجابي .. ما العمل الوقت يمضي والمعرض أوشك على الخواء من زواره إلا أنا باق أتجول بحميمية كشفتها أنفاسي اللاهثة .. السؤال يجتاح روحي فيحطم أسوارها .. ما الحل: “لا تبقى مكبلا هكذا” نداء سماوي يهز العرش لا تبقى مكبلا، تحرك، الوقت يمضي.. أتقدم نحوها بعد أن عزمت أمري على اطلاق عبارتي التي لا أملك غيرها “أنت جميلة ،، بل جميلة جدا”
صدني عن أناقتي في الاقتراب من هذا الغصن الأهيف ذلك الشاب الذي عاد يتسيد المشهد من جديد. أراه يتلفت كسارق عُرف عنه الغباء، ينط بقفزات ضفدعية. تساءلت مع نفسي هل هو مخبول حقا، أم يتصنع الخبل .. طيب لم لا يشعر به الآخرون. لم لا يكترث إليه أحد إلا أنا. أراه يملأ الشاشة. يتقدم نحو الفتاة، أحاول أن أمنعه، أن أصده لكن ثمة سلاسل تحد من حركتي .. يقترب كوطواط شرس ويمسك بالفتاة ويحضنها فيعصر صدرُه صدرَها. حليب ثدييها يغرق المكان يلون الفضاء بالأبيض الناصع. وبلمح البصر يهرول بها خارجا من إحدى النوافذ محطما زجاجاها، جارحا مؤخرة الفتاة ينز دمها كميزاب بيتنا في الماجدية، يعلق شيء من قميصها الأبيض الشفاف في زجاج النافذة أتابع السارق صارخا به وسط الناس “حرامي .. حرامي” أتطلع إليه من مكان كسر زجاج النافذة وهو يهرول بالفتاة العاجزة عن المقاومة المطر الكثيف يعرقل هروب اللص .. ثمة مطب اصطناعي يقف بمواجهة أقدامه اللاهثة جريا يعثر يسقط وينهض من جديد أراه يجري بسرعة في ساحة المدينة الكبيرة يتعثر بمتسول عجوز فقدته المدينة منذ أعوام، يسقط، يتقلب فوق الإسفلت الغارق بمياه الله الماطرة، تُكْسَر ساقه، يطل عظامه ابيضا من بين اللحم والعضلات، يعجز عن الحركة لكنه يبقى محتضنا الفتاة بكل ما لديه من قوة.. تواصل الأمطار جلده وجلد الفتاة بنفس القسوة، يتبلل جسدها، تختض بيد اللص.. الغرابة سيدة الموقف .. ما هذا.. ما الذي أراه: شعرها بدأ يتساقط حتى بانت صلعة رأسها .. ثدياها المنتفضان تخليا عن تقدمهما فتراجعا للخلف فاختفيا.. ومسمى قميصها تلون باللون الأسود .. كل شيء بدأ يتلاشى في جمال الله من خلال هذه الفتاة.. المطر يتواصل بهطوله حاصدا كل جمال في الفتاة.. حتى تنورتها الرصاصية انزاحت عنها بعيدا.. توقعت أن تظهر ساقيها بعد انزياح التنورة كعظم عاج لامع شفاف.. لكن التنورة اختفت فاختفى الساقان فبانت أحشاء بطنها وكأنها بلا عجيزة.. وآخر ما تلاشى عنها بريقها الذي كنت أراه متوهجا في القاعة وهي تتكئ على الحائط باعتداد.
اترك النافذة المكسور زجاجها وأنفذ خارج أسوار القاعة سريعا فيبتلعن الشارع الممطر أصباغا.. سماء الله تتلون بشتى الأصباغ.. ثمة خيط ألوان ذائبة في مياه المطر تقودني حتى مكان اللص وهو يحتض آخر قطرة لون في جسد الفتاة .. أوبخه بلسان يحمل العطف والغضب.
– ها ؟.. كنت تطارد أصباغا ملونة وها هي قد ذهبت للمجهول. لقد خانك تقديرك لم تزن الأمور كما يجب
الرعد يهزم الطمأنينة والناس في ذوبان مستمر تحت هطول الأمطار التي تمشي الهوينا مطمئنة وكأن لا شيء هناك.. أحد المارة الذائبين يصطدم بي فيترنح جسدي أمامه .. يشير لي بيده علامة الجنون.. أصرخ بهم: ماذا هناك؟ أخبروني؟ أتعلق بأذيال ألوانهم : “ردوا إليّ روحي”… أواصل صراخي، لا أحد يسمعني، ما من جواب سوى صدى صوتي يتردد في فضاء المدينة الموحش .. حتى وجدتني حينها أستغيث من شدة الألم في ساقي المنكسرة وسط ساحة المدينة الكبرى محتضنا إطار اللوحة الفارغة إلا من أحلام بمعية الوان وأصباغ ذائبة تتشكل منها صورة شيطان وملاك، جرفتها مياه الأمطار بعيدا باتجاه أطراف المدينة النائمة.
– أتسمع تنهدات السمك؟
– في القاع؟
– نعم؟
– ما بها؟
– إنها تخشى القرش
– وأنت؟
– أنا من يبعث الدفء فيها والأمان .. سأنتظر ذلك
– هراء .. نحن لا ننتظر شيئا سوى أن يمر الوقت