لم يسلم كاتب ياسين، لا في حياته ولا بعد موته، من ظلم خصومه وكذا مقربيه. الفريق الأول أراد نفيه ثم أصدر فتوى في تكفيره، بينما لفق له الفريق الثاني ما لم يفعله. أرادوا
أن يجعلوا منه «صنماً» وهو الذي يمقت الأصنام. فقد سرت قناعة، بين محبيها، مفادها أن كاتب كان معارضاً للنظام، كان خصماً لرؤساء الجزائر، وشخصاً غير مرغوب فيه، ألصق به البعض صفة «صعلوك»، بينما سارع آخرون إلى إلحاق صفة «الالتزام» في كتاباته، مع أنه كان يرفض هذه المفردة، فالالتزام بقضية ما يعني خدمتها، وكاتب ياسين لم يكن يرى نفسه خادماً، لا للأشخاص ولا للقضايا، كما أنه لم ينخرط يوماً في عمل سياسي، ولم يكن معارضاً، بل كانت له فقط خصومات مع أشخاص من النظام، دخل في سجالات شخصية مع أفراد قلائل محسوبين على النظام، ولم تكن تلك السجالات ذات فائدة على الثقافة في الجزائر، بل إنها اقتربت في بعض الأحيان من اللغو والهذر، وظل ياسين منذ استقلال البلد متناغماً مع الجماعة الحاكمة، لم يُجاهر بأي موقف ضدها، بل إنه في كثير من المرات اصطف إلى جانبها وزكاها.
بدأ كاتب ياسين (1929- 1989) شاعراً عقب أحدث مايو/أيار 1945 وأنهى سيرته الأدبية والجدلية «تائهاً» عقب ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1988، تلك كانت الثورة الشعبية الأهم في تاريخ البلد المعاصر، لطالما تمنى كاتب أن يعايش حدثاً مثلها، وحين حلت أدار لها ظهره، وكتب في جريدة «لوموند» موقفاً لا يتطابق مع الصورة التي يروج لها عنه، لم يكتب من موقع الكاتب ـ المناضل، ولا الكاتب المنحاز للفئات الهشة، بل كتب موقفاً أسعد النظام أكثر من أي جهة أخرى، بل إن كاتب ياسين، في مقاله في الجريدة الفرنسية، لم يستثن الشباب الذي خرجوا للتظاهر، طلباً لحياة كريمة، بوقوعه ضحية لمؤامرة، ويضيف: «لعل القصد من الأحداث استفزاز مقصود، من أجل توسيع الهوة بين الشعب والجيش، وفرض سياسة قمعية تعكر كل مشروع إصلاح، في وقت يستعد فيه حزب جبهة التحرير إلى عقد مؤتمره». رغم أن ثورة أكتوبر 1988 جاءت عقب فشل الحزب الواحد في إصلاح نفسه، وقد بات غير قادر على طرح بديل، فإن كاتب ياسين ظل يُدافع عنه: «إزاء الأزمة الاقتصادية، وأزمة نمو الجزائر الجديدة، فقد بات من الضروري على الجزائريين، أكثر من أي وقت مضى، أن يتحدوا. إنهم بحاجة إلى جبهة تضمهم جميعاً، وهذه الجبهة ليست سوى جبهة التحرير الوطني». في تلك اللحظة الحاسمة من تاريخ الجزائر بدا كاتب ياسين ضائعاً، لا يعرف أي أرض يتحتم عليه الوقوف عليها، فضل الانزياح إلى السلطة، ودعوة الناس إلى عودة إليها، ولكن كي لا يظهر في ثوب المستسلم، كان لا بد أن يضمن مقاله بعض الانتقادات، هكذا فضّل أن ينتقد الصحافة ويتهمها بأنها لا تقوم بعملها.
أن يجعلوا منه «صنماً» وهو الذي يمقت الأصنام. فقد سرت قناعة، بين محبيها، مفادها أن كاتب كان معارضاً للنظام، كان خصماً لرؤساء الجزائر، وشخصاً غير مرغوب فيه، ألصق به البعض صفة «صعلوك»، بينما سارع آخرون إلى إلحاق صفة «الالتزام» في كتاباته، مع أنه كان يرفض هذه المفردة، فالالتزام بقضية ما يعني خدمتها، وكاتب ياسين لم يكن يرى نفسه خادماً، لا للأشخاص ولا للقضايا، كما أنه لم ينخرط يوماً في عمل سياسي، ولم يكن معارضاً، بل كانت له فقط خصومات مع أشخاص من النظام، دخل في سجالات شخصية مع أفراد قلائل محسوبين على النظام، ولم تكن تلك السجالات ذات فائدة على الثقافة في الجزائر، بل إنها اقتربت في بعض الأحيان من اللغو والهذر، وظل ياسين منذ استقلال البلد متناغماً مع الجماعة الحاكمة، لم يُجاهر بأي موقف ضدها، بل إنه في كثير من المرات اصطف إلى جانبها وزكاها.
