-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

الحجر الذاتي، ... وهوس "الآخر" الذي يسكننا :عزيز رزنارة


على امتداد أيام الحجر الصحي وتوالي ساعاته الرتيبة، كنت بين الفينة والأخرى أطلع إلى وجهي في المرآة كلما ذهبت لغسل يدي بالصابون لسبب أو بدون سبب تنفيذا فقط لتعليمات الوقاية التي أمطرتنا بها كل وسائل الإعلام من تلفزة وشبكات تواصل اجتماعي وحتى مكالمات بعض الأصدقاء الذين يتفقدون حالي.
بعد ما يفوق الأسبوع من الحجر في البيت، انتبهت إلى أن ذقني غزته لحية فوضاوية لكنها ما زالت لم تغير ملامح الوجه العامة إلا من مسحة من التغول لم أتعود عليها. منيت نفسي كل مرة بأني سأحلق ذقني وأضع حدا لتنامي اللحية في وجهي، وكنت في كل مرة أبرر تقاعسي بأنه لا داعي لذلك، ما دمت لا أخرج من البيت ولا أجتمع بأحد. واستأنست بهذا التبرير الذي في الحقيقة لا مبرر له. وخلال مكوثي بالبيت كنت أبقى بملابس النوم طيلة النهار، وكلما راودتني الرغبة في ارتداء قميص أو سروال، كنت أتذرع بأن ذلك مضيعة للوقت مادمت لن أخرج من البيت لأقابل الناس، أو أذهب إلى العمل.
كل هذا التقاعس عن حلق اللحية أو تغيير الهندام كان مرده فقط، حسب رأيي، إلى أنني لن ألتقي أو يراني أحد خارج البيت، ولن يطرق بابي زائر غير متوقع مادام الجميع في الحجر الصحي. ولم أسأل نفسي ولو مرة واحدة: ترى ماذا لوكنت أحب أن تكون ذقني محلوقة، وهل أشعر بسعادة لذلك بغض النظر عن الآخرين؟ ماذا لو كنت أسعد نفسي عندما أرتدي، ولو لوحدي بالبيت، بعض ملابسي التي تعودت ارتداءها فقط للعمل أو المناسبات، بدون التفكير في الآخرين ورأيهم في هندامي؟ ... واستبد بي هذا التساؤل طيلة الوقت وجعلني أكتشف بشكل آخر هذا الحضور الطاغي والمتسلط ل"الآخر" على اختياراتي وقراراتي. واكتشفت أننا في ظل هذه السطوة نحتجز جزءا كبيرا من المتعة والسعادة ونرهنها بموافقة ومباركة هذا "الآخر". نشتري ثيابا جميلة وحليا ثمينة وعطورا فاخرة ونكنزها في مكان ما من دولاب غرفة النوم في انتظار المناسبة التي نظهرها ونظهر بها ل"الآخرين". الغريب أننا عندما نشتري الملابس نصر على ارتدائها أولا في المتجر أمام المرآة لنرى عبر أعيننا كيف سيرانا الآخرون، ونفعل ذلك فقط مع الملابس الخارجية ولا نقوم بنفس الشيء مع الملابس الداخلية لأننا متيقنون أن "الآخرين" لن يروها. وكم من واحد قد يلبس قميصا داخليا به ثقب أو عيب صغير ولكنه لا يجرؤ أبدا على ارتداء أي قطعة خارجية قد يرى فيها "الآخر" عيبا. هذه الرقابة الذاتية أو "الحجر الذاتي" تفوت علينا فرصة مساءلة أنفسنا ما الذي يسعدنا حقا بغض النظر عن رأي "الآخر" فينا؟ وهل نستطيع ممارسة حريتنا المطلقة في اختياراتنا وقراراتنا دون تدخل "الآخر" فيها؟. مع الإشارة أن هذا التسلط والتدخل هما فقط وليدا تفكيرنا وتربيتنا.
إن هذا الهوس والإصرار على إثارة إعجاب "الآخر" بأي ثمن هو خصوصية مغربية بامتياز ، وهو يكاد يكون عاما في مختلف الطبقات الإجتماعية. إن تربيتنا وتعليمنا وحياتنا الاجتماعية على الخصوص، كل هذا يعطي هذه المكانة وهذا البعد الهام لهذا "الآخر" في تفكيرنا، وبالتالي في خياراتنا ومن ثم في حياتنا الاجتماعية وعلاقتنا مع الناس.  وقد أتيحت لي الفرصة لمعاينة هذه الظاهرة بشكل أدق عندما كنت أشتغل في أعمال الديكور والتصميم الداخلي لعدة سنوات (80-90) ، وخاصة في بداية الطفرة العقارية في مراكش والمدن المغربية الأخرى. لقد لاحظت أن معظم الأسر التي اشتغلت في تهيئة بيوتهم، وكانت في الغالب فيلات متوسطة أو راقية ، لديها تقريبا نفس التصور والمفهوم للتصميم الداخلي: صالون بالطراز المغربي ، صالون بالطراز الأوروبي مع موقد (مدفأة)، وغالبا غرفة أو فضاء مهيأ ليستقبل مائدة الطعام الحديثة. كان هذا الجزء بشكل عام يحتل الطابق الأرضي بعد المدخل الرئيسي مباشرةً، وكان الطابق العلوي محجوزا لغرف نوم الآباء والأطفال والضيوف. الصالونات في الطابق الأرضي كانت تلتهم أغلب ميزانية البناء تقريبًا ، ولاسيما الصالون المغربي بالزليج والجبص والخشب المنحوت أو المصبوغ إضافة إلى أثاثه الفاخر. المشكلة هي أن هذا الجزء المهم من المنزل لا  يستخدم عادة إلا خلال الزيارات النادرة لـ "الآخرين". بشكل عام، ولدى أغلب الطبقات الاجتماعية، تفضل الأسرة حشر أفرادها في غرفة أو غرفتين في  الطابق السفلي (القبو) بجدران مغلفة بالسيراميك من الأرض إلى السقف ، والمطبخ المجاور، وغرفة الخادمة أيضًا. كل هذا حتى لا يتم لخبطة ترتيب صالات الطابق الأرضي المعدة ل"الآخرين". وهكذا، فإن بعض أفراد الأسرة قد لا تطأ أقدامهم هذه الصالونات الأرضية إلا في مناسبات استقبال"الآخرين"، الذين نخرج لهم كذلك الأطباق والأواني الفخارية والفضية التي نحرم أنفسنا منها طوال الوقت، في انتظار مجيء هذا "الآخر" لكي نبهره أو كما يقول المغاربة "نفركعوا ليه العينين" بما لدينا من أواني ومعدات فاخرة. ولحسن الحظ ، فإن العديد من الشباب في أيامنا هاته يقوم  بترتيب التصميمات الداخلية للبيوت بطريقة تمكنهم من الاستفادة من كل الفضاءات التي توفرها مساحة البيت لهم أولا، و"الآخرين" إذا حضروا.
وقد انتشر هذا الهوس بـ "الآخر" ودوره في اختياراتنا أيضًا إلى جوانب أخرى مصيرية وحيوية  في حياتنا الاجتماعية. على سبيل المثال، العديد من العائلات أصبحت تجبر أبناءها على مسارات من التعليم العالي لا علاقة لها بمهاراتهم أو إمكانياتهم الفكرية، لمجرد أن أحدا من معارفهم فعل ذلك أو أن آخرا كلمهم عن عمل ابنه أو بنته الناجح مجال المال والأعمال أو المعلوميات ... إلخ. ولقد عاينت حالات عائلات أرسلت أبناءها إلى ما يمكن أن نسميه "الانتحار التعليمي"، علما أن هؤلاء الأبناء  لا يملكون الأساسيات المعرفية أو الاستعداد الذهني الكافي وحتى الجسدي للمتابعة والنجاح في هذا النوع من  الدراسات التي يفرضها الآباء فقط مجاراة ل"الآخرين". وأصبحت الموضة حاليا هي توجيه الأبناء بعد الباكالوريا إلى الأقسام التأهيلية (classes préparatoires) للمدارس العليا المتواجدة كلها خارج البلد، أو لتحضير الماجستير في إدارة الأعمال أو شهادات أخرى لم يعد لها نفس الأهمية السابقة في ظل تناسل المدارس والجامعات الحرة الخاصة والتي لا يخجل بعضها من منحك الشهادة دون أن تغادر سريرك بالبيت، مادمت تدفع مستحقات التسجيل وتكاليف الدراسة ولو عن بعد.
 ولقد عاينت حالات انهيارنفساني وجسدي عديدة لشباب ، أجبرتهم عائلاتهم على متابعة مسارات جامعية لا علاقة لها بمؤهلاتهم العلمية وميولهم الفكرية، بعد تخرجهم والتحاقهم بالعمل، تحت وطأة ووتيرة العمل الضاغط في البنوك الأجنبية أو البورصات الأجنبية. بعضهم قام ببساطة بتغيير المسار الدراسي أو المهني، وتجاهلوا اختيارات آبائهم ، وفضلوا عدم العودة إلى الديار، وعيش حياتهم على النحو الذي يرونه مناسبًا لمؤهلاتهم وميولاتهم الفكرية والعلمية.
وبالعودة إلى لحية الذقن التي أثارت كل هذا الشجن، فإن نهايتها جاءت نتيجة فتوى نسجتها لنفسي صبيحة جمعة من أيام الحجر. أذن المؤذن معلنا وقت صلاة الجمعة، ومنهيا الآذان بتوصية الناس بالصلاة في بيوتهم تفاديا للعدوى، وقمت لأتوضأ وأصلي فريضة الظهر بدل الجمعة، وفجأة وأنا أنظر إلى وجهي في المرآة وقد كسته لحية 5 أيام تذكرت الآية الكريمة: "يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ"، وقول الرسول الكريم (ص): "مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوِ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، سِوَى ثَوْبِ مِهْنَتِهِ". وخجلت من أن أشغل بالي في التفكير في الهندام الذي سيعجب الآخر ولا أعير نفس الاهتمام لما سأرتديه أو تكون عليه حالتي وأنا بين يدي الخالق بعد تكبيرة الصلاة. حلقت ذقني وكأني حلقت كذلك ذهني، وتوضأت ولبست ثيابا جديدة غير التي أقضي بها طيلة النهار محجورا بالبيت، وأديت صلاة الفريضة.
أعتقد أن اليوم الذي سيحرر المغاربة فيه أنفسهم من هذا الحجر الذاتي الذي يفرضه عليهم "الآخر"، والذي مازال يأسرهم، ويوجه اختياراتهم وقراراتهم، وعندما يقررون بكل حرية أن يعيشوا حياتهم كما يجب أن تكون، وكما هم على طبيعتهم، سيكون ذلك اليوم "يوم الاستقلال" الحقيقي الذي يجب أن نحتفل به كعيد وطني لأنه يعنينا جميعا.
عزيز رزنارة
عجمان في 8 أبريل 2020

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا