غصّة لبيروت، وأخرى لدمشق وعواصم أخرى، وغصّات للقدس، مثل حبل نار، أو مثل جنون، أو مثل راكب ريح، أو مثل من يَعوي ولا يجد طبيبًا؛ فالطبيب مسافر إلى البعيد!
مدهشة هي بيروت قبل الانفجار، لكنّها بعده صارت "مدينة تقف في أقصى الجنون والدهشة" كما وصفها درويش، ولكن عندما تلتقي عيناك هناك بعيون جمّرها الدمع الغزير حتى فاض أنهارًا، تتدفّق النار من وجوه أمهات وشقيقات وزوجات حبيبات؛ فتلسعك ألسنة اللهب الغاضب، الخوف، الشوق، البقاء، الموت، الانتظار المريع، صديد المدى، والنهار الأسود..
عند ذوي المفقودين تتساوى الحياة والموت؛ وربّما يتقدّم الموت خطوات؛ فكلّما سابقوه خطوات اقترب منهم أكثر؛ طوّقهم، حضنهم، وأتاهم من تحتهم ومن فوقهم ومن كل اتجاه.. فهل من سبيل للهروب أو للنجاة؟! هنا تبرز الحياة كأنّها استثناء،.. فتصبح بيروت كأنها تعيش نصف حياة، ونصف موت، أو نصف النصف "لا تحيا ولا تموت"، كما عبّر درويش. أو أنها "..وراء حائط تحيا، وراء حائط تموت"، كما كتب الشاعر معين بسيسو.
تحضن بيروت الجميع، كما تحضن الأم أبناءها؛ الشقي منهم والسعيد، الغني والفقير، السّاجد لله والكافر به، المُحبُّ للحياة وسارقها مع قوت الفقراء والمساكين، تحضن الجميع وتتّكئ على أحزانها، وأفراحها، وتُلقي بثقل همومها في لجج البحر، أو في رغيف خبز.
بيروت ليست "الداون تاون"، أو صبرا وشاتيلا، أو برج البراجنة، أو الطريق الجديدة، أو الضاحية فقط، بيروت اختصار الجرح، والفرح، و"شكل الروح في المرآة"، كما عبّر عن ذلك درويش. وخاطبها معين بسيسو يومًا:
"أيّتها المدينة السحابة الرغيف، لا أنت سنبلة، ولا أنت قنبلة"
فبيروت بين بين؛ فقر وغنى، حزن وفرح، غضب وغضب، وجرح وجرح، روح وروح، وبندقية ثائر وبندقية اللااتجاه. هي امتداد المستحيل، واقتراب الممكن حدّ الابتذال.. هي المخيم والمدينة، الجرح والرسالة.. وفيها كتب ممدوح عدوان:
ماذا عساني أساوي فيك يا بيروت
إن ضاق الحصار
بيروت تلك لحافنا
بيروت كانت فجرنا
"فاستوت في الهموم كالقدس".