بدأ كاتب ياسين (1929- 1989) شاعراً عقب أحدث مايو/أيار 1945 وأنهى سيرته الأدبية والجدلية «تائهاً» عقب ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1988، تلك كانت الثورة الشعبية الأهم في تاريخ البلد المعاصر، لطالما تمنى كاتب أن يعايش حدثاً مثلها، وحين حلت أدار لها ظهره، وكتب في جريدة «لوموند» موقفاً لا يتطابق مع الصورة التي يروج لها عنه، لم يكتب من موقع الكاتب ـ المناضل، ولا الكاتب المنحاز للفئات الهشة، بل كتب موقفاً أسعد النظام أكثر من أي جهة أخرى، بل إن كاتب ياسين، في مقاله في الجريدة الفرنسية، لم يستثن الشباب الذي خرجوا للتظاهر، طلباً لحياة كريمة، بوقوعه ضحية لمؤامرة، ويضيف: «لعل القصد من الأحداث استفزاز مقصود، من أجل توسيع الهوة بين الشعب والجيش، وفرض سياسة قمعية تعكر كل مشروع إصلاح، في وقت يستعد فيه حزب جبهة التحرير إلى عقد مؤتمره». رغم أن ثورة أكتوبر 1988 جاءت عقب فشل الحزب الواحد في إصلاح نفسه، وقد بات غير قادر على طرح بديل، فإن كاتب ياسين ظل يُدافع عنه: «إزاء الأزمة الاقتصادية، وأزمة نمو الجزائر الجديدة، فقد بات من الضروري على الجزائريين، أكثر من أي وقت مضى، أن يتحدوا. إنهم بحاجة إلى جبهة تضمهم جميعاً، وهذه الجبهة ليست سوى جبهة التحرير الوطني». في تلك اللحظة الحاسمة من تاريخ الجزائر بدا كاتب ياسين ضائعاً، لا يعرف أي أرض يتحتم عليه الوقوف عليها، فضل الانزياح إلى السلطة، ودعوة الناس إلى عودة إليها، ولكن كي لا يظهر في ثوب المستسلم، كان لا بد أن يضمن مقاله بعض الانتقادات، هكذا فضّل أن ينتقد الصحافة ويتهمها بأنها لا تقوم بعملها.
من كان يفرض الرقابة آنذاك؟ كاتب ياسين كان يعلم الجواب، لكنه فضل أن يستثني الحكام من نقده، كما فعل دائماً، ولا أحد يُجادله في موقفه، لكن الغريب أن نسمع من لا يزال يتحدث عن كاتب ياسين بصفته معارضاً، وهو الذي اتخذ موقفاً مخالفاً لرأي غالبية الشباب في ثورة أكتوبر 1988.
ثورة أكتوبر 88 كانت لحظة مباغتة، لم يتهيأ لها المثقفون في الجزائر، كانت غالبيتهم لا تزال تزاول نشاطها في طاعة النظام وفي التودد إليه، لذلك فليس من السهل أن نجد موقفاً واحداً، من الأرشيف، يحفظ ماء الوجه، لا بياناً صريحاً ولا نصاً من مثقف واحد يتكلم بلسان الشارع لا بلسان السلطة، وقد كان بختي بن عودة (1961-1995) في السابعة والعشرين من العمر حينذاك، وواحدا من أهم التجارب الفكرية، قبل أن تغتاله الجماعات الإسلامية، وعلى غرار الكثيرين، لم يستوعب ماذا كان يحدث، وسارع إلى تفسير تلك الثورة بأسباب اجتماعية محضة، مفرغاً إياها من مضمونها السياسي والحقوقي، ذلك ما نقرأه في مقال له صدر في جريدة «الجمهورية»، ففي تقديره أن ذلك الحدث نبع من «حاجة شخصية ومن عوز» عاني منه الشباب الذي لم يعد يفكر سوى في الهجرة، وقدّم بن عودة حلاً لوقف التظاهرات قائلاً: «يجب التسلح داخلياً بما هو ثقافي والثقة في الإمكانات الذاتية بعيداً عن الانغلاق، لكن الجزائري بحاجة إلى مراجع ليعرف عقليات الشعوب ولغاتها وربط نقاط ضعفها». مرة أخرى برّأ بختي بن عودة الساسة والسياسيين مما حدث، وركز جهده في نقد الحركة الاحتجاجية بأنها متسرعة، ويواصل عرض الحلول: «توفير المناصب المهمة للمثقفين تطبيقاً لشعار الرجل المناسب في المكان المناسب». ويختتم مقاله: «فالجزائري الذي يوجد في اليونسكو أو في جامعات أمريكا أو في أستراليا باحثاً في حقل من الحقول هو برهان على أن العقل الجزائري قادر على الكثير وقادر على رسم مستقبل بلاده أفقياً وعمودياً، إذا ما وجد المخبر والمجال ووجد الأدوات والتمويل».
لم يطل الوقت قبل أن تتبين كواليس ثورة أكتوبر 1988، وعلاتها السياسية، ورغبة المتظاهرين في نصيبهم من الحرية، فقد سارعت السلطة إلى تصحيح أخطائها بتعديل الدستور وفتح مجال الحريات، لكن لماذا تأخر المثقفون في فهم ما يريده شعبهم؟ لماذا برأوا ساحة السلطة وهي نفسها أقرت بزلاتها؟
لعل الموقف الوحيد الذي عاكس ما ذهب إليه غالبية المثقفين آنذاك، هو ما كتبه حميد سكيف (1951-2011)، الذي نشر رسالة إلى الرئيس بشكل إبداعي، قبل أن تصدر لاحقاً في كتابه «سيدي الرئيس»، وعلل فيها أسباب ثورة أكتوبر 88 كنتيجة حتمية لقمع الرأي، فبات موقف حميد سكيف مثل جزيرة معزولة، في بلد تعود فيه المثقف على كتم نقده للنظام طلباً للمكاسب، فقد ترسخت ثقافة في الجزائر أن المثقف الناجح هو مثقف مُهادن، يرى ويسمع لكن لا يتكلم، المثقف الجزائري يحلم بالثورة، فإن حلت، تبرأ منها.
ثورة أكتوبر 88 كانت لحظة مباغتة، لم يتهيأ لها المثقفون في الجزائر، كانت غالبيتهم لا تزال تزاول نشاطها في طاعة النظام وفي التودد إليه، لذلك فليس من السهل أن نجد موقفاً واحداً، من الأرشيف، يحفظ ماء الوجه، لا بياناً صريحاً ولا نصاً من مثقف واحد يتكلم بلسان الشارع لا بلسان السلطة، وقد كان بختي بن عودة (1961-1995) في السابعة والعشرين من العمر حينذاك، وواحدا من أهم التجارب الفكرية، قبل أن تغتاله الجماعات الإسلامية، وعلى غرار الكثيرين، لم يستوعب ماذا كان يحدث، وسارع إلى تفسير تلك الثورة بأسباب اجتماعية محضة، مفرغاً إياها من مضمونها السياسي والحقوقي، ذلك ما نقرأه في مقال له صدر في جريدة «الجمهورية»، ففي تقديره أن ذلك الحدث نبع من «حاجة شخصية ومن عوز» عاني منه الشباب الذي لم يعد يفكر سوى في الهجرة، وقدّم بن عودة حلاً لوقف التظاهرات قائلاً: «يجب التسلح داخلياً بما هو ثقافي والثقة في الإمكانات الذاتية بعيداً عن الانغلاق، لكن الجزائري بحاجة إلى مراجع ليعرف عقليات الشعوب ولغاتها وربط نقاط ضعفها». مرة أخرى برّأ بختي بن عودة الساسة والسياسيين مما حدث، وركز جهده في نقد الحركة الاحتجاجية بأنها متسرعة، ويواصل عرض الحلول: «توفير المناصب المهمة للمثقفين تطبيقاً لشعار الرجل المناسب في المكان المناسب». ويختتم مقاله: «فالجزائري الذي يوجد في اليونسكو أو في جامعات أمريكا أو في أستراليا باحثاً في حقل من الحقول هو برهان على أن العقل الجزائري قادر على الكثير وقادر على رسم مستقبل بلاده أفقياً وعمودياً، إذا ما وجد المخبر والمجال ووجد الأدوات والتمويل».
لم يطل الوقت قبل أن تتبين كواليس ثورة أكتوبر 1988، وعلاتها السياسية، ورغبة المتظاهرين في نصيبهم من الحرية، فقد سارعت السلطة إلى تصحيح أخطائها بتعديل الدستور وفتح مجال الحريات، لكن لماذا تأخر المثقفون في فهم ما يريده شعبهم؟ لماذا برأوا ساحة السلطة وهي نفسها أقرت بزلاتها؟
لعل الموقف الوحيد الذي عاكس ما ذهب إليه غالبية المثقفين آنذاك، هو ما كتبه حميد سكيف (1951-2011)، الذي نشر رسالة إلى الرئيس بشكل إبداعي، قبل أن تصدر لاحقاً في كتابه «سيدي الرئيس»، وعلل فيها أسباب ثورة أكتوبر 88 كنتيجة حتمية لقمع الرأي، فبات موقف حميد سكيف مثل جزيرة معزولة، في بلد تعود فيه المثقف على كتم نقده للنظام طلباً للمكاسب، فقد ترسخت ثقافة في الجزائر أن المثقف الناجح هو مثقف مُهادن، يرى ويسمع لكن لا يتكلم، المثقف الجزائري يحلم بالثورة، فإن حلت، تبرأ منها.
٭ كاتب من الجزائر