-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

قصة قصيرة " حديث ذو شجون" شادية الاتاسي

كنا بضع صديقات، على سطح مقهى صغير مؤطر بالزجاج، نرتشف قهوة الصباح، ونرقب بوجوم، مشهد الغزل الخفي بين خيوط الشمس وتموجات مياه البحيرة الممتدة أمامنا.
ومن بعيد بدت لنا مدينة أيفيان الفرنسية على الطرف الآخر من البحيرة غارقة في الضباب. اجتمعنا احتفاء بيوم عيد، لحفيف قدومه هزيمة الريح في قلوبنا. ليس بالهين على أي كان مواجهة حقيقة غربته، وحيدا في شحوب المنفى.
أعترف، لم أعد أحب الأعياد، قدومها يضعني على حافة سطح بلا سياج، ربما لأنني أدرك، كم أن تاريخها الموغل عميقا في جذور القلب، لا يمكن محوه. فهو ببساطة تراكم عميق، لذاكرة ونبض وتاريخ، العيلة واللمة والرائحة والبيت. همهمة الروح القلقة إلى تربة جذرها الأول. وعندما يأتي العيد في الغربة، يكون له شأن آخر..
نعيش هنا حاضرا غير مكتمل، ناقصا دائما، مراوحة دائمة بين الغياب والحضور. تؤرقنا التداعيات، ممتلئة بتفاصيلها وتاريخها ومكانها، الهمهمات الضحكات الأنفاس، الأشواق الصغيرة، الروائح المحملة بما تختزنه من ذاكرة. كثير من المعاني متناقضة، ولكنها موجودة. ربما يوضحها المعنى الموجود في مفردة معينة هي، العجز. شهيتنا مفتوحة لعبير الذكريات، لكن الذاكرة آسرة، وأحيانا مراوغة، وفيها انطوى العمر. لكن أي ذاكرة؟ الكاتب ألبرتو مانغويل، عبر عن هذه الفكرة، في كتابه «يوميات القراءة».
«سننسى صداقاتنا، حبنا، متعنا، القلوب المليئة بالحنان، ستفقد حنانها إن لم تتذكره، وجودنا يختزل إلى لحظات متعاقبة لتدفق حاضر دائم، سوف لن يكون هناك ماض أبدا». ربما أول ما يخطر في بالي، في هذا اليوم، هو طريق حمص الشام، فقد انطوى العمر وأنا أعبر هذا الطريق ذهابا وإيابا، احتل جزءا كبيرا من ذاكرتي، قيض لي أن أعيش دائما شوق بيتين، وأحمل عبء حبين، مخالفة القول الشائع ما الحب إلا للحبيب الأول، ربما لأنني أرغب /ضمنا / وبعمق أن أكون اليوم هناك، جزءا من هذا الشريط الملون من السيارات، وسط هذا الطريق المقفر، الزاحف إلى ما أراه الآن بقلبي المشتاق، العودة إلى البيت الأول.
أحفظ كل شذرة من هذا الطريق، الطبيعة منحته خصوصية الاكتفاء، براري ممتدة، قفراء من كل زرع وضرع، تلال رمادية غائمة، كانت تبدو لي عن بعد موحشة، وحيدة ومنكفئة على سرها، لم تفلح الكهوف والأديرة، المتناثرة في هذا المد الصحراوي الكئيب، أن تهب هذا المكان الموحش بعضا من الفرح، أبتسم بحنان، لتداعيات تفاصيل صغيرة، كنت أجدها في وقتها ساذجة، وأحيانا تثير الغضب، ولكنني أجد نفسي، أتطلع إليها اليوم بعين التسامح، أضحك لها من القلب، ربما تعبر عن خلفية ثقافية ذكية لشعب احتال على الزمن، بأن يهزأ منه، ليس أقلها تلك الكتابات المكتوبة أحيانا بخط يد ركيك،على خلفية السيارات /لا تلحقني أنا مخطوبة/ و/ الهوى هواي/ مسافر زاده الخيال/ ناهيك عن النظرات الفضولية، وتلويحة الأيدي، وليس أكثرها الانتقام للكرامة المهدورة، حين تتجاوز سيارة الأخرى على غفلة منها، قد تنتهي بـ/ طوشة / وفي أكثر الأحيان بتبويس الشوارب. في هذا الجو الاستيهامي، الذي استدعته جمعتنا، هذا اليوم، في ذاك المقهى الجميل. كنا وكما في كل مرة، نراوغ الشوق لنخوض في عمق/الحكاية/، هكذا اسميناها بتواطؤ ماكر، ولكنه تواطؤ حزين. نحاذر! لكن الحيلة مكشوفة، وليس على العاشق حرج. والحكاية معروفة في مفردات معينة لها دلالتها. البلد، الشوق، الغربة وكأن هذه المفردات، كائنات بروح ساحرة، لها إيقاعها، وعلى هداها نعزف نشيدنا كما نشاء ونحب، وهكذا..

وهكذا بدأت نادية، تكمل حديثا لم ينقطع «وكأنني شتلة انشلعت من جذرها، لن أستطيع أن أحيد عن فضائي الأول مهما حاولت، أفشل دائما في غربلة الواقع. نعم، أولادي، الأمان، الحضارة. مفردات جذابة وربما آسرة، أتعلم أن أحبها، ولكن كيف لي أن أحيد عن ما تختزنه من التباسات وفجوات. وكيف لي أن لا أنحاز إلى مشهد احتفظ به كحلم .
حنان تساءلت ساخرة، محاولة التشكيك في ما يجول في فكر نادية، «عن أي مشهد تتحدثين، وماذا تبقى منه، هل فكرت ياعزيزتي؟ هل تساءلت، في ما إذا كان الجار، ما زال كما هو؟ هل يمكنك أن تقولي له عمت صباحا، قبل أن تراودك عشرات الأسئلة، عن أصله وفصله وإلى أي صف ينتمي؟ وذاك القريب هل يدق بابك، ويقول اشتقنا؟ قبل أن يتلفت يمينا ويسارا محاذرا ألف رقيب وحسيب؟ وماذا عن رائحة الدُفء، هل مازالت تنسكب من البيوت والحواري! وقد أضناها الموت والخراب
وحقول القمح والحنطة والزيتون؟ هل مازالت تعطي، وطعمها لم يتغير؟» وقد امتدت إليها ألف يد غريبة.
ردت نادية بتأكيد، «نعم، سأبقى أعيش هذا الحلم، وأتمسك به بقوة، إن ذهب يعني أنني قد انتهيت، تلك هي المسألة، وهذا هو المهم».
سعاد لم تترك لهذا الحوار الحزين أن ينتزع منها، التوق الغامر للمرح، رفعت صوتها في احتجاج، «يكفي هذا النواح، لن أحبس نفسي في أسر هذا الحنين، وإلا زوجي الكندي سيتركني، ويذهب مع امرأة أخرى معافاة، من مرض الحنين إلى الوطن». لكن مريم، التي فقدت ولدها ولم تعد تعرف في ما إذا كان حيا أم ميتا، لم تأبه لها، استمرت من خلال غلالة دمع كثيفة غشت عينيها، وبالمد الحزين ذاته،
«لا أريد العودة سأبقى هنا، أنتظر بشوق، طفلا يتيما سيأتي من هناك، ليضيء حياتي من جديد، سيكون بيتي ووطني». تهدج صوت ميسى وسبقتها دموعها وهي تقول
«أن نكون هنا، لا يعني أننا هنا حقا، نحن نبحث عن فضائنا الضائع في المكان الخطأ، الوطن شيء مختلف تماما، الوطن ببساطة هو السكن، حيث يسكن القلب ويرتاح، وأنا لن أكون أنا إلا هناك، أخاف ان تسرق الغربة عمري، والعمر أيّام، أخاف أن أموت هنا». انتهى احتفالنا الصباحي بيوم العيد. تلتبسنا الحيرة، في ذاك الخيط الرفيع، المثقل بتداعيات عبثية ما بين الحقيقة والخديعة، كل شيء حولنا كان يشير إلى جمال الحياة وغناها، البحيرة المغموسة بالضباب في حضن الجبال الأبدية الثلوج، وبجعاتها البيضاء المشرئبة الأعناق، تمخر عباب المياه في عرسها الشتوي الطويل، مطر الحياة المنهمر، وجوه الناس النضرة المسرعة إلى أعمالها، واجهات المحلات الأنيقة المتخمة بالأمان، الأمان الذي نسيناه، نحن الذين فقدنا متعة أن نكون في أوطاننا ، لم يفلح كل هذا في تهدئة أحزاننا، فنحن غرباء لا ننتمي إلى هذا المكان الجميل.
٭ كاتبة سورية
القدس العربي


عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا